خيانة الأمانة كما يدل عليها اسمها هي غدر الفاعل بمن ائتمنه، وعدم الوفاء بالحفاظ على ما عهد به اليه ، فهي تشترك مع السرقة في كون كل منهما يتحقق باختلاس مال منقول مملوك للغير، ولكنها تتميز عنها بأن الاختلاس فيها يتعلق بالأشياء التي سلمت إلى المختلس على وجه الأمانة والاستيداع المؤقت .
وقد عرفها الفصل 547 من القانون الجنائي بقوله ” من اختلس أو بدد بسوء نية اضرارا بالمالك أو واضع اليد أو الحائز، أمتعة أو نقودا أو بضائع أو سندات أو وصولات أو أوراقا من أي نوع تتضمن أو تنشئ التزاما أو ابراء كانت سلمت إليه على أن يردها، أو سلمت إليه لاستعمالها أو استخدامها لغرض معين، يعد خائنا للأمانة ويعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وغرامة من مائتين إلى ألفي درهم.
وإذا كان الضرر الناتج عن الجريمة قليل القيمة، كانت عقوبة الحبس من شهر إلى سنتين والغرامة من مائتين إلى مائتين وخمسين درهما مع عدم الإخلال بتطبيق الظروف المشددة المقررة في الفصلين 549 و 550″.
ويتبين من هذا النص أن أركان أو عناصر جريمة خيانة الأمانة هي : “فعل مادي” يتكون من تسلم المنقول على وجه الأمانة ثم اختلاسه أو تبديده، و “محل الجريمة” وهو منقول مملوك للغير، و “ضرر” يلحق صاحب المنقول المختلس أو المبدد، و “قصد جنائي”.
أولا – الفعل المادي في جريمة خيانة الأمانة :
الفعل المادي في جريمة خيانة الأمانة يتكون من عنصرين أو تصرفين اثنين هما : تسلم الجاني للمنقول على أساس الأمانة ثم اختلاس هذا المنقول أو تبديده .
1) تسلم المنقول موضوع الجريمة :
تتميز خيانة الأمانة عن السرقة والنصب معا بأن الجاني فيها يتسلم أولا الشيء المنقول ويحوزه حيازة مؤقتة ثم يقوم بتبديده أو اختلاسه، ولبيان التسلم كعنصر في خيانة الأمانة، يتعين الكلام عن مفهومه، ثم عن الصفة التي يتم بها.
أ- مفهوم التسلم :
المفهوم العادي للتسلم هو أخذ الشيء ونقله ماديا من حائزه السابق ووضعه في حيازة المتسلم مثل الاتيان بسيارة أو تلفزة أو ساعة وتسليمها إلى من يقوم باصلاحها في مكان عمله، وتسليم المودع الاشياء المودعة إلى المودع لديه، وحيازة الناقل للأشياء المتفق معه على نقلها، إلى غير ذلك من الحالات التي ينقل فيها الشيء من حائزه السابق ويوضع ماديا بين يدي الحائز الجديد، فيتحقق بذلك التسلم المادي للشيء موضوع التسليم، غير أن التسلم لا يتم دائما وفق صورته العادية هذه فقد يكون رمزيا أو معنويا.
يكون رمزياً عندما يقتصر الأمر على تسلم شيء مادي يرمز إلى حيازة الأشياء المراد تسلمها، وذلك مثل تسلم وصل أو سندات الشحن أو أية ورقة أخرى، تمكن حائزها من تسلم الشيء أو الأشياء المكتوبة فيها، وكذلك تسلم مفتاح مخزن أو محل يعتبر تسلما لما في المخزن أو المحل من المنقولات التي سلم المفتاح بقصد حيازتها.
فإذا بدد متسلم الوصل أو السندات أو اختلس الأشياء المضمنة فيها اعتبر مرتكبا لخيانة الأمانة، ولو لم يتسلم ماديا هذه الأشياء كما إذا باعها لشخص آخر أو لمن توجد تحت يده من غير أن يقوم بحيازتها، مثل أن يسلم إليه الضحية وصلا ليحوز به بضاعة من تاجر، على أساس أن يترك البضاعة لديه وديعة أو يدفعها إلى شخص آخر أو ليقوم بتصنيعها أو اصلاحها أو غير ذلك من الأغراض التي تخوله الحيازة المؤقتة، ولكنه عوضا عن ذلك باع البضاعة لنفس التاجر دون أن يحوزها منه أو باعها للغير وسلمه التوصيل ليأخذها ممن توجد لديه.
أما التسليم المعنوي فيتحقق في الحالات التي يكون فيها الشيء في حيازة خائن الأمانة قبل التسليم، وكل ما في الأمر أنه ينجز على هذا الشيء تصرف قانوني ينقل حيازته حكما إلى الغير، فإذا تركه هذا الغير عند من كان بيده قبل التصرف كان ذلك بمثابة تسليم منه بعد التصرف، مثل من يشتري منقولا ويتركه بيد البائع، أو يقتسم شركاء منقولا بينهم ويبقي أحدهم حظه بعد فرزه في حيازة الشريك الذي كان بيده الشيء قبل القسمة.
فالبائع والشريك الذي احتفظ بنصيب شريكه لم يتسلمها الشيء ماديا بعد البيع والقسمة لأنهما كانا حائزين له من قبل، ولكن البيع نقل حكما حيازة المبيع القانونية إلى المشتري، كما نقلت القسمة حيازة نصيب الشريك إلى مستحقه، وبالتالي يعتبر ابقاء المبيع والنصيب في يد البائع والشريك بمثابة تسليم جديد تتحقق به خيانة الأمانة إذا بدده أو اختلسه من بعد.
وفي جميع صور التسلم الثلاثة لا تتحقق خيانة الأمانة إلا إذا وقع التبديد أو الاختلاس على المنقول المقصود تسليمه، اما الاشياء التي لم يقصد الحائز تسليمها فلا يعتبر تبديدها أو اختلاسها خيانة أمانة ولو وصلت إلى يد المبدد أو المختلس يفعل الحائز نفسه، مثل أن تسلم البسة لتنظيفها أو اصلاحها وتنسى داخلها نقود أو ساعة أو قلم فإذا اختلس ذلك المنظف أو الخياط كان سارقا وليس خائنا الأمانة.
وكذلك من سلم مفتاح مخزن أو دكان لشخص ليأخذ منه منقولا معينا على وجه الاستعارة مثلا أو ليسلمه إلى الغير، إذا أخذ هذا الشخص منقولا آخر وحده أو مع المنقول الذي سلم له من أجله المفتاح يعتبر سارقا بالنسبة للمنقول الذي لم يأذن له صاحب المفتاح بأخذه.
وإذا كان تحديد الأشياء التي انصرف إليها التسليم والتي لم ينصرف إليها لا يثير صعوبة في أكثر الحالات، إلا أنه في حالات أخرى لا تخلو الوقائع من صعوبة التكييف مثل تسليم سيارة لاصلاحها وبداخلها بعض المنقولات، إذ يصعب أحيانا الجزم بما إذا كان صاحب السيارة تركها فيها عن قصد أم نتيجة سهو، وحتى إذا تركها عن قصد فإن ذلك لا يفيد يقينا أنه ائتمن عليها القائم بالاصلاح مثل المنقولات التي تكون في السيارة أثناء سفره.
وعلى كل فإن على القاضي أن يستقصي الوقائع ويفحصها بعناية كي يتأتى له اعطاء التكييف الصحيح لها، سيما وأن العقوبة تتفاوت كثيرا بين السرقة وخيانة الأمانة.
ونشير أخيرا إلى أن التسليم ليس ضروريا أن يصدر من المالك، وانما قد يصدر من أي شخص آخر كالناقل والمكتري والصانع ، والتابع والمستعير والمودع لديه وغير هؤلاء .
ب- صفة التسلم :
ليس كل من تسلم منقولا ثم بدده أو اختلسه يتابع بخيانة الأمانة وانما يشترط في هذا التسلم أن تنتقل معه الحيازة المؤقتة للشيء حتى يتحقق به اعتبار يد المتسلم يد أمانة.
وقد كان القانون الفرنسي الصادر عام 1791 يقصر خيانة الأمانة على حالة تبديد أو اختلاس المنقول الذي تم تسلمه بمقتضى عقد الوديعة، ثم في عدة تعديلات لاحقة اضاف عقود الوكالة والرهن وعارية الاستعمال، والكراء، والعمل بأجر أو بدون أجر، وبذلك حصر خيانة الأمانة في تبديد أو اختلاس الأشياء التي سلمت للجاني بمقتضى أحد هذه العقود الستة وذلك على سبيل الحصر بحيث إذا وقع التسليم بغيرها لم تتحقق خيانة الأمانة.
وقد حذت حذو القانون الفرنسي بعض القوانين المقارنة مثل القانون المصري الذي ينص في المادة 341 على نفس العقود الستة الواردة في م 408 الفرنسية، أما القانون المغربي فقد تأثر بقوانين مقارنة أخرى فلم يشترط أن يكون تسلم الشيء بعقود معينة، وانما فرض فقط أن يكون التسليم يخول المتسلم حيازة مؤقتة حيث يتسلم الشيء ليرده أو ليستعمله أو يستخدمه لغرض معين سواء تم ذلك بأحد العقود الستة المنصوص عليها في القانون الفرنسي أو بأي عقد آخر مسمى أو غير مسمى، بل حتى ولو لم يتوفر في واقعة التسليم عناصر العقد بمفهومه المدني، ولو أن هذا نادر الحدوث في الوقائع العملية.
ولذلك لا يرى بعض الفقه أي فائدة في البحث حول تكييف الوقائع وما إذا كانت تكون من الناحية المدنية عقد وديعة ، أو عقد عارية أو عقد استصناع أو غيرها من العقود، وما إذا كان العقد المدني الذي تكونه الوقائع صحيحا أو قابلا للابطال أو باطلا ، فهذا يعتبر ضروريا في القوانين التي تشترط في التسليم أن يكون بأحد العقود التي تحددها على سبيل الحصر، وبذلك يدخل تكييف واقعة التسليم من الناحية المدنية ضمن تحديد عناصر الجريمة الذي يتوقف عليه اصدار الحكم بالبراءة أو بالادانة.
أما في ظل القانون المغربي فالقاضي غير ملزم بالتحري عن نوع وطبيعة العقد الذي تم به التسليم وبالأحرى ما إذا كان مستوفيا أو غير مستوف للعناصر التي يشترطها فيه القانون المدني وانما يكفيه أن يبرز في حكمه الوقائع التي تثبت – في حالة الإدانة ان المنقول المختلس أو المبدد سلم للمتهم بقصد رده أو استعماله أو استخدامه لغرض معين، وكل ما قد يورده من تكييف لواقعة التسليم من الناحية المدنية يعتبر تزيداً ليس له أي تأثير على عناصر جريمة خيانة الأمانة.
وإذا كان توافر عناصر العقد المدني في التسليم غير ضروري كما بينا، فإنه على العكس من ذلك يشترط فيه أن يخول المتسلم حيازة مؤقتة على الشيء حتى يتحقق مفهوم خيانة الأمانة، فلا يكفي لقيام الجريمة مجرد التسليم العارض الذي ينقل به الشيء ماديا إلى يد من تسلمه ليرده أو يستعمله لغرض معين دون أن تكون له حيازة مؤقتة عليه .
ومن أمثلة ذلك اعطاء سند الشراء إلى مراقب المشتريات في محل تجاري ليختمه ويرده فيقوم بتمزيقه، وتسليم وثيقة إلى شخص لقراءتها أو تصويرها بين يدي المسلم وارجاعها اليه، ووضع الأواني والأدوات بين أيدي الزبناء لتناول المشروبات أو الطعام في المقاهي والمطاعم، في هذه الحالات وما ماثلها إذا بدد الحائز ما سلم إليه عرضا أو اختلسه لا يكون مرتكبا لجريمة خيانة الأمانة، لأن الشيء لم يسلم إليه لتكون له عليه حيازة مؤقتة.
وتحديد ما إذا كان المتسلم للمنقول ماديا قد انتقلت إليه الحيازة المؤقتة أم لا ، ليس له معيار دقيق لا يحيد عنه ، لأن الوقائع التطبيقية تأبى مثل هذا التحديد الرياضي الجامد.
والقضاء يستعين في اعطاء التكييف السليم للحيازة الناشئة عن التسليم بطبيعة العقد فعقد الرهن الحيازي مثلا وعقد الوديعة تستلزم طبيعتها القانونية أن تكون للمرتهن، والمودع لديه حيازة مؤقتة على المرهون والوديعة .
وإذا تم تسليم المنقول بعقد لا تسلتزم طبيعته الحيازة المؤقتة مثل عقدي العارية والعمل أو الاستصناع ، أو كان التسليم بغير عقد بمفهومه المدني فانه يستأنس في التكييف بالظروف المحيطة بالتسليم وفي مقدمتها طول أو قصر الفترة التي حددت للمتسلم ليرد الشيء أو يستعمله أو يستخدمه لغرض معين، فطول بقاء المنقول بين يديه يفيد عادة انتقال الحيازة المؤقتة إليه، ولكن ليس ذلك أمرا حتميا فالذي يترك سيارته مثلا ولو لفترة وجيزة لصاحب مرآب قصد اصلاحها، قد ينقل إليه حيازتها بينما الذي يستعمل اثاث بيت في فندق لا تنتقل إليه حيازته المؤقتة ولو طال مقامه بهذا البيت.
فعلى القاضي إذن أن يدخل في اعتباره كل الظروف والملابسات المحيطة بتسليم المنقول إلى المتهم وعلى ضوء ذلك يمكنه تحديد نوع الحيازة التي انتقلت إليه هل المؤقتة أو العارضة فقط وهذه السلطة مخولة لقاضي الموضوع، ولا يراقبه فيها قاضي النقض الا من ناحية التعليل وسلامة الاستنتاج.
ومن ناحية أخرى فان الحيازة المؤقتة الناشئة عن التسليم تستفاد من طبيعة العقد ، أو من اتفاق الطرفين الصريح أو الضمني ، وقد تستفاد مباشرة من القانون، فطبيعة العقد مثل عقدي الرهن والوديعة. واتفاق الطرفين المعتمد فيه أساسا قصد من صدر منه التسليم ، بصرف النظر عن قصد المتسلم ، فإذا سلم المالك منقولا لآخر بنية اصلاحه أو اعارته أو كرائه فإن المتسلم لا تنتقل إليه الا الحيازة المؤقتة ولو كان يقصد وقت تسلمه المنقول الاستيلاء عليه نهائيا.
والقانون كذلك قد تستفاد منه الحيازة المؤقتة بصرف النظر عن طبيعة العقد أو اتفاق الطرفين، مثل ما يتلقاه الوكيل أو الشريك أو التائب القانوني للمحجور عليه من أموال الموكل أو المفلس أو المحجور، حتى ولو كان الدافع يجهل صفته فسلم له الشيء على أساس الحيازة التامة كأن يؤدي له ثمن شيء اشتراه منه ولو كان المتسلم كذلك قصد تملك ما تسلمه وقت حلوله بیده، فالتبديد أو الاختلاس الذي يرتكبه الأشخاص السابق ذكرهم في المنقولات التي سلمت اليهم والتي ترجع ملكيتها قانونا إلى من ينوبون عنه يعاقب عليه بخيانة الأمانة أيا كان قصد الطرفين وقت تسليم تلك المنقولات.
2) اختلاس المنقول أو تبديده :
العنصر الثاني في الفعل المادي لجريمة خيانة الأمانة هو اختلاس أو تبديد المنقول الذي سلم اليه ليرده أو ليستعمله أو يستخدمه لغرض معين، وقد اقتصر القانون المغربي على النص على الاختلاس والتبديد ، فما المقصود بهذين اللفظين ؟ وما الحكم إذا اقتصر المعني بالأمر على استعمال المنقول ؟
أ- الاختلاس :
استعمل القانون الجنائي لفظ الاختلاس في السرقة وفي خيانة الأمانة، والمفهوم القانوني لهذا المصطلح واحد في الجريمتين وهو اغتيال مال منقول مملوك للغير وتملكه وحرمان صاحبه منه، ولكن الفعل المادي الذي يقوم به الجاني لانجازه يختلف بين الجريمتين :
ففي جريمة السرقة يتم الاختلاس بالاستيلاء على المنقول ماديا واخراجه من حيازة مالكه أو حائزه، فهو ينجز عادة بنقل الشيء ماديا من المكان الذي وضعه فيه صاحبه إلى المكان الذي يختاره السارق ليتأتي له التصرف فيه كمال من أمواله.
أما في خيانة الأمانة فإن الجاني يكون حائزا للمنقول قبل اختلاسه، لذلك فإن النشاط المادي الذي يقوم به لإنجاز الاختلاس في خيانة الأمانة هو مجرد تحويل حيازته المؤقتة إلى حيازة تامة، أي توجيه نيته إلى تملك المنقول المسلم إليه على وجه الأمانة وحرمان مالكه أو حائزه منه.
وتوجيه الإرادة والنية إلى تملك المنقول الموجود فعلا تحت يد الجاني عمل نفسي داخلي ليس له وجود مادي خارجي، ولكن يستدل عليه بالقرائن الدالة عليه مثل انكار وجود الشيء بين يديه، فيثبت العكس أي تثبت النيابة العامة التسلم الذي انكره، أو تثبت عدم ارجاعه أو عدم استعماله في الغرض الذي سلم إليه من أجله في حالة ادعائه الرد أو استعمال الشيء فيما خصص له.
ومن القرائن كذلك الظهور على المنقول المختلس بمظهر المالك، كبيعه وتصنيعه بقصد تملكه، وادخاله في تشييد بناء، أو غير ذلك مما يبرز نية التملك لدى الفاعل.
ب- التبديد :
ينبغي الاشارة إلى أنه ليس هنالك فرق دقيق في المفهوم القانوني لكل من الاختلاس والتبديد، وان حاول بعض الفقهاء إقامة هذا الفرق على أساس قصر الاختلاس على المنقولات القيمية، والتبديد على المنقولات المثلية، فهذا التمييز لا سند له في واقع الأمر لا من القانون ولا من الدلالة اللغوية للكلمتين.
نعم بالنظر إلى الدلالة اللغوية للفظين يكون استعمال الاختلاس أنسب في حالات اخفاء المنقول ، أو نقله من مكانه المعد للمحافظة عليه ، أو ادخال تغييرات عليه حتى لا يعرف بشكله السابق، أو بيعه … بينما يبدو وصف التبديد أكثر ملاءمة في حالات اتلاف المنقول واهلاكه مثل تمزيقه، أو كسره، أو استهلاكه أو اتلافه بأية وسيلة من وسائل الاتلاف، لأن التبديد يعني في اللغة تفريق الشيء واتلافه.
غير أن هذا المعنى اللغوي لا ضرورة للتقيد به فالمقصود باللفظين معا هو اغتيال الجاني لمال الغير عن طريق تملكه أو اتلافه اضرارا بالمالك الشرعي أو الحائز أو واضع اليد.
بناء على هذا، فإن التبديد اضافه المشرع ليدخل به في جريمة خيانة الأمانة حالات اتلاف المال واهلاكه مراعاة للرأي القائل بأن الاختلاس قاصر على حالات استفادة الجاني من المال الذي استولى عليه كما في السرقة حيث إن اتلاف المال في مكان وجوده لا يسمى سرقة، وينبغي أن نشير في الأخير إلى أن الاختلاس أو التبديد تتحقق به خيانة الأمانة سواء تعلق بجميع المنقول المؤتمن عليه، أو ببعضه أو بأجزاء داخلة في تركيبه.
وهكذا يعتبر مرتكبا لخيانة الأمانة من اختلس بعضا من ثوب تسلمه لخياطته أو من صوف سلمت اليه لنسجها، أو من مواد زراعية أخذها لزراعتها، أو مواد غذائية عهد إليه بالاشراف على استهلاكها… وكذلك من اختلس أداة داخلة في تركيب سيارة أو تلفزة أو ساعة مثلا أو استبدل بها أخرى أقدم منها أو أقل جودة.
ج- الاستعمال :
إذا كان استعمال المنقول المؤتمن عليه يلحق به ضرراً واضحا، فإنه يدخل في التبديد، ويتحقق به بالتالي الركن المادي لخيانة الأمانة، وذلك مثل استعمال بعض الأثوبة الرفيعة التي تتأثر بالاستعمال ولو لفترة قصيرة، واستعمال سيارة أو تلفزة أو أية آلة أخرى لمدة تؤثر على متانة اجزائها وصلاحيتها.
أما إذا كان الاستعمال لا يلحق ضررا ماديا على المنقول، وانما يقتصر على الاستفادة من منافعه، فإن خيانة الأمانة لا تتحقق، لأن القانون ذكر الاختلاس والتبديد وهما ينصرفان يقينا إلى اختلاس أو تبديد رقبة المنقول وجسمه ولا يشملان الاستيلاء على منفعة المنقول متى سلم رقبته سليمة إلى صاحب الحق فيه.
وهذا هو المفهوم التقليدي لخيانة الأمانة أي الاستيلاء على رقبة أموال الغير لا منافعها فقط، وهو المفهوم الذي ما يزال يأخذ به القانون الفرنسي ومنه اقتبس القانون المغربي.
يتبين من هذا أن مجرد استعمال الشخص لفائدته الشخصية المنقول الذي سلم إليه ليرده أو يستعمله أو يستخدمه لغرض معين، لا تتحقق به خيانة الأمانة في ظل القانون المغربي الذي سكت عن قصد عن اضافة الاستعمال إلى الاختلاس والتبديد عكس ما فعلته كثير من القوانين المقارنة.
ومع ذلك فان القضاء يستطيع أن يعاقب على بعض حالات الاستعمال عن طريق التوسع في تفسير مفهوم التبديد كلما تبين له أن الاستعمال ألحق ضررا بالمنقول المستعمل ولو لم يؤثر على صلاحيته بصورة عامة، على أن القضاء مهما توسع في تفسير معنى التبديد، ستبقى هنالك حالات من اساءة استعمال الاشياء المؤتمن عليها يتعذر وصفها بالاختلاس أو بالتبديد من أمثلة ذلك :
تسليم أصل خريطة أو تصميم لتصويره أو طبعه، فيستخرج منه من سلمت إليه نظائر أخرى لاستعماله الشخصي أو لبيعها، وتسليم لوحة فنية لاصلاح اطارها مثلا فيقوم من سلمت إليه باستخراج نسخة أو نسخ منها، وقيام صاحب المطبعة بطبع كمية أكبر من العدد المتفق على طبعه مع مؤلف الكتاب أو ناشره بقصد بيع النسخ الزائدة لفائدته الخاصة، وقيام من عهد إليه بتحميض فلم باستخراج نسخة أو نسخ منه لاستعماله الشخصي أو لهدف تجاري، وتسجيل الأفلام أو الأغاني التي تسلم مع الفيديو أو السجالة المطلوب اصلاحها.
في مثل هذه الحالات لا نجد العنصر المادي لخيانة الأمانة متوفراً، فمجرد نسخ محتوى المنقول أو تصويره أو تسجيله، يتعذر اعتباره اختلاسا أو تبديدا له، وهذا ما يتطلب تدخلا تشريعيا لتوسيع نطاق خيانة الأمانة، حتى تشمل حالات اساءة الاستعمال المتسمة بالخطورة كتلك التي ذكرناها منذ قليل.
ثانيا – محل الجريمة (منقول مملوك للغير) :
العنصر الثاني في خيانة الأمانة هو أن يتعلق الاختلاس أو التبديد بمنقول مملوك للغير، فخيانة الأمانة مثل السرقة لا ترتكبان إلا على المنقولات دون العقارات أو الحقوق المعنوية المجردة، وقد سبق الكلام على مفهوم المنقول عند تحليل عناصر السرقة فلا حاجة إلى التكرار (شاهد المقال)
مع ذلك تنبعي الإشارة إلى أن المشرع بالنسبة للسرقة (ف 505) اكتفى بالتعبير بلفظ (منقول) دون أي تقييد أو تحديد، بينما في خيانة الأمانة (ف 547) أورد عدة ألفاظ حيث قال “من اختلس أو بدد بسوء نية … أمتعة أو نقودا، أو بضائع، أو سندات أو وصولات أو أوراقا من أي نوع تتضمن أو تنشئ التزاما أو ابراء….”
فهل تشمل هذه الأشياء التي عددها الفصل 547 جميع المنقولات ؟ من المؤكد أنها تشمل جميع المنقولات ذات القيمة المالية ، فهذه لا تخرج عن الأمتعة والبضائع والأوراق المتضمنة لالتزام أو ابراء، ولكن هل تشمل كذلك المنقولات ذات القيمة المعنوية مثل الصور والرسائل والمذكرات الشخصية أو العائلية ؟
يمكن أن يثار جدل جدي في الموضوع سيما مع تقييد النص للأوراق بأن تكون متضمنة أو منشئة لالتزام أو ابراء، لكن مع ذلك يميل معضم الفقه إلى القول بأن اختلاس أو تبديد المنقولات ذات القيمة المعنوية تتحقق به خيانة الأمانة، فهذه أولى بالحماية الجنائية من كثير من حالات اختلاس أو تبديد الأشياء ذات القيمة النقدية، ذلك أن كلمة أمتعة ينبغي تفسيرها بكل منقول يتملك كانت له قيمة نقدية أو معنوية فقط .
وأخيراً فإن من الضروري أن يكون المنقول مملوكا للغير، لأن الائتمان أو الحيازة المؤقتة تتحقق بالنسبة لأموال الغير، أما المالك فتكون حيازته تامة لا مؤقتة، وذلك مع الاشارة إلى أن المشرع عاقب بنصوص خاصة (ف 524 و 525) من يبدد أو يتلف ماله المرهون أو المحجوز عليه واحتفظ له بحراسته.
ثالثا – الضرر :
اشترط الفصل 547 للعقاب على خيانة الأمانة أن يتم الاختلاس أو التبديد اضرارا بالمالك، أو واضع اليد أو الحائز، لكن ماذا يعني اشتراط الضرر كعنصر مستقل زائد على الفعل المادي وهو الاختلاس أو التبديد ؟
ان المعنى الواضح لذلك هو أن الجريمة لا تتحقق ولو اختلس أو بدد الفاعل بسوء نية المنقول المؤتمن عليه والمملوك للغير إلا إذا تضرر من فعله هذا مالك المنقول أو حائزه، وهذا يفضي بنا إلى تساؤل آخر وهو هل يمكن أن يختلس أو يبدد ملك الغير دون أن يتضرر من ذلك هذا الغير؟
ان الجواب على هذا التساؤل يرتبط بماهية الضرر الذي نتحدث عنه، إذا قصدنا به الضرر المحقق والفعلي اللاحق بمالك المنقول أو حائزه، فإنه يمكن أن يحدث الاختلاس أو التبديد دون أن يستلزم ذلك وقوع ضرر فعلي للمالك أو الحائز، كما إذا تصرف المؤتمن في المنقول المثلي تصرفا قانونيا أو ماديا، أو رهنه فإن هذا لا يلحق ضررا فعليا بصاحب المنقول ما دام في امكان الفاعل أن يفتك المرهون أو يعوض ما تصرف فيه بمثله عند حلول الموعد المحدد لرد المنقول أو لاستعماله في الغرض المعين له .
أما إذا قصدنا بالضرر مفهومه العام الذي يشمل الواقع فعلا، والراجح أو المحتمل الوقوع، فإن الضرر إذ ذاك لا يمكن فصله عن الفعل المادي أي الاختلاس أو التبديد، وبالتالي لا تكون هنالك ضرورة لاشتراطه كعنصر، وانما يكفي أن ينجز الفعل المادي ليتحقق الضرر بحكم التبعية مثل جرائم الضرب والجرح والسب والقذف وغيرها من الجرائم التي يعتبر الضرر فيها مندمجا في عنصرها المادي.
يتبين من هذا أنه ينبغي تحديد مفهوم الضرر في خيانة الأمانة قبل تقرير ما إذا كان عنصرا مستقلا يجب اثباته بصورة منفصلة عن اثبات الفعل المادي فيها، أم إن الضرر يعتبر مندمجا في الفعل المادي فيغني عن اثباته اثبات هذا الفعل مع القصد الجنائي، والحقيقة أن الفقه والقضاء كذلك لم يسلكا هذا السبيل الواضح إزاء الضرر في خيانة الأمانة.
فهو نظريا يقول إن الضرر عنصر مستقل في خيانة الأمانة ، وفي نفس الوقت نجده في الوقائع العملية يعتبر الجريمة قائمة ولو كان الضرر احتماليا كما في حالات رهن المنقول أو استهلاكه مثلا ولو لم يحن بعد الوقت المتفق عليه لرد المنقول وذلك لاحتمال عجز الراهن أو المستهلك من افتكاك المرهون أو توفير المنقول المستهلك عند حلول وقت الرد، مع أنه عندما نقول بهذا المفهوم للضرر، لا نجد مبرراً لاعتباره عنصرا مستقلا في الجريمة، لأنه يكون دائما مندمجا في الفعل المادي واثبات هذا الفعل يغني عن اثبات مستقل للضرر.
ولعل الذي أوقع الفقه في عدم الدقة هذه هو تفاوت واختلاف الوقائع العملية للاختلاس والتبديد في مدى وقوة امكانية تحقق الضرر بها، فمثلا من أودع لديه مبلغ من النقود عندما يتصرف فيه لفائدته الخاصة قد يعتمد في تعويضه لمن أودعه لديه على رصيده الموجود فعلا في حسابه بالبنك أو على ثمن بضاعة عرضها للبيع، أو ثمن عقار يريد بيعه، أو على مجرد يساره المحتمل أو اقتراض المبلغ من الغير.
ان التفاوت يبدو واضحا بين هذه الفروض بالنسبة للعلاقة القائمة بين الاختلاس أو التبديد، وبين الضرر الذي يلحق الضحية، ففي حالتي وجود رصيد قائم في البنك، أو بضاعة معروضة فعلا للبيع يبدو احتمال الضرر ضعيفا جدا، وعلى العكس في حالتي الاعتماد على مجرد الأمل في اليسار، أو على اقتراض المبلغ من الغير ، فان احتمال الضرر يبدو راجحاً .
اذن في الحالتين الأوليين يبدو من التعسف القول بوجود خيانة الأمانة، والسبيل إلى ذلك من الوجهة القانونية هو اشتراط اثبات الضرر كعنصر مستقل في الجريمة، أما في الحالتين الأخيرتين فتتحقق الجريمة على أساس أن التصرف ذاته في المبلغ يستفاد منه الضرر ولو على سبيل الاحتمال لأن الضرر المحتمل كاف لقيام خيانة الأمانة.
والخلاصة أن الفقه في تعليقاته والقضاء في أحكامه يعترفان بأن الضرر الاحتمالي كاف لقيام خيانة الأمانة ، وفي نفس الوقت يقولان إن الضرر عنصر مستقل ويتعين اثباته بهذه الصفة ولا يعني عن ذلك اثبات واقعة الاختلاس أو التبديد، وهذا ما لا يبدو سليما، لأن احتمال الضرر واقعة لا يمكن فصلها عن واقعة الاختلاس أو التبديد، وفي جميع الجرائم التي يكون الضرر فيها مستخلصا من الفعل المادي بحكم التلازم الذي بينهما، لا يعتبر الضرر فيها عنصرا مستقلا وانما يندمج في العنصر المادى.
ونشير أخيرا إلى أن النص سوى بين الإضرار بمالك المنقول أو بحائزه أو واضع اليد عليه كما إذا تلقاه الجاني من المرتهن أو المكتري أو المودع لديه أو الناقل أو غير هؤلاء ممن تكون لهم على المنقول حيازة مؤقتة أو مجرد يد عارضة، كما يستوي أن يكون الضرر ماديا يتمثل في قيمة الأشياء التي لها قيمة نقدية، أو يكون الضرر معنويا، وذلك في الحالات التي يكون فيها المنقول المبدد أو المختلس ذا قيمة معنوية كالصور والوثائق الشخصية أو العائلية.
رابعا – القصد الجنائي في جريمة خيانة الأمانة :
خيانة الأمانة جريمة عمدية لذلك يعتبر القصد الجنائي أحد عناصرها التي لا قيام لها بدونها، لكن بماذا يتحقق القصد الجنائي ؟ وبماذا يثبت ؟
1) ماهية القصد الجنائي :
القصد الجنائي المطلوب في خيانة الأمانة هو القصد العام وهو توجيه الجاني نشاطه الارادي إلى تنفيذ الواقعة الاجرامية مع العلم بحقيقتها من الناحية الواقعية، والواقعة الاجرامية هنا هي تبديد أو اختلاس المنقول المؤتمن عليه والعلم بحقيقتها يعني ادراك الفاعل عند قيامه بعملية الاختلاس أو التبديد بأنه يفعل ذلك في منقول مملوك للغير ومؤتمن عليه وانه لا مبرر يخوله حق التصرف فيه أو الامتناع عن رده.
فلا يتحقق القصد الجنائي إذا أنجز التبديد دون ادراك أو اختيار كما إذا مزق الوثيقة المؤتمن عليها أو احرقها ضمن أوراق مهملة دون أن ينتبه إليها، أو اكره على تمزيقها أو احراقها.
ويتخلف القصد الجنائي كذلك إذا ارتكب واقعة التبديد عن اختيار وادراك، ولكن مع جهل أو غلط بحقيقة الفعل الذي قام به كما إذا اعتقد عن غلط أو خطأ عند التصرف في المنقول أنه ملكه أو أنه سلم إليه بصفة نهائية لا مؤقتة، أو أن من سلمه إليه أذن له في التصرف فيه ، أو وجد مبرر مشروع لهذا التصرف كالخوف من تلفه أو ضياعه فيبيعه ويحتفظ بثمنه.
يتضح من هذا أن القصد الجنائي في خيانة الأمانة يتحقق بقيام الفاعل باختلاس أو تبديد منقول عن ادراك واختيار مع علمه بأن هذا المنقول مملوك للغير وانه سلم اليه مؤقتا ليرده أو يستعمله أو يستخدمه لغرض معين، دون أن يكون له حق التصرف فيه، وهذا ما يعبر عنه بالقصد الجنائي العام.
ولا يتطلب الأمر فوق ذلك وجود قصد خاص وهو نية التملك الذي يقول به كثير من الفقهاء ، كما أنه لا مبرر لادماج نية الاضرار في القصد الجنائي واشتراط توافر هذه لدى المختلس أو المبدد، فبالنسبة لنية التملك لا تجدها متوافرة في كثير من الوقائع التي يتعذر نفي خيانة الأمانة فيها مثل تمزيق المنقول أو تكسيره أو احراقه أو ما إلى ذلك من وسائل الاتلاف، وكذلك استهلاك الشيء أو التصرف فيه بنية رده عند الميسرة، فنية التملك في هذه الحالات غير موجودة، ومع ذلك تقوم الجريمة.
ولا يبدو مقبولا ما يقول به المناصرون لاشتراط نية التملك من أن هذه النية تتحقق بتصرف الأمين في الشيء المؤتمن عليه تصرف المالك والظهور عليه بمظهر صاحب حق الملكية، لأن نية التملك عمل ارادي مستقل لا يستلزم وجوده مجرد التصرف المادي في الشيء باختلاسه أو تبديده، صحيح أن ذلك التصرف يعتبر قرينة على نية التملك ولكنها قرينة قابلة لاثبات العكس، ويبدو غير مقنع القول بأن كل من اتلف شيئا أو تصرف فيه، لا يفعل ذلك الا بعد أن تكون لديه نية التملك، والحال أن الاتلاف نتيجة للرغبة عن الملكية وليس نتيجة للرغبة فيها.
وحتى لو سلمنا جدلا بأن الظهور بمظهر المالك يستلزم وجود نية التملك فانه لا تكون هناك فائدة عملية من اعتبار نية التملك عنصراً مستقلا في الجريمة فما دامت هذه النية تستخلص حتميا من الظهور بمظهر المالك أي من واقعة الاختلاس أو التبديد بحكم التلازم الذي بينهما ، فانه يكون من التفريع الذي لا مبرر له اعتبار نية التملك عنصرا معنويا مستقلا في خيانة الأمانة والحال أنه مندمج في عنصرها المادي وداخل فيه.
أما بالنسبة لنية الاضرار بالمالك أو الحائز أو واضع اليد فانها ليست شرطا كذلك لتحقق القصد الجنائي في خيانة الأمانة، ان العبرة بالضرر الفعلي اللاحق بالمالك ومن في حكمه وليس بما يقصد المختلس أو المبدد كما يتضح ذلك من المثال التالي :
لو أودع شخص أو أعار لأحد أصدقائه أو أقاربه فلما خليعا أو كتابا يتضمن نظريات فلسفية أو مبادئ عقائدية اعتبرها هذا الصديق أو القريب هدامة وخطيرة على عقيدة قارئها ، فقام باتلاف الفلم أو الكتاب تفاديا لتأثيره على السلوك الاخلاقي لصاحبه، أو على عقيدته الدينية أو السياسية، ان المودع لديه أو المستعير في هذا المثال لم يقصد باتلاف الفلم أو الكتاب الاضرار بصديقه أو قريبه المودع أو المعير، وانما على العكس من ذلك قصد بذلك نفعه وخدمته ومع ذلك فان خيانة الأمانة تبدو واضحة في تصرفه.
وربما احتج المناصرون لاشتراط نية الاضرار بحالات تصرف الأمين في الشيء تفاديا لتلفه أو ضياعه مثلا حيث تنعدم الجريمة لانتفاء نية الاضرار لدى المتصرف، لكن من الواضح أن عدم قيام خيانة الأمانة هنا ليس راجعا إلى انتفاء نية الاضرار وانما إلى انتفاء القصد الجنائي بالمفهوم الذي حددناه من قبل، وهو انجاز الاختلاس أو التبديد مع العلم بأن المنقول ملك للغير لاحق له في التصرف فيه.
وفي حالة الخوف على المنقول من التلف أو الضياع يسمح القانون للحائز المؤقت بالتصرف حفاظا على مصالح المالك أو الحائز، بل ان هذا ما يفرضه التضامن الاجتماعي ، والتصرف الذي يسمح به القانون ينتفي فيه القصد الجنائي، إذ يصبح اذن القانون سببا للاباحة.
2) اثبات القصد الجنائي :
القصد الجنائي كغيره من عناصر جريمة خيانة الأمانة يتعين على النيابة العامة اثباتها، ولكن بماذا تثبته النيابة ؟
لا تلزم النيابة العامة باثبات مباشر للقصد الجنائي ، وإنما يكفي أن تثبته بالقرائن التي في مقدمتها العنصر المادي للجريمة كما سبق بيانه وهو تسلم الشيء لرده أو استعماله لغرض معين ثم اختلاسه أو تبديده ، فثبوت هذه الوقائع يشكل قرينة على وجود القصد الجنائي لأن الأصل في تصرفات الفرد أن تصدر منه بارادة واختيار وعن وعي وادراك لحقيقة الأفعال التي يقوم بها .
يتبين من هذا أن القصد الجنائي المعبر عنه في القانون بسوء النية ليس مفترضا ، لأن الادانة الجنائية لا تقوم على الافتراض والتقدير وانما يتعين أن تثبت جميع عناصر الجريمة المتعلقة بها أمام القضاء ثبوتا قانونيا لا مجال فيه للفرض والتخمين.
فالقصد الجنائي في خيانة الأمانة كما في جميع الجرائم الأخرى وبدون استثناء لا يفترض وانما يجب اثباته ، كل ما في الأمر انه يثبت بالقرينة التي هي وقائع الركن المادي، فاثبات هذه الوقائع يشكل اثباتا مباشرا للركن المادي، واثباتا غير مباشر للركن المعنوي. وهذه القرينة التي يثبت بها القصد الجنائي قابلة لاثبات العكس لذلك يحق للمتهم أن يهدمها باثبات عدم توافر القصد الجنائي لديه، وما لم يقم بهذا الاثبات المعاكس يبقى القصد الجنائي قائما وثابتا بالقرينة التي اثبته بها النيابة العامة.