أصبح الشيك في الوقت الحاضر وسيلة أداء مهمة تكاد تضاهي الوفاء بالعملة النقدية ذاتها، سيما في المجتمعات المتقدمة ذات الدخل المرتفع، والتي تلعب فيها الشبكة البنكية دور صندوق الادخار والاتفاق، وأهميته هذه ليست قاصرة على التعامل الداخلي وإنما تجاوزت ذلك إلى المجال الدولي نظرا لازدياد حجم التجارة الخارجية، وكثرة تنقل الاشخاص للسياحة أو العمل.
وكل ذلك يتطلب تنقل الأموال والوسيلة المفضلة لهذا التنقل هو الشيك، وهذا ما دعا إلى توقيع اتفاقية دولية عام 1931 لتوحيد النظام القانوني للشيك، وهي الاتفاقية التي اعتمدها المغرب لاصدار ظهير 19 يناير 1939 المنظم للشيك كورقة من الأوراق التجارية.
ولكي يؤدي الشيك دوره في المجال التجاري ، وفي مجال الوفاء في المعاملات اليومية غير التجارية ، كان لابد من وضع مقتضيات جنائية حتى يثق الناس في التعامل به، وينزجر المتلاعبون المحتالون المتظاهرون بمظاهر الثراء وملاك الارصدة في البنوك وهم لا يملكون درهما.
والمشرع المغربي ذهب إلى أبعد من ذلك فلم يقتصر على تجريم اصدار شيك دون رصيد، وانما قرر نفس العقوبة كذلك للمستفيد الذي يقبل شيكا يعلم أنه بدون رصيد كامل، يقبله بشرط الاحتفاظ به إلى وقت لاحق وعدم تقديمه حالا إلى المسحوب عليه. ولذلك فاننا نعرض أولا ” اصدار الشيك دون رصيد” ، وثانيا “قبوله كذلك بدون رصيد أو بشرط الا يصرف فورا”.
أولا – اصدار الشيك دون رصيد :
نص الفصل 543 من القانون الجنائي على أنه ” يعد مصدرا لشيك بدون رصيد من يرتكب بسوء نية أحد الأفعال الآتية:
1 – إصدار شيك ليس له رصيد قائم قابل للتصرف أو له رصيد يقل عن قيمته، وكذلك سحب الرصيد كله أو جزء منه بعد إصدار الشيك، أو إصدار أمر للمسحوب عليه بعدم الدفع.
2 – قبول تسلم شيك صدر في الظروف المشار إليها في الفقرة السابقة.
ويعاقب مرتكب الجريمة بالعقوبة المقررة في الفقرة الأولى من الفصل 540 على أن لا تقل الغرامة عن قيمة الشيك أو قيمة الرصيد الناقص”.
ويؤخذ من نص الفصل 543 أن عناصر الجريمة ثلاثة، وهي ” محل الجريمة وهو الشيك، وفعل مادي، وقصد جنائي” :
1) الشيك “موضوع الجريمة” :
الشيك في القانون التجاري هو سند مكتوب يصدره شخص يسمى الساحب لفائدة شخص آخر هو المستفيد يتضمن أمراً للمسحوب عليه المودع عنده رصيد الساحب بأن يدفع عند الطلب المبلغ المقيد فيه إلى المستفيد أو من ظهر الشيك لفائدته.
وبمقتضى المادة 239 من ظهير 1.96.83 المتعلق بمدونة التجارة فإن الشيك يتعين أن يتضمن ما يلي : تسمية شيك مدرجة في السند ذاته وباللغة المستعملة لتحريره؛ والأمر الناجز بأداء مبلغ معين؛ واسم المسحوب عليه؛ ومكان الوفاء؛ وتاريخ ومكان إنشاء الشيك؛ واسم وتوقيع الساحب، ونصت المادة 241 بأن الشيك لا يسحب إلا على مؤسسة بنكية يكون لديها وقت إنشاء السند نقود للساحب حق التصرف فيها بموجب شيك طبقا لاتفاق صريح أو ضمني.
2) الفعل المادي في جريمة اصدار الشيك دون رصيد :
الفعل المادي في جريمة اصدار الشيك دون رصيد عدده ف 543 و 544 في خمس صور وهي اصدار شيك ليس له رصيد قائم قابل للتصرف، واصدار شيك ليس له رصيد كاف، وسحب الرصيد كله أو جزء منه بعد إصدار الشيك، وأمر للمسحوب عليه بعدم الدفع، واصدار شيك بشرط ألا يصرف فورا.
– اصدار شيك ليس له رصيد قائم قابل للتصرف :
تتحقق هذه الحالة باصدار الشيك من جهة، وانعدام الرصيد القابل للتصرف من جهة ثانية، والاصدار يعني اخراج الساحب للشيك من حيازته القانونية ووضعه تحت تصرف المستفيد أو من ينوب عنه في تسلمه، للتصرف في قيمته بسحبها مباشرة من البنك المسحوب عليه، أو تحويلها إلى الغير عن طريق التظهير للشيك.
ويستوي أن يكون تسليم الشيك بعد كتابة جميع المعلومات المطلوبة فيه، أو اكتفى الساحب بوضع امضائه عليه وترك للمستفيد كتابة باقي الافادات مع الاتفاق طبعا على المبلغ المسحوب به الشيك، وعلى كل يعتبر المبلغ المكتوب هو المتفق عليه والساحب هو الذي يطالب باثبات العكس إذا ادعاه.
وإذا لم يخرج الشيك من الحيازة القانونية للساحب فان الاصدار لا يعتبر قائما حتى ولو خرج عن حيازته المادية كما إذا أرسله عن طريق البريد أو بعثه مع بضاعة بواسطة ناقل، أو مع رسول فما لم يصل إلى المرسل إليه ويوضع تحت حيازته، يعتبر ما يزال في الحيازة القانونية للمرسل، وكذلك إذا سلمه الساحب إلى أحد مستخدميه أو إلى ممثله كالمحامي فإن الاصدار كذلك لا يتم الا بتسليم الشيك إلى المستفيد أو من يمثله.
وإذا سلمه السمسار أو موثق فإن الفعل المادي للجريمة يكون قائما متى تم التسليم بصورة نهائية إذ في هذه الحالة يكون السمسار أو الموثق بمثابة وكيل أو نائب عن المستفيد حتى ولو لم يكن العقد قد تم إبرامه بعد، لأن العقاب على الشيك بدون رصيد يعتبر حماية لتداول الشيك بصرف النظر عن كون المستفيد يملك فعلا قيمة الشيك أو لا يملكها، نعم لا تقوم الجريمة إذا سلم الشيك للسمسار أو الموثق في انتظار ابرام العقد مثلا، لأن الشيك في الواقع لم يخرج من حيازته القانونية.
وغني عن القول أن خروج الشيك من حيازة الساحب القانونية وطرحه في التداول يتعين أن يكون اراديا، أما إذا تم ذلك دون ارادته فلا يتحقق الركن المادي للجريمة كما إذا سرق منه أو ضاع، أو وصل إلى حيازة شخص خطأ أو غلطا.
ان الوقت الذي يعتمد انعدام الرصيد فيه هو وقت اصدار الشيك، لذلك فإن جريمة اصدار الشيك بدون رصيد تتحقق ولو تمكن الساحب من وضع الرصيد في حسابه قبل أن يتقدم المستفيد لتسلم قيمته، وقام فعلا هذا الأخير بصرف الشيك، لأن التجريم يهدف إلى حماية تداول الشيك حتى ولو لم يتضرر المستفيد، ويؤكد ذلك عقاب الساحب في حالة سحب الرصيد أو أمر المسحوب عليه بعدم الدفع بسبب عدم استحقاق المستفيد لقيمة الشيك كما إذا كانت ثمنا لصفقة تجارية لم تتم، فلو كان تضرر المستفيد هو أساس التجريم لما وجد أي مبرر لعقاب الساحب على منع المستفيد من أخذ ما لا يستحقه.
على أنه في الواقع العملي يمكن القول بتعذر اثارة المتابعة الجنائية متى تمكن المستفيد من صرف الشيك بمجرد تقديمه إلى المسحوب عليه، فالنيابة العامة لا تتبع وتبحث عن كل من يصدر شيكا وما يتوفر عليه من رصيد وقت الاصدار، وانما تحرك الدعوى العمومية بعد توصلها بشكاية من المستفيد، ما لم يقم هو بتحريكها مباشرة وهو لا يفعل ذلك إذا توصل بقيمة الشيك.
والفصل 543 يشترط في الرصيد أن يكون قابلا للتصرف لذلك فإن المهم هو الوجود القانوني للرصيد وليس مجرد الوجود المادي، وهكذا تقوم جريمة اصدار شيك دون رصيد ولو كان للساحب وقت الاصدار رصيد دائن في سجلات البنك، ولكنه غير قابل للتصرف فيه قانونا ، كما إذا سبق أن سحب عليه شيكات أخرى، أو كان محجوزا عليه.
وعلى العكس لا تتحقق الجريمة إذا وجد له رصيد قانوني ولو لم يكن موجود ماديا كما إذا فتح له البنك حسابا جاريا دون رصيد، أو تعهد له بأداء ما يسحبه عليه من شيكات ولو كان حسابه غير دائن، ويكفي لانتفاء الجريمة أن يكون الرصيد قابلا للتصرف وقت اصدار الشيك ولو حدث بعد ذلك ما جعل الرصيد غير قابل للتصرف فيه كما إذا اعلن إفلاس الساحب، أو وقع حجز على رصيده، وأخيرا فإن جريمة اصدار شيك دون رصيد تبقى قائمة ولو أدى الساحب مبلغه نقدا للمستفيد احتفظ المستفيد بالشيك أو أرجعه إلى الساحب.
– اصدار شيك ليس له رصيد كاف :
هذه الحالة لا تختلف عن حالة اصدار شيك دون رصيد، فكل الاحكام السالفة الذكر تنطبق، فنكتفي بالاحالة عليها، وكل ما يمكن اضافته هو أن الجريمة تتحقق أيا كانت نسبة النقص في الرصيد، حتى ولو كان بضع سنتيمات، كما أن عقوبة الغرامة في هذه الحالة يمكن أن لاتتجاوز قيمة الرصيد الناقص.
– سحب كل أو بعض الرصيد بعد اصدار الشيك :
سحب الرصيد بعد اصدار الشيك يتم لعدة أسباب، فقد يقوم به الساحب بقصد الاضرار بالمستفيد وحرمانه من حقه، وقد تدفعه إلى ذلك ضائقة مالية خانقة، أو يفعل ذلك بدعوى أن المستفيد أصبح غير مستحق لقيمة الشيك، بناء على خلل لحق الالتزام الذي أصدر الشيك تنفيذا له، وأيا كان السبب الذي تذرع به المستفيد فإن ذلك لا يعفيه من العقاب ولو أثبت صحة ما يدعيه مثلا من بطلان أو فسخ الالتزام الأصلي الذي أسس عليه الشيك، أو أثبت أنه أدى للمستفيد قيمة الشيك نقدا.
فوجود الشيك بين يدي المستفيد يخوله حق استيفاء قيمته من المسحوب عليه كان في الواقع دائنا أو غير دائن للساحب، وهذا قد يبدو مجافيا للعدالة، إذ كيف يعاقب تاجر مثلا على سحب رصيد الشيك الذي سلمه لتاجر الجملة ثمنا لبضاعة رفض هذا الأخير تسليمها له؟ ولكن يبدو أن المشرع فعل ذلك حتى لا يفتح الباب للادعاءات، فكل من سحب الرصيد يستطيع ابداء مبررات ناشئة عن خلل في علاقته الأصلية بالمستفيد، وهو أمر وخيم العواقب على تداول الشيكات كأداة وفاء .
نعم إذا مضت الفترة التي يقبل فيها صرف الشيك من البنك أو مركز الشيكات البريدية وقدم الشيك فعلا إلى المسحوب عليه، ولكنه رفض أداءه لانقضاء الوقت القانوني المحدد لصرف الشيكات فإن سحب الرصيد بعد ذلك لا تتحقق به الجريمة، لأن الشيك الذي أصبح غير قابل لاستيفاء قيمته، يكون قد خرج من التداول، ولم يعد أداة وفاء، والرصيد المسحوب لا وسيلة للمستفيد لسحبه، فلا مبرر لعقاب الساحب، ومن باب أولى في حالة ضياع الشيك أو سرقته، إذ في هذه الحالة ينعدم الاصدار ذاته كما سبق أن رأينا فلا مجال لتحقق مفهوم السحب بعد الاصدار.
ويجري نفس الحكم في حالة حيازة المستفيد للشيك عن طريق النصب شريطة أن تثبت ضده هذه الجريمة طبقا للفصل 540 من القانون الجنائي، فلا يكفي مجرد الادعاء ولا اثبات تدليس مدني لا غير، وبعبارة أخرى يتعين على الساحب المتابع إذا دفع بتسليم الشيك نتيجة نصب أن يحرك الدعوى العمومية ضد المستفيد بجريمة النصب، ما لم تحركها النيابة العامة، فإذا انتهت هذه الدعوى بثبوت النصب حكم ببراءته من جريمة سحب الرصيد بعد اصدار الشيك.
وجريمة سحب الرصيد بعد اصدار الشيك تتحقق إذا تم هذا السحب فعلا سواء أنجزه الساحب مباشرة أو اذن به للغير عن طريق شيك آخر أو سفتجة مثلا، أو أغلق حسابه نهائيا في البنك، ونقل رصيده إلى حساب آخر ولو في نفس البنك، فإذا لم يتم السحب فعلا فلا جريمة، ولا يكفي لقيامها اصدار الأمر بالسحب كما إذا كان للساحب مثلا في حسابه ألف درهم أصدر شيكا بسحبها ثم أصدر شيكا ثانيا بنفس المبلغ أو بأقل منه.
في هذه الحالة وقبل أن يقوم المستفيد من الشيك الثاني بصرفه لا يعتبر الساحب مرتكبا لجريمة سحب الرصيد بعد اصدار الشيك. نعم هو مرتكب لجريمة اصدار شيك ليس له رصيد قائم قابل للتصرف، لأن رصيده استغرقه الشيك الأول، وإذا قام المستفيد من الشيك الثاني باستيفاء قيمته فعلا من البنك المسحوب عليه فإن الساحب يصبح مرتكبا لجريمة سحب الرصيد أو جزء منه بعد اصدار الشيك.
ويثور هنا تساؤل حول تكييف الأفعال التي يتابع بها الساحب، هل يتابع باصدار شيك دون رصيد باعتبارها الجريمة التي تحققت أو لا عند اصدار الشيك الثاني ؟ أو بسحب كل أو بعض الرصيد بعد اصدار الشيك على أساس ان هذا ما تحقق فعلا بعد تقدم حامل الشيك الثاني إلى البنك واستيفاء قيمته؟ أو يتابع بالجريمتين معا باعتبار انهما تحققنا معا وبالتعاقب في تصرف الساحب؟
ان السحب الذي قام به حامل الشيك الثاني هو مجرد تنفيذ للأمر الصادر من الساحب، لذلك لا يصح أن يتابع الساحب على الواقعتين بجريمتين مستقلتين، والا ادى ذلك إلى عقاب الفاعل بعقوبتين على فعل واحد، وهو ما يتعارض والمبادئ العامة للمسؤولية الجنائية، ولا يصح كذلك أن يتابع بجريمة اصدار شيك دون رصيد، لأنه تحقق سحب الرصيد بعد اصدار الشيك الأول والمستفيد لم يتوصل بقيمته، فلا مبرر لحرمانه من حق اثارة المتابعة والمطالبة بالتعويضات التي يخولها اياه القانون، لذا نرى أن يتابع الساحب بجريمة واحدة هي سحب كل أو بعض الرصيد بعد اصدار الشيك.
– أمر المسحوب عليه بعدم اداء قيمة الشيك :
هذه الحالة مثل التي قبلها يصدر فيها الشيك بصورة سليمة، ومتوفرا على رصيده في البنك، ولكن يعمد الساحب فيما بعد إلى اصدار الأمر للبنك بعدم صرف قيمته إلى المستفيد، وهنا كذلك تقوم الجريمة أيا كان السبب الدافع للساحب إلى اصدار الأمر بعدم الدفع ولو كان بطلان الالتزام الذي أصدر الشيك وفاء به، أو اخلال المستفيد بتنفيذ التزامه المقابل كما إذا كان الشيك ثمنا لبضاعة أو وجيبة كراء امتنع المستفيد بعد حيازة الشيك من تنفيذ ما التزم به في العقد، ذلك أن الشيك عرضة للتداول والتنقل من يد إلى أخرى عن طريق التظهير فلا ينبغي أن يفاجأ حامله ويضار بالعلاقة المدنية القائمة بين الساحب وحامله الأول.
وسبق أن أشرنا إلى أنه في حالة الضياع يعتبر الاصدار في الواقع غير قائم، لأن الشيك لم يخرج من الحيازة القانونية للساحب باختياره، وبذلك لا تتحقق جريمة سحب الرصيد أو الأمر بعدم الدفع، لأن الجريمة في الحالين لا تقوم إلا إذا سبق ذلك اصدار شيك بصورة قانونية، ويمكن للساحب كذلك أن يعترض على الدفع إذا سرق منه الشيك أو انتزع منه بوسائل احتيالية مكونة لجريمة النصب شرط أن تثبت هذه الجريمة كما أشرنا سابقا ولا يكفي مجرد ادعاء الاحتيال لتبرير الاعتراض على الدفع.
هذا، وإذا كان مجرد سحب الرصيد بعد اصدار الشيك، أو الاعتراض على الدفع كاف لقيام الجريمة وصدور الحكم بالادانة، فانه على العكس من ذلك بالنسبة لقيمة الشيك التي قد يطالب المستفيد الحكم له بها على المتهم، فقد قررت محكمة النقض سابقا أن القاضي الجنائي إذا قدم إليه طلب أداء قيمة الشيك الذي أصدر دون رصيد يجد نفسه بصفة استثنائية قائما مقام القاضي المدني حيث يعاقب الجريمة المرتكبة بالنظر إلى مجرد واقعة اصدار شيك دون رصيد من غير أية رقابة،
بينما على العكس من ذلك يجب عليه بالنسبة للأداء المطلوب، أن يأخذ في اعتباره الاتفاقات المبرمة بين الطرفين وانه لا يستطيع أن يمنح المستفيد الموضوع اسمه في الشيك القيمة التي يطلبها الا إذا ثبت له سبب للالتزام الذي أصدر الساحب الشيك وفاء له، هذا السبب الذي يكون غالبا دينا قائما وقت الاصدار لمصلحة المستفيد ازاء المتهم، كما يمكن أن يتحقق في التزام تحمل به هذا الأخير تصفية لدين على أحد من الغير.
– اصدار شيك بشرط الا يصرف فورا :
الفصل 544 يقول “من أصدر أو قبل شيكا بشرط ألا يصرف فورا وأن يحتفظ به كضمانة، يعاقب بالعقوبات المقررة في الفقرة الأولى في الفصل 540 على أن لا تقل الغرامة عن قيمة الشيك”.
لذلك فإن هذه الحالة تكون فيها الجريمة دائما من الجانبين “الساحب والمستفيد”، إذ يقدمان معا على اخراج الشيك من طبيعته القانونية، وهي كونه أداة وفاء ويستعملانه بدلا من ذلك وسيلة ائتمان مثل السفتجة والسند لأمر، فالجريمة هنا تتحقق بذات الاتفاق على الشرط حتى ولو كان للساحب وقت اصدار الشيك رصيد كاف لأداء قيمته وبقي هذا الرصيد في البنك إلى الوقت المتفق عليه لتقديم الشيك للوفاء لأن مجرد الاتفاق على استعمال الشيك أداة ائتمان يخل بالنظام العام المتمثل في الوظيفة الوحيدة التي حددها له القانون وهي كونه وسيلة وفاء.
وتتحقق الجريمة أيا كان السبب الدافع إلى اشتراط عدم صرفه فورا، سواء كان انعدام الرصيد لدى الساحب وهذا هو الغالب، أو احتياط الساحب لتنفيذ المستفيد التزامه المقابل، أو عدم استحقاق هذا الأخير لقيمة الشيك في الحال كما إذا اتفق الطرفان على أن الثمن المضمن بالشيك لا يؤدى الا بعد شهر من ابرام العقد، أو بعد أن يقوم البائع بتنفيذ التزامه أو غير ذلك من الأسباب التي تحمل الطرفين على اشتراط الاحتفاظ بالشيك كضمانة.
على أنه إذا كان الساحب غير متوفر على رصيد أو كان له رصيد ناقص وقت اصدار الشيك أو سحبه بعد ذلك فتتحقق أيضا جريمة اصدار شيك دون رصيد أو برصيد ناقص أو سحب الرصيد بعد اصدار الشيك (ف 543) وللنيابة العامة أن تتابع الساحب بأي وصف تريد لأن العقوبة واحدة في كل الحالات.
3) القصد الجنائي في جريمة اصدار الشيك دون رصيد :
اشترط الفصل 543 من ق.ج للعقاب على الجريمة أن يكون الفعل المادي الذي قام به الجاني قد صدر منه بسوء نية، فبماذا يتحقق سوء النية في الأفعال المادية التي وردت في الفصل 543 و 544؟ نعرض تلك الافعال بايجاز لنتبين عناصر سوء النية في كل منها :
– اصدار شيك ليس له رصيد قابل للتصرف ، أو له رصيد غير كاف :
المبدأ المعمول به فقها وقضاء هو أن مجرد تحقق الوقائع المادية من اصدار شيك وانعدام الرصيد أو عدم كفايته، أو كونه غير قابل للتصرف فيه يكون قرينة قانونية كافية على وجود سوء النية، ولا تكلف النيابة العامة بوسائل اثبات أخرى، أي إنها لا تكلف باثبات واقعة علم المتهم عند اصداره الشيك بانعدام رصيده أو عدم كفايته، أو قابليته للتصرف.
ومن الناحية الواقعية لا يخلو وضع مصدر الشيك من الفروض التالية: إما ان يكون عالما بانعدام الرصيد أو بنقصانه أو بعدم قابليته للتصرف وإما أن لا يكون عالما بذلك.
وفي حالة عدم العلم قد يكون ذلك نتيجة اهمال وتقصير، أو نتيجة ظروف تنفي عنه الاهمال والتقصير في عدم علمه بحقيقة وضعية رصيده في البنك. وفي حالة العلم لا جدال في توافر القصد الجنائي، لأن هذا القصد في الجرائم العمدية يتحقق بمجرد توجيه الارادة إلى انجاز الواقعة التي جرمها القانون مع العلم بحقيقتها من الناحية الواقعية، واصدار الشيك مع العلم بانعدام الرصيد أو نقصانه أو عدم قابليته للتصرف تتوفر فيه عناصر القصد السالفة الذكر.
ويبدو أن يلحق بحالة العلم حالة الجهل أو الشك في وجود الرصيد الكافي القابل للتصرف، إذ حتى في هذه الحالة يكون مصدر الشيك مخاطرا، ويتعين أن يتحمل نتائج ذلك، لكن في حالة الاعتقاد بوجود الرصيد الكافي القابل للتصرف يصعب القول بتوافر القصد
سواء كان هذا الاعتقاد الخاطئ نتيجة اهمال وعدم تبصر مصدر الشيك كعدم ضبط حساباته ومراجعتها، واصدار شيك بسحب مبالغ اعتقد خطأ أنها دخلت إلى رصيده الدائن والواقع خلاف ذلك، أو نتيجة ظروف تنفي التقصير وعدم التبصر عن مصدر الشيك، كعدم اعلامه بالحجز الذي أوقع على حسابه، أو يعتمد كشفا برصيده سلمه إليه البنك دون أن يكتشف ما به من خطأ مادي، أو يسحب رصيده أو جزء منه بشيك ضاع أو اختلس منه أو زور عليه وهو لا يعلم بالضياع أو الاختلاس أو التزوير .
والجدير بالذكر أن المتهم هو الذي يكلف باثبات وجود الاعتقاد الخاطئ بصنفيه أي الناتج عن الاهمال والتقصير، والناتج عن ظروف ينتفي معها اهمال وتقصير مصدر الشيك، ذلك أنه كما سبق القول مجرد الوقائع المادية تشكل قرينة على توفر القصد الجنائي وسوء النية فعلى المتهم هدم هذه القرينة المكونة لأحد عناصر الجريمة.
قلنا انه متى ثبت أن المتابع كان يعتقد عند اصدار الشيك وجود الرصيد الكافي القابل للتصرف ينتفي القصد الجنائي ولو كان ذلك نتيجة اهمال أو تقصير صدر منه، ذلك أن اصدار الشيك دون رصيد جريمة عمدية، وليست جريمة خطأ، والعمد لا يتحقق بغير توجيه الإرادة إلى تنفيذ الواقعة الاجرامية مع العلم بحقيقتها أي بعناصرها الوقعية التي يتعلق بها التجريم، ولا يكفي الاهمال أو عدم التبصر، أي الخطأ مهما يكن جسيما لتحقيق العمد بمفهومه القانوني في الجرائم العمدية ، والقانون في ف 543 يشترط “سوء النية” وسوء النية لا يكفي لقيامها الخطأ والاهمال.
وإذا كان ما أسلفناه هو الذي تقضي به القواعد العامة، إلا أنه يجب أن نضيف ان الاعتقاد الخاطئ بوجود الرصيد الذي ينتفي معه القصد الجنائي يتعين على مصدر الشيك اثباته كما سبق، وبما أن الاعتقاد حالة نفسية وشخصية فإنه يصعب على المتهم أن يتوفر على وسائل الاثبات التي تقنع المحكمة بوجود الاعتقاد الذي يدعيه، وهذا ما يفسر ميل الأحكام القضائية إلى اعتبار القصد الجنائي قائما ولا تأبه لادعاء المتهم انعدامه.
وخلاصة القول أن ثبوت واقعة اصدار شيك مع انعدام الرصيد فعلا في الحساب المسحوب عليه، يكون قرينة قانونية على وجود سوء النية أي علم الساحب بانعدام الرصيد القابل للتصرف، غير أن هذه القرينة قابلة لاثبات العكس وهو أن الساحب كان يعتقد وقت اصداره الشيك وجود الرصيد الكافي القابل للسحب، والمكلف بهذا الاثبات هو المتهم وليس النيابة العامة لأنه في الواقع نفي لسوء النية الذي أثبتته النيابة العامة بالقرينة.
وان المتهم إذا استطاع أن يدلي أمام المحكمة بأية وسائل اثبات طبقا للقواعد العامة للاثبات الجنائي، تقنع القاضي بأنه كان يعتقد خطأ وجود الرصيد عند اصداره الشيك، تعين الحكم ببراءته لانتفاء القصد الجنائي ولو كان هذا الاعتقاد ناتجا عن اهمال أو تقصير ثابت ضده مثل أن يرسل اليه البنك الاعلام بالحجز الذي وقع على حسابه، ولكنه يهمل الاطلاع على فحوى الخطاب بعد وصوله اليه ولو بوقت طويل ويصدر شيكا أو يهمل حيازته من البريد رغم اشعاره من المصالح البريدية بوجود رسالة في اسمه فالاهمال والتقصير لا يمكن أن يتحقق به سوء النية أي القصد الجنائي في جريمة عمدية.
– سحب الرصيد :
مجرد واقعة سحب الرصيد بعد اصدار الشيك تشكل كذلك قرينة يثبت بها سوء النية، ولا تكلف النيابة العامة باثبات مستقل للقصد الجنائي المعبر عنه بسوء النية، ولكن كما في حالة اصدار الشيك دون رصيد، فإن الجريمة هنا أيضا عمدية ويحق للمتهم أن يهدم قرينة سوء النية بأن يثبت أنه عند السحب كان يعتقد أنه يسحب مبالغ زائدة على قيمة الشيك الذي اصدره نتيجة غلط في الحساب مثلا، بل انه من الناحية القانونية لا تقوم الجريمة لو اثبت أنه وقت السحب كان ناسيا للشيك الذي أصدره، لأن سوء النية لايمكن أن يتحقق مع النسيان.
غير أنه من الناحية الواقعية يتعذر اثبات واقعة النسيان واقناع المحكمة بوجودها لأنها حالة ذهنية لمصدر الشيك يتعذر الاستدلال عليها بوقائع خارجية أو قرائن مادية، وبناء على ذلك فان امكانية هدم قرينة سوء النية في حالة سحب الرصيد أضعف كثيرا منها في حالة اصدار شيك دون رصيد، لأن ادعاء الغلط أو النسيان في السحب يستعصي بطبيعته عن الاثبات.
– التعرض على الدفع :
التعرض في حد ذاته لا يتصور فيه الخطأ وانعدام القصد، فهو لذلك يكون دائما بسوء نية مادام القانون يعاقب عليه أيا كان السبب الدافع اليه، نعم في الحالات التي يجيزه القانون لا عقاب عليه كما في حالات ضياع الشيك أو سرقته أو افلاس المستفيد.
لذلك فان المتعرض لا يمكنه – في غير الحالات التي يسمح له فيها القانون بالتعرض – أن يثبت أن التعرض ذاته صدر منه بحسن نية، لأن ادعاءه هذا غير متصور، نعم يمكن أن يثبت خطأ أو غلطا رافق التعرض فينتفي عنه سوء النية ولو أن هذا نادر جدا، مثل أن يضيع أو يسرق منه شيك فيتعرض على ادائه ولكنه يسلم للبنك خطأ رقم شيك آخر غير الشيك الضائع أو المسروق.
– اشتراط الاحتفاظ بالشيك كضمانة وعدم صرفه فورا :
متى ثبت هذا الشرط عند تسليم الشيك ، فإن عناصر الجريمة تكون قائمة بما فيها القصد الجنائي، هذا القصد الذي لا يمكن أن ينفصل عن واقعة الاشتراط فمتى ثبتت ترتب عن ذلك لزوما ثبوت العنصر المعنوي للجريمة، لذلك لا سبيل للمتهم لدفع المسؤولية عن طريق نفي القصد الجنائي بصورة مستقلة .
ثانيا : قبول شيك ليس له رصيد ، أو بشرط عدم صرفه فورا :
الفصل 543 و 544 يعاقبان من يقبل شيكا صدر في أي حالة من الحالات الخمس التي يعاقب فيها الساحب وهي التي سبق عرضها، ولكن الحالات الاجرامية التي يمكن أن تتحقق بالنسبة لمتسلم الشيك هي قبول شيك لا رصيد له أو له رصيد ناقص أو غير قابل للسحب ، أو بشرط ألا يصرف فوراً.
والمستفيد الذي يقبل الشيك في الحالات السابقة قد يبدو أنه يتصرف في مصالحه المالية التي يحق له أن يخاطر بها فلا مبرر لعقابه، لكن ينبغي أن يلاحظ من ناحية أن الشيك قابل للتداول فقد يتضرر الغير اذن بتصرف القابل إذا ما وضع الشيك بعد قبوله في التداول، ومن ناحية ثانية يعتبر تصرف القابل اخراجا للشيك عن وظيفته التي حددها له القانون وهي كونه أداة وفاء لهذين السببين عاقب القانون قابل الشيك، وجريمة قبول الشيك تتحقق بعنصرين “فعل مادي وقصد جنائي” :
1) الفعل المادي في جريمة قبول الشيك:
ان الفعل المادي ينحصر في تسلم الشيك، أي حيازته بارادة واختيار، والنص يقول “قبول تسلم شيك” ولكن الفعل المادي لا يتحقق بمجرد اعلان القبول وانما بالتسلم الفعلي للشيك، لذلك لا يعتبر مرتكبا للجريمة من أعلن للساحب موافقته الشفوية أو الكتابية على تسلم شيك دون رصيد أو مع شرط عدم صرفه فوراً، لأنه مادام لم يتسلم الشيك فعلا فإن مجرد الموافقة لا تكون فعلا ماديا من جهة، وليست نهائية من جهة ثانية إذ يمكن أن يتراجع عنها فلا يتسلم الشيك.
ويستوي أن يتسلم الفاعل الشيك من الساحب أو من الحامل إذ في كلا الحالين يتحقق قبول تداول الشيك خارج وظيفته الوحيدة التي حددها له القانون.
2) القصد الجنائي في جريمة قبول الشيك :
استعمل القانون عبارة بسوء نية للدلالة على القصد الجنائي بالنسبة لمصدر الشيك وقابله على السواء؛ وسبق أن رأينا أن الوقائع المادية للاصدار أو سحب الرصيد أو التعرض على الدفع أو اشتراط عدم صرف الشيك فوراً تشكل قرائن تثبت سوء النية بالنسبة للساحب أما بالنسبة للقابل فإنه ما عدا الصورة الأخيرة، أي قبول الشيك مع شرط عدم صرفه فورا ، يجب على النيابة العامة أن تثبت أنه كان يعلم وقت تسلمه الشيك بانه لا رصيد له ، أو له رصيد ناقص ، أو غير قابل للسحب ، اما مجرد تسلم الشيك فلا يكون أية قرينة على سوء النية .