أولا – تعريف التجارة :
عرفت التجارة بأنها الوساطة في تداول وتوزيع الخيرات وعمليات الإنتاج الصناعي والصفقات المالية، ويعد تجاريا كذلك كل عمل يساعد على إنجاز وتسهيل القيام بهذه العمليات كأعمال النقل. والتجارة هي ممارسةالبيع والشراء بقصد الحصول على الربح، وهي مهنة شريفة لها أثرها وفاعليتها في حياة المجتمع، ومن أهم الحرفزالتي يقوم عليها نظام الكون وحياة الناس.
قال الله تعالى في سورة النساء الآية 29 “يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم” وسئل الرسول صلى الله عليه وسلم، أي الكسب أطيب ؟ قال: عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور.
ثانيا – تعريف القانون التجاري :
القانون التجاري فرع من فروع القانون الخاص، وهو يتضمن وفق ما ذهب إليه المشرع المغربي القواعد المتعلقة بالأعمال التجارية والتجار، فقد جاء في المادة الأولى من مدونة التجارة ما يأتي ” ينظم هذا القانون القواعد المتعلقة بالأعمال التجاية والتجار.
ويعتبر القانون التجاري شريعة خاصة، إذ خرج من رحم القانون المدني الذي يعتبر القانون الأم والشريعة العامة التي تنظم جميع أنشطة الأفراد بغض النظر عن صفاتهم وطبيعة الأعمال التي يمارسونها.
ثالثا – نشأة القانون التجاري وتطوره :
القانون التجاري كغيره من القوانين مر في نشأته وتطوره بمراحل تاريخية، وسنتناول في هذه الفقرة أهم تمظهرات هذه النشأة والتطور على المستوى الدولي، وعلى المستوى الوطني.
1) نشأة وتطور القانون التجاري على المستوى الدولي :
يمكن التمييز بين ثلاث مراحل في حياة القانون التجاري، “مرحلة العصر القديم؛ مرحلة العصر الوسيط؛ مرحلة العصر الحديث”.
– مرحلة العصر القديم :
يقصد بالعصر القديم عصر الحضارات الغابرة وزمن شعوب عاشت على الفن والهندسة، واهتمت بالملكية العقارية والفلاحية أكثر من اهتمامها بالتجارة، بل أن بعض هذه الشعوب ترك أمر التجارة للأجانب والرقيق والعبيد واليهود على أساس أن التجارة عمل لا يناسب مهام الأحرار، وينزل من مكانتهم ويحط من قدرهم وشرفهم، كالمصريين القدماء والرومان.
ولا يعني هذا القول أبدا أن هذه الشعوب لم تتاجر نهائيا، أو لم تعرف قانونا أو عرفا أو عملا تجاريا، وكل ما في الأمر، أن التجارة كانت تحتل عندها مراكز ثانوية إذا قيست بمدى تعلقها بالعقار والفلاحة والفن والهندسة، ولقد كان اهتمام أهل بابل بالتجارة كبيرا بالنسبة لعصرهم و تردد صدى هذا الاهتمام في القواعد التجارية التي دونها حمو رابي في القانون الذي عرف باسمه، سواء ما تعلق منها بالشركة أو القرض أو غيرهما من الأعمال وعن هؤلاء البابليين انتقلت التجارة إلى الفينيقيين الذين ارتبط اسمهم بالبحر ومغامراته، وببعض التنظيمات البحرية التي كانت أساسا لنشأة كثير من قواعد التجارة البحرية المعروفة في الوقت الحاضر.
وازدهرت الحركة التجارية نسبيا عند الإغريق، الذين لم يخل عهدهم من تنظيمات قانونية مفيدة تتعلق بالقواعد البحرية وبالعمليات المصرفية والقروض، وقد ظهرت في هذه المرحلة مجموعة من الظواهر، والقوانين من قبيل قانون حمو رابي في عهد البابليين، ويحتوي على العديد من العقود مثل عقد القرض بفائدة، وعقد الشركة وعقد الوكالة بالعمولة، كما برز إلى الوجود قانون بوخريس الذي يمنع الربا الذي كان سائدا في المجتمع، كما اهتم الفنيقيون بالتجارة البحرية، وقوانينها.
أما الإسلام فتدل نصوص القرآن والسنة على الأهمية التي أولاها للتجارة، وحث الناس على احترافها، قال الله تعالى ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنِ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوه وَليَكْتُب بيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ… إلا أن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا، وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ، وَلَا يُضَارُ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ، وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ، وَاتَّقُوا الله، وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ”، واشتهر العرب أيضا بالتجارة، وكانوا ينضمون في سبيل ذلك رحلات تجارية، إلى مختلف بقاع العالم.
– مرحلة العصر الوسيط :
يعد هذا العصر عصر الحروب والاضطرابات والفوضى السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهي ظروف تسببت في تمزيق الامبراطورية الرومانية إلى دويلات صغيرة وكان من نتائج كل ذلك استقلال المدن الكبيرة بتدبير شؤونها السياسية والتجارية كمدينة فلورنسا وجنوة والبندقية.
تميز هذا العصر بظهور طبقة التجار التي كونت لها طوائف قوية لم تلبث أن سيطرت على دفة الحكم – مباشرة أو بطريقة غير مباشرة – وأصبح كبار التجار رجالا للسياسة، وبذلك تيسرت السبل للاهتمام بالتجارة والقوانين التجارية، وبدأت طوائف التجار هذه تعمل، إلى جانب الدفاع عن مصالحها الخاصة على تدوين القوانين وتضعها في لوائح خاصة وتجميع المبادئ والعادات والتقاليد المتعارف عليها التي تكون منها على مر الزمن ما يعرف بقانون التجارة، وتنشئ المحاكم والمجالس التجارية، وتنتخب المشرفين والرؤساء، وتعين الحكماء أو ماكان يعرف بقنصل البر وقنصل البحر.
ولا يخفى على الباحثين في هذا العصر أن الفضل يرجع للمسلمين والعرب في الاهتداء إلى كثير من النظم القانونية الحديثة التي نأخذ بها اليوم كنظام الإفلاس والسفتجة والشيك – عند بعض الباحثين – وشركة المضاربة أو التوصية ونظرية المضاربة – المعيار المميز للأعمال التجارية عن الأعمال المدنية – ونظام حرية الإثبات في المواد التجارية الذي قرره القرآن الكريم في سورة البقرة قبل أن تتعرف عليه القوانين الأوروبية وغير الأوروبية بقرون عديدة.
عرف هذا العصر تطورا ملموسا على المستوى التجاري حيث ظهرت قواعد تجارية سميت بقانون الأسواق، من قبيل نظام الإفلاس، والتعامل بالكمبيالة كما ظهرت خلال هذه الحقبة أسواق مالية في مدن أوروبية، مثل ليون بفرنسا وفرنكفورت بألمانيا.
– مرحلة العصر الحديث :
يمتد هذا العصر إلى القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين أو بداية الألفية الثالثة، إنه بحق عصر النهضة والتوسع التجاري واستقلال قانون التجارة عن القوانين المدنية.
تميز هذا العهد باضمحلال المدن الإيطالية وفتح العثمانيين للقسطنطينية، واكتشاف القارة الجديدة أمريكا ورأس المواصلات طريق الرجاء الصالح، وتدفق الذهب والفضة على الدول البحرية الكبرى في ذلك الوقت كانجلترا والبرتغال واسبانيا وفرنسا وهولندا، وظهور المصارف الكبرى – التي غالبا ما سيطر عليها اليهود بسبب موقف الإسلام والكنيسة من الربا والقرض بفائدة – واستعمال الأوراق النقدية، وانتشار التعامل بالأوراق التجارية، ونشأة وتكوين شركات المساهمة محور النشاط التجاري والصناعي والخدماتي وانتقال محور الثروة من العقار والفلاحة إلى الصناعة والتجارة.
أصدر الملك لويس 14 في فرنسا خلال سنة 1637، وسنة 1682 قانونين يتعلقان بالتجارة، ثم بعدها صدر قانون شابيلي سنة 1791 الذي ركز على مبدأ حرية التجارة والصناعة، ويعتبر القانون التجاري الفرنسي الموضوع سنة 1807 أهم تشريع تجاري صدر خلال هذه الفترة، ويمكن القول بأن القانون التجاري قد بدأ تدوينه خلال هذا العصر.
2) أهم المراحل التي مر بها القانون التجاري على المستوى الوطني :
يميز فقهاء القانون بين ثلاث مراحل في حياة القانون التجاري المغربي “مرحلة ما قبل الحماية؛ مرحلة الحماية؛ ومرحلة الاستقلال”.
– حال التجارة في فترة ما قبل الحماية :
عرف المغرب خلال هذه المرحلة بعض المبادلات التجارية المحدودة، سواء مع أوربا، أو مع بلدان إفريقيا، عبر القوافل التجارية، وكان المغاربة يحتكمون لفض نزاعاتهم إلى الفقه الإسلامي، الذي تضمن العديد من القواعد التي تنظم المعاملات التجارية، كتحريم الربا، ومنع الاحتكار، ونظام الحسبة، وشركات المضاربة والمغارسة، ونظام الإفلاس، وحرية الإثبات…
– أهم الإصلاحات التجارية التي شهدتها مرحلة الحماية :
هي مرحلة دامت 44 سنة – من 1912 إلى 1956 – من تاريخ المغرب، تطور خلالها مفهوم الاقتصاد والتجارة والقانون التجاري، وأهم ما ميز هذه المرحلة هو ” جعلت الحماية من الاقتصاد المغربي اقتصادا رأسماليا تبعيا، يرتبط بالمصالح الاستعمارية لفرنسا وإسبانيا، ويحقق أهدافهما الاستراتيجية في الأمن والدفاع والغذاء والبحث عن الأسواق لتصريف المنتوجات وضمان المصادر الأمنية للمواد الأولية؛ تحكمت سلطات الحماية في التجارة الداخلية والخارجية، وعملت على توجيهها توجيها يخدم مصالحها التجارية والسياسية والاقتصادية والعسكرية؛
قيام سلطات الحماية الفرنسية بإصلاحات إدارية وقضائية واقتصادية وتجارية ومالية وثقافية تخدم الأهداف السابقة وتؤمنها، نذكر منها: الأخذ بنظام الحرية التجارية المعلن عنه في فرنسا بقانون 2 و 17 مارس 1791 وسياسة الباب المفتوح وفق معاهدة الجزيرة الخضراء، و إنشاء المصارف والتشجيع على إنشائها لخدمة الرأسمالية الأجنبية كبنك باريس والبلدان المنخفضة والقرض العقاري الفرنسي وغيرهما، فرنسة التعليم والمناهج وتدريس الحضارة الأوروبية الغربية، بدأ عهد التقنين والتنظيم لأوجه النشاط التجاري والصناعي.
فأهم ما ميز هذه المرحلة هو بسط سلطات الحماية لنفوذها على قطاع التجارة، تحقيقا لمطامعها الاستعمارية، فأقدمت سلطات الحماية على تشييد بنية تحتية تسعفها على استغلال ثروات البلاد فقامت ببناء المطارات والموانئ والسكك الحديدية والطرق ليتيسر لها نقل الثروة المعدنية المحلية، وتصديرها إلى الخارج.
كما شرعت سلطات الحماية في تنظيم المعاملات المالية والتجارية، فأصدرت قانون الالتزامات والعقود والقانون التجاري في 12 غشت 1913، وقانون حماية الملكية الصناعية سنة 1916، والقانون البحري سنة 1919، وغيرها من القوانين التي دخل بها المغرب عهد التقنين.
– أهم مستجدات التشريع التجاري في مرحلة الاستقلال :
لم يعمر نظام الحماية طويلا 1912-1956، وتحقق الاستقلال والسيادة بتاريخ 2 مارس 1956، أدخلت في هذا العهد إصلاحات عديدة تهدف إلى القضاء أو التخفيف على الأقل من المشاكل التي تركتها الحماية سواء ما تعلق منها بالتجارة – الخارجية والداخلية – أو بالصناعة أو ما يتصل بهما من طرق ونقل وتجهيز للموانئ، وإنشاء للمصارف، وتدعيم للعملة الوطنية وتنظيم للتسويق وتشجيع للاستثمار والادخار.
وقد توجه المغرب في هذه المرحلة نحو خوصصة مجموعات من القطاعات العمومية، وإبرام اتفاقية الكات، وإنشاء منظمة التجارة العالمية، وتشجيع الاستثمار في القطاع الخاص وإبرام اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي في بعض القطاعات، أما على مستوى القوانين فقد تميزت هذه المرحلة بتطور التشريع المغربي، من خلال صدور العديد من القوانين التي حاولت استيعاب مستجدات المرحلة، مثل مدونة التجارة في سنة 1996، والقانون الخاص بإنشاء المحاكم التجارية سنة 1997، وقانون حماية الملكية الصناعية سنة 2006، وغيرها من القوانين.