جريمة النصب تعني التوصل إلى الاستيلاء على مال الغير عن طريق استعمال وسائل الاحتيال والخداع، وإذا كانت جريمة النصب من قبل تختلط أحيانا بالسرقة حيث كان التركيز في التكييف على سلب مال الغير بدون حق، فإن التركيز الآن على الوسيلة المستعملة للاستيلاء على المال، لم تختف معه صعوبة التكييف نهائيا.
ومهما يكن من أمر، وبالرغم من المعايير النظرية المستعملة للتمييز بين الجريمتين فإن الجدل سيبقى قائما حول التكييف في بعض الوقائع العملية، ويرجع ذلك إلى أن السرقة ذاتها لا تخلو من وسائل احتيال في حالات غير قليلة مثل السارق الذي يتظاهر بالرغبة في الشراء، أو صرف ورقة نقدية أو في رؤية الشيء أو اختباره، أو مساعدة الضحية، وبمجرد ما يضع الضحية الشيء بين يديه يختلسه ويهرب به.
حقيقة إن وسائل الاحتيال تختلف في النصب عنها في السرقة، ففي النصب هي التي تدفع الضحية إلى الاضرار بمصالحه أو مصالح غيره المالية، بينما في السرقة لا يزيد دورها على تسهيل عملية الاختلاس على السارق كما في الأمثلة السالفة الذكر، لكن بالرغم من هذا الفرق فإن المنطقة الحدية التي تفصل بين النوعين من وسائل الاحتيال تكون في بعض الحالات دقيقة مما يترتب عنه الخطأ في التكييف، ولذلك ينبغي فحص الوقائع بعناية كي يتأتى الوصول إلى تكييف قانوني سليم :
فالنصب يتحقق بنفس واقعة التصرف الضار الذي يقوم به الضحية نتيجة وسائل الاحتيال الممارسة ضده سواء كان هذا التصرف ماديا أو قانونيا، وبعبارة أخرى فإن التصرف الذي ينجزه الضحية نتيجة لوسائل الاحتيال في النصب هو الذي يضر بمصالحه أو مصالح غيره المالية، مثل أن يحتال عليه الجاني فيسلمه نتيجة ذلك مبلغا ماليا وفاء لدين لا وجود له، أو اعتقادا منه بأنه وكيل الدائن مثلا، أو يبرم معه تصرفا قانونيا ضارا بالمصالح المالية له أو لغيره.
أما في السرقة فإن الضحية لا يتضرر من ذات التصرف الذي يقوم به بسبب وسائل الاحتيال التي استعملها السارق، لأن هذا التصرف لا يزيد دوره عن وضع الشيء بين يدي السارق الذي يقوم بعد ذلك بعملية الاختلاس كما في الأمثلة التي سبق ذكرها.
هذا ولا يفوتنا أن نشير من ناحية ثانية إلى أن للنصب علاقة كذلك بالتدليس المدني عندما تكون نتيجة النصب قيام الضحية بتصرف قانوني ضار بمصالحه أو مصالح غيره، وهنا أيضا قد لا تبدو واضحة الحدود الفاصلة بينهما سيما وان كلا منهما يتحقق بوسائل الاحتيال الايجابية والسلبية، ولذلك لا يبقى أمام القاضي الا اعتماد مدى خطورة وسائل الاحتيال المستعملة لتكييف الوقائع بالتدليس المدني الذي يقتصر على حق ابطال التصرف أو بالنصب المستحق للجزاء الجنائي.
وخلاصة ما سبق أن جريمة النصب رغم استقلالها في التشريع بعناصرها القانونية المتميزة منذ ما يقرب من قرنين من الزمن (منذ 1791 في القانون الفرنسي) فإن عناصرها ما تزال في الوقائع العملية تتشابه مع عناصر السرقة، أو التدليس المدني على الأقل في بعض الحالات، الأمر الذي يثير صعوبة لا يستهان بها في التكييف القانوني، هذا التكييف الذي تهدي اليه في حالات كثيرة الحاسة القضائية الذكية أكثر مما ترشد اليه المعايير النظرية المتداخلة.
أولا – عناصر جريمة النصب :
ينص الفصل 540 من القانون الجنائي على أنه ” يعد مرتكبا لجريمة النصب، ويعاقب بالحبس من سنة إلى خمس سنوات وغرامة من خمسمائة إلى خمسة آلاف درهم من استعمل الاحتيال ليوقع شخصا في الغلط بتأكيدات خادعة أو إخفاء وقائع صحيحة أو استغلال ماكر لخطأ وقع فيه غيره ويدفعه بذلك إلى أعمال تمس مصالحه أو مصالح الغير المالية بقصد الحصول على منفعة مالية له أو لشخص آخر.
وترفع عقوبة الحبس إلى الضعف والحد الأقصى للغرامة إلى مائة ألف درهم، إذا كان مرتكب الجريمة أحد الأشخاص الذين استعانوا بالجمهور في إصدار أسهم أو سندات أو اذنوات أو حصص أو أي أوراق مالية أخرى متعلقة بشركة أو بمؤسسة تجارية أو صناعية”. يؤخذ من هذا الفصل أن عناصر جريمة النصب هي” فعل مادي وقصد جنائي” :
1 – الفعل مادي في جريمة النصب :
الفعل المادي في جريمة النصب كما في غيرها من جرائم النتيجة يتكون من ثلاثة عناصر : نشاط يقوم به الفاعل وهو الاحتيال (ايجابي أو سلبي) ونتيجة اجرامية هي قيام الضحية بعمل يضر مصالحه أو مصالح الغير المالية، وعلاقة سببية بين احتيال الجاني وتصرف الضحية:
أ ) نشاط يقوم به الجاني “الاحتيال” :
النشاط الذي يمارسه النصاب لتحقيق هدفه الإجرامي هو استعمال وسائل الاحتيال والمخادعة لتضليل المجني عليه ، ودفعه إلى تسليم المال اختيارا، أو القيام بتصرف ضار بمصالحه المالية، ووسائل الاحتيال وأساليبه تتدرج وتتفاوت كما سبقت الإشارة إلى ذلك، ابتداء من الكذب المجرد إلى الوسائل المتقنة الحبك بحيث يستحيل اكتشاف زيفها أو التشكك في صدقها، فالكذب لا يخرج عن وسائل الاحتيال بالمفهوم اللغوي الذي يعني مجرد محاولة اخفاء الحقيقة عن الطرف الآخر، والكذاب يحاول بكذبه اخفاء الحقيقة وخداع من يحدثه بصدق حديثه.
لذلك فإن الصعوبة التي تعترض القاضي تكمن في وسائل تحديد المنطقة الفاصلة بين الاحتيال الذي لا يكون نصبا، وبين الاحتيال الذي يعاقب بالفصل 540 من القانون الجنائي، سيما مع نص المشرع صراحة بأن النصب قد يتحقق حتى بمجرد “اخفاء وقائع صحيحة”.
ومن المؤكد ان في مقدمة ما يتم الاستئناس به في التكييف، مدى خطورة وأهمية وسائل الاحتيال المستعملة، غير أن هذا ليس كافيا لاعطاء التكييف الصحيح للوقائع، وإنما ينبغي أن يراعى إلى جانب ذلك مدى وطبيعة الضرر اللاحق بالضحية فالتحايل في مجال التعاقد مثلا يتأثر في تكييفه بالتدليس أو النصب بطبيعة الضرر أي النتيجة التي أدى إليها، فالتدليس يستهدف أساسا مخادعة الضحية لحمله على قبول التعاقد، وإن كان غالبا ما يستتبع ذلك الاستفادة ماديا، بينما هدف النصب الوحيد هو الاستيلاء على مال الضحية بدون حق.
وبالإضافة إلى ما سبق فإن على القاضي أن يتعمق في فحص وقائع كل قضية وملابساتها كي يمكن له أن يستوحي منها عناصر النصب الجنائي، أو انها لا تزيد عن اعمال الغش والكذب والتدليس المدني، هذا وقد حدد القانون صراحة وعلى سبيل الحصر، وسائل الاحتيال التي تتحقق بها جريمة النصب وهي ” تأكيدات خادعة؛ و إخفاء وقائع صحيحة؛ واستغلال ماكر لخطأ وقع فيه الغير”.
ويتبين من هذه الصياغة المرنة التي استعملها القانون الجنائي في تعداد وسائل الاحتيال ان المشرع أراد توسيع مفهوم النصب وأن يجعل في يد القاضي سلطة تقديرية واسعة يتمكن بها من قمع الطفيليين الذين تسمح لهم نفوسهم المريضة بنهب أموال الغير عن طريق أساليب الخداع والاحتيال، وهو اتجاه يبدو معقولا في مجتمعنا الذي تتزايد وتتنوع فيه جرائم النصب بشكل خطير.
– تأكيدات خادعة :
تشمل هذه الوسيلة كل حالات الكذب المؤيد بوقائع خارجية من شأنها أن تخدع الضحية فيصدق الجاني فيما يزعمه ويسلم له المال، نعم أن الكذب المجرد لا تتحقق به التأكيدات الخادعة، وإذا سلم شخص ماله بناء على هذا الكذب فإنه يكون ضحية غفلته وقلة خبرته، وليس ضحية للنصب المعاقب عليه جنائيا.
والوقائع الخارجية التي تؤيد الكذب ويتحقق بها بالتالي النصب كثيرة ومتعددة كما تتفاوت في قوة الاقناع بصدق النصاب فيما يدعيه، فقد يؤيد الجاني كذبه بوثيقة رسمية مزورة مثلا، وقد يقتصر على مجرد القيام بأعمال مادية أمام الضحية مثل الدخول إلى مكتب موظف توجد بين يديه حاجة المعني بالأمر، وفي كل الأحوال فإن المهم هو أن تكون وسائل الاحتيال المستعملة قادرة على خداع الضحية لينطبق عليها وصف تأكيدات خادعة الذي نص عليه القانون.
وعلى القاضي أن لا يعتمد في ذلك على المعايير الموضوعية المجردة، وإنما يتعين أن يأخذ في اعتباره الظروف الشخصية للضحية كالجنس والسن والثقافة والدراية بالحياة، بل عليه أن لا يهمل كذلك الظروف الشخصية للجاني التي من شأنها أن تؤثر على اقتناع الضحية بتصرفاته الخادعة، كالمهنة أو الوظيفة التي يمارسها، وعلاقة القرابة التي تجمعه بمن يمكنه تلبية رغبة المحتال عليه.
– اخفاء وقائع صحيحة :
إن اخفاء الوقائع معناه كتمانها وعدم التصريح بها أمام المحتال عليه الذي لا علم له بها، فالقانون المغربي بإدخاله هذه الطريقة ضمن وسائل الاحتيال الجنائي قد تخطى مفهوم النصب في القوانين اللاتينية، لأن هذه القوانين لا تعترف إلا بالاحتيال المرتكب بالوسائل الايجابية، دون الوسائل السلبية وإن بلغت ما بلغت في خداع الضحية، فالاحتيال له مفهوم ايجابي، ومجرد السكوت موقف سلبي أي عدم، والعدم لا يسمى احتيالا سواء في اللغة أو العرف، كما أن النصب من جرائم النتيجة، وهذا النوع من الجرائم يتعذر ارتكابه بالسكوت والامتناع.
وإذا كان النص قد اطلق في اخفاء وقائع صحيحة، إلا أن النصب لا يمكن أن يتحقق بكل اخفاء للوقائع الصحيحة يترتب عنه الاضرار بالمصالح المالية لضحية الاخفاء، فلا يعتبر نصابا من يتسلم مبلغا نقديا يفوق المبلغ المستحق ويكتم ذلك عن الدافع أو يكتم عيبا في المبيع أو الشيء المكترى مثلا، أو يبيع دارا أو دكانا أو أرضا ولا يصرح بأنها مكتراة.
وعلى العكس من ذلك يتحقق النصب بالاخفاء متى اتسم بالخطورة حيث اتخذه الجاني وسيلة للاستيلاء على مال الضحية مثل بيع أرض أو دار نزعت ملكيتها ولا يخبر المشتري بذلك، أو قطعة أرض للبناء ويخفي أن المصالح المختصة منعت البناء فيها، أو يتصرف في الشيء بمقابل، ويخفي صدور حكم باستحقاقه منه، أو يقبل محام اتعابا مقابل الطعن في حكم ولا يعلم زبونه بأن أجل الطعن قد انتهى.
وخارج مجال التعاقد يمكن أن يتحقق النصب كذلك باخفاء وقائع صحيحة مثل حصول متقاض على المساعدة القضائية بناء على اخفائه التصريح بما يملكه، وعدم بيان المحكوم له عنوان المحكوم عليه غيابيا تحايلا لاكتساب الحكم الصفة النهائية.
وينبغي للقاضي أن يدرس وقائع كل قضية بملابساتها وسائر الظروف المحيطة بها، لكي يتأتي له تقرير وجود أو عدم وجود النصب فيما قام به الفاعل من اخفاء وقائع صحيحة، لأن كتمان التصريح بوقائع يسع حالات كثيرة لا يمكن أن يتحقق النصب في جميعها حتى ولو كان القانون أو حسن النية يفرض عدم الكتمان، فعلى القاضي اذن أن يطبق النص في حدود صيانة التعايش الاجتماعي ومحاربة أساليب الخداع التي يطورها المحتالون لاصطياد الأموال العامة أو الخاصة بالباطل.
– استغلال ماكر لخطأ وقع فيه الغير :
المقصود بالخطأ هنا الغلط l’erreur وهو اللفظ المستعمل فعلا في النص الفرنسي للفصل 540، ولا يصح تفسير الخطأ بمعنى العمل غير المشروع لأن ذلك يتعارض مع العنصر الأساسي للنصب وهو الاحتيال.
ان الاستغلال الماكر لخطأ وقع فيه المحتال عليه يتطلب لوجوده توفر عنصرين “غلط يقع فيه الضحية، واستغلال ماكر لهذا الغلط من جانب النصاب”، فالغلط يتحقق كلما توهم الضحية واقعة على غير حقيقتها فتهيأ بذلك لتسليم المال موضوع النصب كان الغلط تلقائيا أو تسبب فيه شخص آخر غير متواطئ مع الجاني، والاستغلال الماكر يعني قيام النصاب بعمل ايجابي لا يبقي الضحية في غلطه فقط، ولكن يحفزه إلى تسليم المال، فالاستغلال الماكر اذن لا يتحقق باتخاذ موقف سلبي وانما يتعين أن يقوم المحتال بعمل ايجابي.
فالذي يتسلم مبلغا من النقود مثلا يزيد على المبلغ المستحق نتيجة غلط الدافع في الحساب، لا يعتبر نصابا إذا كان دوره في ذلك سلبيا بأن اقتصر على أخذ المبلغ كما أعطاه إياه الدافع، ولكن على العكس يتابع بالنصب إذا استفسره الدافع أثناء الدفع فأجابه كذبا بأن المبلغ ناقص فأتم له الباقي، أو أجابه بأنه توصل بالمبلغ المستحق لا غير والواقع أنه أكثر.
ومثل ذلك أن يعتقد الضحية غلطا أن الجاني هو صاحب الحق في تسلم الشيء فيقوم هذا الأخير بتصرف ما يساعد على تمادي المحتال عليه في غلطه فيضر بمصالحه أو مصالح الغير المالية كالوكيل أو ممثل الشركة الذي انتهت مهمته يقصده أحد الزبناء معتقداً بقاء صفته السابقة، فيقوم – متظاهرا باستمرار التمثيل – بابرام صفقة مع الزبون وهدفه الاستيلاء على ما يتسلمه منه ، وكذلك من يأتيه ساعي البريد أو مستخدم شركة نقل مثلا بحوالة أو بمنقول معتقدا غلطا أنه هو المرسل إليه، فيقابله بتصرفات تؤكد له اعتقاده الخاطئ، ونتيجة لذلك يسلمه الحوالة أو المنقول.
والخلاصة أن الاستغلال الماكر لا يكفي لتحققه وقوف متسلم المال موقفا سلبيا، إذ في هذه الحالة يوجد غلط وقع فيه المتضرر ولكن لا وجود لوسائل الاحتيال من أخذ المال، وبالتالي لا تتوفر عناصر النصب، نعم إذا قابل غلط المحتال عليه بتصرفات تساعد على استمرار هذا الأخير في غلطه وعلى انجاز التصرف الضار بمصالحه المالية، فإن جريمة النصب تتوفر كل عناصرها وعلى الخصوص وجود كل من الغلط ووسائل الاحتيال.
ب) نتيجة اجرامية :
يقول ف 540 من القانون الجنائي “… ويدفعه بذلك إلى أعمال تمس مصالحه أو مصالح الغير المالية بقصد الحصول على منفعة مالية له أو لشخص آخره”. إن الأصل في جريمة النصب أن تكون نتيجتها هي استيلاء المحتال على مال المحتال عليه، وإذا قام النصاب بأعمال احتيالية لم تصل به إلى هذا الاستيلاء، يكون مرتكبا لمحاولة النصب، وليس لجريمة تامة.
فهل أخذ القانون المغربي بنفس الفكرة ؟ هذا ما يقول به بعض الشراح فعلا، غير أن بعض الفقه يرى أن صياغة ف 540 تكتفي لاعتبار الجريمة تامة قيام الضحية بالعمل الضار بمصالحه أو مصالح غيره المالية، ولو لم يتحقق بعد حصول النصاب على الفائدة المالية التي استهدفها باحتياله.
ويبرز هذا الاتجاه القانون الجنائي، أن الهدف من تجريم النصب هو حماية مصالح الأفراد المالية ، فمتى تحقق المساس بهذه المصالح، كانت الجريمة تامة، لأن الضرر الذي وقع من أجله التجريم قد حدث فعلا، ولا يهم بعد ذلك أن يكون الجاني قد حصل على الفائدة المتوخاة له أم لا، وهكذا تعتبر جريمة النصب تامة في الأمثلة التالية :
– إذا تحايل المدين أو المتواطئ معه على الدائن فقام بتمزيق سند الدين بالرغم من أن المدين لم تبرأ ذمته من الدين لإمكانية الحكم عليه بادائه ولو مزق السند الذي يثبته .
– إذا تحايل تاجر أو مقاول على آخر فدفعه بذلك إلى التخلف عن المشاركة في مزايدة أو مناقصة ليستأثر هو بها ، تتم جريمة النصب بمجرد انتهاء الأجل المحدد للمشاركة ولو لم تجر بعد المزايدة أو المناقصة.
– إذا افتتح نصاب اكتتابا في أسهم شركة خيالية فقام المحتال عليه ببيع أملاكه بثمن بخس حتى لا يفوته الأجل المحدد لشراء الاسهم ، أو قام بإعلام البنك الذي يودع فيه نقوده بفائدة بايقاف سريان الفائدة كي يتأتى له سحبها.
والقول بأن الجريمة في هذه الأمثلة تامة يتفق مع النص القانوني الذي يشترط فقط قيام المحتال عليه بالتصرف الضار بمصالحه، أما بالنسبة للمحتال فيكفي أن يكون لديه القصد إلى الحصول على فائدة مالية له أو لغيره، وليس ضروريا اتمام الجريمة أن يحقق فعلا هذه الفائدة.
ومن ناحية ثانية فان الفصل 540 من القانون الجنائي استعمل عبارة “واعمال تمس مصالحه أو مصالح الغير المالية بقصد الحصول على منفعة مالية له أو لشخص آخر” لذلك فإن النصب غير قاصر على تسليم مال منقول إلى المحتال، وانما يمكن أن يتعلق بالإضافة إلى ذلك بحقوق عقارية كما في حالة الاحتيال على الضحية ودفعه إلى اعطاء حق ارتفاق أو منفعة على عقاره.
أو بدخل مالي منتظر مثل التحايل الذي يدفع عاملا إلى تقديم استقالته أو تاجرا إلى افراغ محله التجاري، فيحرمان نتيجة ذلك من دخل العمل والتجارة، أو بحق من الحقوق المالية مثل حق الشفعة، ودفع المحتال عليه إلى الاعتراف الكاذب بأنه المتسبب في الضرر للمحتال أو لغيره، ودفع المكتري إلى افراغ محل سكناه.
كما يستوي أن يكون العمل الذي قام به الضحية ايجابيا كما في الأمثلة السابقة أو سلبيا، كأن يتحايل تاجر على آخر، فيحمله على الامتناع عن انجاز صفقة تجارية قصد استئثار المحتال أو الغير بأرباحها. ففي هذه الحالات ومثيلاتها تتحقق جريمة النصب ، لأن تلك الأعمال كلها تمس المصالح المالية للمحتال عليه، كما أنها تحقق منفعة مالية للمحتال شخصيا أو لمن يعمل لحسابه.
نعم إذا كان موضوع الاحتيال ليس من الحقوق المتمولة فإن جريمة النصب لا تقوم كالاحتيال الذي أدى إلى قبول عقد زواج ، أو وقوع طلاق ، أو التنازل عن حق حضانة ، أو الاعتراف بارتكاب جريمة، وغير ذلك من الحالات التي لا يستهدف فيها الاحتيال المصالح المالية للمحتال عليه أو الغير.
ج ) علاقة سببية :
لا يكفي وجود وسائل احتيال وقيام من تعرض لها بأعمال تمس مصالحه المالية وإنما يتعين أن تتحقق العلاقة السببية بينهما ، بأن تكون وسائل الاحتيال هي التي دفعت الضحية إلى القيام بالعمل الذي أضر بمصالحه المالية .
ويستخلص القاضي وجود العلاقة السببية من وقائع كل قضية وملابساتها وقاضي الموضوع هو الذي يستقل بتقرير وجود أو انتفاء العلاقة السببية لأنه الذي يقوم بفحص الوقائع وبالتالي تقدير مدى تأثير وسائل الاحتيال على المحتال عليه، وما إذا كانت هي التي دفعته إلى العمل الضار بمصالحه المالية أو لا، سيما وأن القاضي يأخذ في اعتباره الظروف الشخصية للضحية وكل الملابسات المحيطة بالوقائع، هذا ما لا يتأتى إلا القاضي الموضوع، نعم هو مطالب ببيان الوقائع والقرائن التي استخلص منها النتيجة التي انتهى إليها، لأن قاضي النقض يراقبه في كفاية وسلامة التعليل الذي يبرر به منطوق الحكم.
2 – القصد الجنائي في جريمة النصب :
العنصر الثاني في جريمة النصب هو القصد الجنائي، وهو قصد خاص حدده ف 540 بقوله “بقصد الحصول على منفعة مالية له أو لشخص آخره” والقصد بهذا المعنى لا يتحقق إلا إذا كان الجاني قد قام بأعمال الاحتيال عن علم وبينة بأن يكون عالما بكذب التأكيدات التي استعملها في مواجهة الضحية، وأن يتعمد استغلال غلط الضحية، أو كتمان الوقائع الصحيحة التي يعلمها، وبعبارة أخرى يجب أن يكون قد تعمد استعمال وسائل الاحتيال مع علمه بصفتها الخادعة، أما إذا استعملها نتيجة جهل أو غلط أو خطأ وقع فيه تلقائيا أو أوقعه فيه غيره، فلا يتحقق القصد الجنائي.
وبالاضافة إلى هذا القصد العام يتعين أن يتوفر لديه القصد الخاص الذي هو الحصول على منفعة مالية له أو لشخص آخر يعمل لحسابه، ولذلك لا تقوم جريمة النصب إذا كانت غاية الفاعل من وسائل الاحتيال مجرد دفع الضحية إلى الاضرار بمصالحه المالية بدافع الانتقام أو التشفي مثلا.
وكذلك إذا كانت غايته منفعة غير مالية، ولو أضر المحتال عليه بمصالحه المالية مثل أن تتحايل بنت على أبيها بتأكيدات كاذبة حول علاقاتها بزوجها، وتحمله بذلك على بذل مبلغ من المال لزوجها على وجه الخلع، فالبنت هنا دفعت أباها إلى الاضرار بمصالحه المالية، ولكنها لم تقصد من وراء ذلك الحصول على منفعة مالية، وإنما غايتها هي الحصول على الطلاق وهو ليس منفعة مالية.
والمنفعة المالية المحصل عليها عن طريق النصب تمثل الضرر الذي ألحقه الضحية بمصالحه أو مصالح الغير المالية، وبناء على ذلك يتعين أن تكون المنفعة المحصل عليها غير مشروعة أي لا يسمح بها القانون، فلا يعتبر نصابا الدائن الذي يستعمل طرق الاحتيال للحصول على حقه من المدين مادام الدين مستحق الاداء، لأن الفائدة التي حصل عليها قانونية وهي استرداده لحقه.
والمنفعة المالية تشمل كل فائدة قابلة للتمول والتملك، فيدخل في ذلك النقود والمنقولات التي لها قيمة نقدية، والتي ليست لها قيمة نقدية كالصور والرسائل الشخصية، والعقارات بتملكها من طرف النصاب أو من يعمل لحسابه أو باكتساب حق من الحقوق العينية عليها، كما تشمل المنفعة المالية الاستيلاء على منفعة منقول أو عقار ما دامت هذه المنفعة داخلة في الفوائد المالية، لأن النص استعمل عبارة “منفعة مالية” الشاملة للاستيلاء على ملكية الشيء أو على منفعته فقط،
ولذلك يعتبر نصابا من يحصل بطريق من طرق الاحتيال السابقة على السكنى في دار بدون مقابل أو على استعمال سيارة استعمالا يلحق ضررا ماليا بصاحبها، ويحقق فائدة مالية للمستعمل، وتعتبر منفعة مالية كذلك الحقوق القابلة للتقويم المالي وان لم تكن هذه القيمة معلومة، كالتحايل على المتضرر فيتنازل عن حقه في التعويض سواء كان الضرر ماديا أو معنويا.