أولا – ممارسة الدعوى العمومية :
إن الدعوى التي تقام أمام القضاء الزجري ضد مرتكب الجريمة من أجل المطالبة بتوقيع الجزاء عليه تسمى دعوى عمومية، لأنها تثار باسم المجتمع بكامله. ولم يصل الفكر القانوني لهذه النتيجة إلا بعد مروره بعدة مراحل تطورت فيها الهيكلة السياسية والاجتماعية للمجتمعات، ومرت عبر مرحلة الانتقام ومرحلة الاتهام الفردي، فالاتهام الشعبي، لتنتهي المجتمعات إلى اعتناق الاتهام العام.
وفي القرون القريبة الماضية ظهر نظامان مختلفان للمحاكمة الجنائية هما النظام الاتهامي والنظام التفتيشي.
ويقوم النظام الاتهامي ( Accusatoire ) على “الاتهام” كعنصر رئيسي لممارسة الدعوى العمومية، حيث تقتضي قوانين الدولة بأن يتم تحريك الدعاوى الزجرية من طرف متهم (بكسر الهاء) ( Accusateur ) ، وطالما أن هذا الأخير لم يتحرك، فإن المحاكم لا يمكنها أن تضع يدها على القضية ولو علمت بها. كما أن تنازل المتهم (بكسر الهاء) يضع حدا للمتابعات. ومن جهة أخرى فإن هذا النموذج من المحاكمة (النظام الاتهامي) كان يعتمد على ثلاثة أركان رئيسية للمحاكمة، هي العلنية والشفوية والحضورية.
وتفيد العلنية، أن تكون الجلسات عمومية بحيث يتمكن الجمهور من متابعة المحاكمة ومشاهدة أطرافها ومراقبة سيرها، مما يجعل الجمهور هو المتحكم في نتائجها.
وهذا النوع من المحاكمة كان يلائم المجتمعات القديمة لبساطته واعتماده على تجمهر السكان في الهواء الطلق، أو في الحلبات والمسارح التي شيدتها روما القديمة، أو أثينا في عهد ازدهار الإغريق، وأحيانا تعقد بعض المحاكمات تحت النخل أو أشجار الغابات في أدغال إفريقيا، أو أشجار الزيتون في جنوب أوروبا، فتتحول المحاكمة إلى “فرجة” على حد تعبير البعض، الذي شبهها بوضع القطاع السمعي البصري في حضارتنا المعاصرة.
وأما النظام التفتيش (Inquisitoire) فيستمد تسميته من الشكليات التي تسبق المحاكمة والتي تؤثر على كل المراحل اللاحقة بها، مما يعطي لمرحلة البحث التمهيدي والتحقيق الإعدادي دوراً حاسما في مسار الدعوى العمومية، وبالتالي يكون لهذه الإجراءات وقع أكثر تأثيرا من مرحلة المحاكمة العلنية. وقد كان الداعي لاعتناق هذا النظام، ظهور مجتمعات تعتمد سلطات مركزية ارتأت أن تقع سلطة الاتهام بيد تنظيم قادر على البحث عن الحجج والأدلة، وأن تضع سلطة الحكم بيد نظام عدالة عمومي توجده الدولة.
ويعتمد النموذج التفتيشي على الكتابة والسرية، ويتجلى هذا في كل الأعمال التي تقوم بها الشرطة القضائية أو قاضي التحقيق، والتي ترسم في شكل محاضر مكتوبة، يقرر لها القانون طابع السرية. ومن جهة أخرى فإن هذا النموذج يعتمد على قضاة محترفين باستطاعتهم حل ألغاز الشكليات المعقدة التي تنظم مسطرة التحقيق والمحاكمة.
والواقع أن النظامين الاتهامي والتفتيشي تطورا كثيرا، ولحقتهما العديد من التغييرات أدت إلى اقترابهما من بعضهما في العديد من النقط التي أصبحت مشتركة.
ولذلك فإن النظام القضائي الجنائي المغربي وإن كان يعتمد النظام التفتيشي فإنه لم يجعل التحقيق الإعدادي واجباً دائما. وإذا كان يعتمد على الكتابة والسرية في مرحلة البحث التمهيدي والتحقيق الإعدادي، فإنه يفسح المجال للعلنية في مرحلة المحاكمة. وإذا كان القضاة محترفون، فإن نظاماً للقضاء الشعبي يوجد أمام محاكم الجماعات والمقاطعات.
1) الطرف المدعي في الدعوى العمومية :
للدعوى العمومية طرفان رئيسيان طرف مدعي وطرف مدعى عليه، فالطرف المدعي يكون إما النيابة العامة، أو المتضرر، أو جهات أخرى عينها القانون والطرف المدعى عليه هو المجرم، سواء كان فاعلاً أصلياً أو مساهما أو مشاركا. وقد يقتضي الأمر إدخال أطراف أخرى في الدعوى أو تدخلها فيها تلقائيا، كالمطالب بالحق المدنى والمسؤول عن الحقوق المدنية.
يقصد بالطرف المدعي الطرف الذي خوله القانون حق إقامة وممارسة الدعوى العمومية، أو على الأقل حق إقامتها.
وقد عهد قانون المسطرة الجنائية للنيابة العامة بحق ممارسة وإقامة الدعوى العمومية، كما عهد لبعض الأشخاص أو الهيئات بإقامتها في حدود معينة. فالمادة 3 تنص على أن الدعوى العمومية تمارس ضد الفاعل الأصلي للجريمة والمساهمين في ارتكابها، ويقيمها ويمارسها قضاة النيابة العامة، كما يمكن أن يقيمها الموظفون المكلفون بذلك قانوناً، ويمكن أن يقيمها الطرف المتضرر طبقا للشروط المحددة في هذا القانون.
أ – النيابة العامة
عهد قانون المسطرة الجنائية للنيابة العامة بإقامة الدعوى العمومية وممارستها، أي تحريكها وتتبعها ومراقبة سيرها إلى غاية تنفيذ الحكم الصادر بشأنها، بما في ذلك القيام بإشعار الوكيل القضائي للمملكة بالمتابعات المقامة في حق القضاة أو الموظفين وإشعار الإدارة التي ينتمون إليها، والسهر على تنفيذ المقررات القضائية، وتسخير القوة العمومية مباشرة أثناء ممارسة مهامها.
وهكذا فإن الدعوى العمومية أمام المحكمة الابتدائية يقيمها وكيل الملك شخصياً أو بواسطة أحد نوابه، كلما تعلق الأمر بجنحة أو مخالفة، ولم يكن القانون يسند الاختصاص فيها لمحكمة أخرى. وأما أمام محكمة الاستئناف فإن الوكيل العام للملك يقوم بإقامة الدعوى العمومية في الجنايات أو الجرائم المرتبطة بها، ما لم ينص القانون على إعطاء الاختصاص لجهة أخرى.
ولا تقام الدعوى العمومية أمام محكمة النقض إلا في أحوال خاصة نص عليها القانون، كما هو الشأن بالنسبة للمساطر الخاصة المنصوص عليها في المادتين 265 و 266 المتعلقتين بالحكم في الجنايات والجنح المنسوبة لبعض القضاة أو الموظفين، حيث لا يقيم الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض الدعوى العمومية، ولكنه يقدم ملتمساته إلى الغرفة الجنائية بالمحكمة المذكورة التي تقرر في الأمر.
وإذا كان المشرع قد سمح بإقامة الدعوى العمومية للنيابة العامة ولأطراف أخرى (بعض الموظفين المكلفين بذلك قانوناً) والمتضرر من الجريمة، فإنه لم يمنح حق ممارسة الدعوى العمومية سوى إلى النيابة العامة.
ولذلك فإن دور باقي الأطراف الذين خولهم القانون حق إقامة الدعوى العمومية ينتهي بالنسبة للدعوى العمومية عند إقامتها، أي بمجرد تحريكها وعرض الخصومة بالكيفية القانونية على الهيئة القضائية المكلفة بالتحقيق أو البت. ويبدأ آنذاك دور النيابة العامة التي تمارس الدعوى العمومية باستقلال عن الخصوم، وتبدي رأيها بشأن سير الإجراءات وبخصوص قرارات القضاء بكل حياد وتجرد، وذلك ما لم ينص القانون على خلاف ذلك.
و إذا كانت المادة الثالثة من قانون المسطرة الجنائية قد أناطت بالنيابة العامة سلطة إقامة وممارسة الدعوى العمومية، فإن النيابة العامة تسلك عدة أساليب لإقامة الدعوى العمومية:
- إقامة الدعوى من طرف وكيل الملك :
يختص وكيل الملك بإقامة الدعوى العمومية وممارستها في المخالفات والجنح، إلا ما استثناه القانون. ويختص وكيل الملك بإقامة الدعوى إذا كانت الجريمة قد ارتكبت بدائرة نفوذه، أو كان أحد المشتبه فيهم بارتكابها يقيم بدائرته، أو إذا تم إلقاء القبض على أحد هؤلاء بدائرة نفوذه.
فالبنسبة للمخالفات تقام الدعوى العمومية بشانها من طرف وكيل الملك بواسطة أحد الأشكال التالية :
– السند القابل للتنفيذ : تقترح النيابة العامة على المخالف أداء نصف الحد الأقصى للغرامة المقررة للمخالفة، إذا كانت هذه الأخيرة ثابتة في حقه بمقتضى محضر أو تقرير، ولا يظهر فيها متضرر أو ضحية، ويعاقب عليها فقط بغرامة مالية، فإذا تعرض على الأداء تحال القضية على الجلسة وفقا للمقتضيات المشار إليها في المواد 375 وما يليها إلى 382 من قانون المسطرة الجنائية.
– الاستدعاء للجلسة : يوجه وكيل الملك الاستدعاء للمخالف لحضور الجلسة العلنية التي يبت فيها قاض منفرد في الموضوع . وهذه الطريقة هي الكيفية العادية لإقامة الدعوى العمومية في المخالفات. ويمكن تطبيقها حتى بالنسبة للمخالفات القابلة لتطبيق مسطرة السند القابل للتنفيذ. وبطبيعة الحال فإنها تعتبر الوسيلة الوحيدة لإقامة الدعوى العمومية في المخالفات الأخرى التي لا تتوفر فيها شروط مسطرة السند القابل للتنفيذ .
اما بالنسبة للجنح تقام الدعوى العمومية من أجلها، إما بالاستدعاء المباشر، أو بواسطة الإحالة الفورية على المحكمة، أو عن طريق المطالبة بإجراء تحقيق إذا كانت الجريمة تقبل التحقيق، أو بواسطة ملتمس يرمي لاستصدار أمر قضائي في غيبة المعني بالأمر.
– الاستدعاء للجلسة : يوجه وكيل الملك الاستدعاء للمتهم للحضور بالجلسة وفقا لمقتضيات المواد 308 وما يليها. ويستدعي في نفس الوقت المسؤول عن الحق المدني إن وجد. فالاستدعاء هو الذي يحرك الدعوى العمومية في هذه الحالة، وأما ما اعتاد بعض أعضاء النيابة العامة تدوينه على هامش المحضر مثل ” متابعة فلان من أجل جنحة السكر البين واستدعائه لجلسة كذا” فلا يمكن اعتباره سوى تعليمات يصدرها قاضي النيابة العامة لمساعديه، من أجل تحرير استدعاء وفقا لمقتضيات المادتين 308 و 309 من ق.م.ج . ويتعين على قاضي النيابة العامة الإمضاء على النسخة الأصلية للاستدعاء، وتبلغ نسخة مطابقة للأصل منه إلى المعني بالأمر. والاستدعاء هو الطريقة الأصلية لإقامة الدعوى العمومية، وأما باقي الطرق فهي استثناء.
– الإحالة الفورية : طبقا لمقتضيات المادة 74، يتم تقديم المتهم إلى الجلسة فوراً، وفي كل الأحوال داخل ثلاثة أيام دون سابق استدعاء، بعد استنطاقه من طرف وكيل الملك أو نائبه وتطبيق هذه المسطرة لا يكون متاحاً إلا إذا كان المتهم ماثلا أمام النيابة العامة، سواء كان تحت الحراسة النظرية أو تم تقديمه من طرف الشرطة أو دعي للحضور من قبلها فحضر، وتبعا لما نصت عليه المادة 74 فلا تطبق هذه المسطرة إلا في حالات التلبس بالجنحة المنصوص عليها في المادة 56 من قانون المسطرة الجنائية، أو إذا لم تتوفر في مرتكبها ضمانات كافية للحضور. (المزيد… )
– المطالبة بإجراء تحقيق : يمكن لوكيل الملك أن يلتمس إجراء تحقيق إذا كان الحد الأقصى للعقوبة المقررة للجنحة هو خمس سنوات أو أكثر. كما يمكن له أن يلتمس إجراء تحقيق إذا تعلق الأمر بجنحة ارتكبها حدث يقل سنه عن 18 سنة كيفما كانت العقوبة المقررة لتلك الجنحة. وفي حالات أخرى قد ينص القانون على إجراء التحقيق إجباريا أو اختياريا، فيتعين تطبيق إرادة المشرع إذا كان يأمر به على سبيل الوجوب.
– الأمر القضائي : إذا تعلق الأمر بجنحة يعاقب عليها القانون فقط بغرامة لا تتجاوز خمسة آلاف درهم، ولا يظهر فيها متضرر، ويكون ارتكابها مثبت في محضر أو تقرير، يمكن لوكيل الملك أن يتقدم بملتمس إلى القاضي من أجل إصدار أمر قضائي في غيبة المتهم ودون استدعائه، ولا يمكن أن تتجاوز الغرامة التي يحكم بها القاضي في هذه الحالة نصف الحد الأقصى للغرامة المقررة قانونا للجنحة، بالإضافة إلى المصاريف والعقوبات الإضافية. ويتم تبليغ الأمر القضائي للمتهم وللمسؤول المدني عند الاقتضاء اللذين يمكنهما التعرض عليه داخل أجل عشرة أيام من تبليغه. وفي حالة التعرض تجري المحاكمة بالشكل الحضوري العادي.
- إقامة الدعوى العمومية من قبل الوكيل العام للملك :
خول القانون للوكيل العام للملك الحق في إقامة الدعوى العمومية وممارستها أمام محكمة الاستئناف في الجنايات والجرائم المرتبطة بها أو غير القابلة للتجزئة عنها، سواء كانت جنحا أو مجرد مخالفات. وتكون الجرائم مرتبطة إذا ارتكبت في وقت واحد من طرف عدة أشخاص مجتمعين، وإذا ارتكبت من طرف أشخاص مختلفين، ولو في أوقات مختلفة وأماكن مختلفة، ولكن بناء على اتفاق سابق بينهم. وفي حالة ارتكاب الجناة لجرائم من أجل الحصول على وسائل تمكنهم من ارتكاب جرائم أخرى، أو تساعدهم على إتمام تنفيذها، أو تمكنهم من الإفلات من العقاب.
و تعتبر جريمة إخفاء الأشياء المحصل عليها من جريمة مرتبطة بالجريمة التي مكنت من الحصول على تلك الأشياء أو انتزاعها أو اختلاسها كلا أو بعضا طبقا للمادة 257 من قانون المسطرة الجنائية.
وتعتبر الجرائم غير قابلة للتجزئة، إذا كانت متصلة اتصالاً وثيقا لدرجة أن وجود بعضها لا يتصور بدون وجود البعض الآخر، أو عندما تكون مترتبة عن نفس السبب وناشئة عن نفس الدافع وارتكبت في نفس الوقت وفي نفس المكان. وتتم المتابعة في الجنايات وكذلك في الجرائم المرتبطة بها من طرف الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف إما بواسطة الإحالة المباشرة على المحكمة أو الإحالة على قاضي التحقيق.
– الإحالة المباشرة : تنص المادة 49 من ق م ج أن الوكيل العام للملك يحيل مايتخذه من إجراءات إلى هيئات التحقيق أو هيئات الحكم المختصة. وينص البند رقم 2 من المادة 419 من قانون المسطرة الجنائية أن القضية تحال على غرفة الجنايات بإحالة من الوكيل العام للملك طبقا للمادتين 49 و 73 من هذا القانون.
وتبعاً للمادة 73 ق م ج، فإن الإحالة المباشرة على غرفة الجنايات تكون ممكنة متى تعلق الأمر بالتلبس بجناية طبقاً لمقتضيات المادة 56 من قانون المسطرة الجنائية، إذا لم تكن الجريمة من الجرائم التي يكون التحقيق فيها إلزاميا، وكانت القضية جاهزة للحكم.
وفي هذه الحالة فإن الوكيل العام للملك أو أحد نوابه يستفسر المتهم عن هويته ويشعره بحقه في تنصيب محام عنه حالا، وإلا فإنه سيعين له من طرف رئيس غرفة الجنايات تلقائياً، ثم يستنطقه حول الأفعال المنسوبة إليه. فإذا اتضح أن القضية جاهزة للحكم فإن الوكيل العام للملك يصدر أمرا بإيداع المتهم في السجن وإحالته مباشرة على غرفة الجنايات داخل أجل لا يقل عن خمسة أيام ولا يزيد عن 15 يوما. وإذا كان الأمر يتعلق بالمتابعة من أجل جنحة مرتبطة بالجناية، فإن الوكيل العام للملك يمكنه أن يتابع الجانح في حالة سراح مقابل كفالة مالية أو شخصية.
ولا يبدو من قراءة المادة 73 أنه بإمكان الوكيل العام للملك إحالة المتهم مباشرة على غرفة الجنايات وتركه في حالة سراح وذلك لأن الفقرتين 4 و 5 من المادة 73 من ق م ج صريحتان في أن الوكيل العام للملك يأمر بوضع المتهم رهن الاعتقال ويحيله على غرفة الجنايات إذا كانت القضية جاهزة، ويلتمس إجراء تحقيق إذا ظهر له أن القضية غير جاهزة للحكم.
وبطبيعة الحال فإن الجنح أو المخالفات المرتبطة بالجناية أو غير القابلة للتجزئة عنها، تتم إحالتها بنفس الكيفية، مع مراعاة المقتضيات المتعلقة بنوع الجريمة، إذ لا يمكن إيداع مرتكب مخالفة بالسجن، كما أن مرتكب الجنحة تطبق عليه المقتضيات المتعلقة بالمتابعة من أجل الجنح ( الاستدعاء أو مسطرة الإحالة الفورية).
– التماس إجراء التحقيق : إذا لم يكن متاحاً تطبيق مسطرة الإحالة المباشرة على غرفة الجنايات، فإن الوكيل العام للملك يحيل القضية على قاضي التحقيق بمقتضى ملتمس بإجراء تحقيق .ويجب التمييز بين حالتين من الحالات التي يطلب فيها التحقيق، الذي إما أن يكون إجباريا أو اختيارياً.
فإذا كان التحقيق إجباريا فيتعين على الوكيل العام للملك المطالبة به ولو توفرت إمكانية الإحالة المباشرة وكان الأمر يتعلق بحالة تلبس بالجناية. إذ في الحالة التي يوجب فيها القانون إجراء تحقيق لا يبقى هناك مجال لسلوك مسطرة أخرى، وإنما يتعين التماس إجراء تحقيق. وإذا كان القانون يترك الاختيار بشأن إجراء التحقيق، فله أن يعدل عن سلوكه، ويتبع مسطرة الإحالة المباشرة إذا توفرت شروطها أي توفر حالة التلبس وكون القضية جاهزة للحكم، وإلا فإنه يكون مطالبا بالتماس إجراء تحقيق.
وينص القانون على كون التحقيق يكون الزاميا في الجنايات المعاقب عليها بالإعدام، أو بالسجن المؤبد، أو التي يصل الحد الأقصى للعقوبة المقررة لها إلى ثلاثين سنة سجنا، وفي الجنايات المرتكبة من طرف الأحداث. ويكون التحقيق اختيارياً في باقي الجنايات الأخرى.
ب – الموظفون المكلفون بإقامة الدعوى العمومية
أوردت المادة الثالثة من قانون المسطرة الجنائية قاعدة عامة مفادها أنه يمكن إقامة الدعوى العمومية من طرف الموظفين المكلفين بذلك قانوناً. ويستفاد من ذلك أن القانون نفسه هو الذي يمنح هذا التكليف بإقامة الدعوى العمومية لبعض الموظفين خارج اسلاك قضاء النيابة العامة.
وقد أكد البند رقم 3 من المادة 384 من ق م ج هذا الرأي في حديثه عن كيفية رفع الدعوى العمومية إلى المحكمة، وجاء فيه أن الدعوى ترفع باستدعاء يسلمه أحد أعوان الإدارة المأذون له بذلك قانونا، إذا كان هناك نص خاص يسمح لهذه الإدارة بتحريك الدعوى العمومية. وكأمثلة على أنواع الموظفين الذين كلفهم القانون بحق إقامة الدعوى العمومية، نذكر موظفي إدارة الجمارك وموظفي إدارة المياه والغابات (المزيد….).
ج – إقامة الدعوى العمومية من طرف المتضرر
تنقسم الأنظمة القضائية الجنائية عادة إلى نظام اتهامي ونظام تفتيشي. وكانت الدول التي تنهج النظام الاتهامي تنيط بالمتضرر نفسه حق إقامة الدعوى العمومية أمام القضاء. وأما الأنظمة التي تعتمد النظام التفتيشي، فإنها تنيط هذه المهمة بأجهزة الدولة نفسها.
ولا يبدو أنه يوجد الآن في العالم نظام قضائي اختار سلوك النظام الاتهامي بكامل الصرامة أو النظام التفتيشي بكامل الدقة، وإنما نجد القوانين الإجرائية تدمج بعض قواعد النظام التفتيشي في صلب نظامها الاتهامي وبالمقابل فإن القوانين الأخرى التي اختارت الأسلوب التفتيشي تطعمه بكثير من قواعد النظام الاتهامي.
ورغم أن المشرع المغربي جعل الاختصاص في ممارسة الدعوى العمومية وإقامتها من أهم صلاحيات قضاء النيابة العامة وبعض الموظفين، فإنه فتح نافذة للمتضرر ليستعمل سلطة إقامة الدعوى العمومية. وحق المتضرر في إقامة الدعوى العمومية من الناحية المبدئية هو حق عام وشامل لكافة الجرائم إلا ما استثناه القانون. ولكن المتضرر لا يملك سوى حق إقامة الدعوى العمومية دون ممارستها.
ويشترط أن يكون المتضرر قد تعرض شخصيا لضرر جسماني أو مادي أو معنوي تسببت في الجريمة مباشرة. ويتعين على المتضرر أن يتقدم بشكايته إما إلى قاضي التحقيق أو إلى هيئة الحكم، وأن يدعمها بأسباب كافية، ويضمنها عرضا للأفعال المكونة للجريمة، ومبلغ التعويض المطلوب والأسباب المبررة للطلب. ويتعين عليه كذلك أن ينصب نفسه مطالبا بالحق المدني حتى يتم قبول شكايته وأن يختار موطناً بدائرة المحكمة المرفوع إليها الطلب إذا كان يقيم خارج نفوذها. وفي حالة عدم تعيين احوال الموطن المختار لا يمكنه أن يحتج بعدم تبليغه الإجراءات.
كما يتعين عليه أن يودع بكتابة الضبط المبلغ الذي يفترض أنه ضروري لمصاريف الدعوى داخل الأجل الذي يحدده له قاضي التحقيق أو المحكمة. وإذا تعلق الأمر بالمطالبة بالتعويض أمام هيئة الحكم، فيشترط أن يودع المطالب بالحق المدني لزوما قبل الجلسة بكتابة الضبط، أو أثناء الجلسة بين يدي الرئيس، مذكرة مرفقة بوصل أداء الرسم القضائي الجزافي.
وإذا كانت الدعوى موجهة ضد موظف عمومي أو قاض أو عون تابع للسلطة أو للقوة العمومية وتبين احتمال قيام مسؤولية الدولة عن أعمال تابعها، فإنه يتعين على قاضي التحقيق أو على المحكمة أن يشعر بإقامتها الوكيل القضائي للمملكة وفقا للشكل المنصوص عليه في الفصول من 37 إلى 39 من قانون المسطرة المدنية.
ولا يمكن للمتضرر من الجريمة إقامة الدعوى العمومية عن طريق الادعاء المدني في مواجهة حدث، ولكنه يمكن أن ينضم إلى الدعوى العمومية التي تقيمها النيابة العامة ويطالب بالحق المدني في مواجهة الحدث بإدخال المسؤول عنه مدنيا. كما لا يمكن للجمعيات إقامة الدعوى العمومية نيابة عن المتضرر، ولكن يحق لها الانضمام كطرف مدني للدعوى العمومية التي يقيمها المتضرر أو النيابة العامة.
وحسب المادة السابعة من قانون المسطرة الجنائية فإن الجمعيات المعترف لها بصفة المنفعة العامة، والتي تأسست بصفة قانونية قبل ارتكاب الجريمة منذ أربع سنوات على الأقل، يمكنها أن تنتصب طرفا مدنيا بشأن جريمة تمس مجال اهتمامها المنصوص عليه في قانونها الأساسي، وذلك إذا كانت الدعوى العمومية قد تمت إقامتها من طرف النيابة العامة أو الطرف المدني.
ورغم أن النص لا يتحدث عن حق الجمعيات في مثل هذا التدخل إذا كانت الدعوى العمومية قد أقيمت من طرف جهة أخرى يخولها القانون هذا الحق، فنرى أنه لا مانع من قبول انتصاب الجمعية، لأن الغاية التي توخاها المشرع كانت هي عدم فسح المجال للجمعيات لتحريك الدعوى العمومية عن طريق الاستدعاء المباشر، وليس حرمانها من التدخل كطرف مدني متى كانت الدعوى العمومية قد تمت إقامتها من طرف جهة أخرى مختصة.
2) الطرف المدعى عليه في الدعوى العمومية :
تبعاً لما نصت عليه المادة الثالثة من قانون المسطرة الجنائية فإن الدعوى العمومية تمارس ضد الفاعل الأصلي للجريمة والمساهمين والمشاركين في ارتكابها. ويقصد بالفاعل الأصلي للجريمة كل شخص يعتبره القانون مسؤولاً جنائياً وشخصيا عن الجريمة ولو لم ينفذها بنفسه، ولم يتحقق فيه وصف المساهمة أو المشاركة المحدد في المادتين 128و 129 من القانون الجنائي.
أما المساهم في ارتكاب الجريمة، فهو كل من ارتكب شخصيا عملا من أعمال التنفيذ المادي للجريمة. ويختصر الفقه هذا التعريف بالقول إن المساهم هو الفاعل مع الغير. وأما المشارك في الجناية أو الجنحة فهو من لم يساهم في تنفيذها، ولكنه قام بأحد الأفعال المبينة في الفصل 129 من مجموعة القانون الجنائي. وهي على العموم الأمر أو التحريض بوسائل معينة على ارتكاب الفعل، أو تقديم أسلحة أو أدوات أو وسائل تساعد على ارتكابه، أو المساعدة على الأعمال التحضيرية.
وتمارس الدعوى العمومية في مواجهة الشخص المسؤول جنائيا ولو كان يتمتع بعذر يعفيه من العقاب، ما دام أنه في الإمكان أن يتعرض للتدابير الوقائية الشخصية أو العينية طبقاً للفصل 145 من القانون الجنائي. ومرتكب الجريمة ليس دائما شخصا ذاتيا، إذ يمكن أن يكون شخصاً قانونيا. فالفصل 127 من القانون الجنائي، قرر المسؤولية الجنائية للأشخاص الاعتبارية، إلا أن العقوبة التي تصدر في حقها تقتصر على العقوبات المالية وبعض العقوبات الإضافية والتدابير الوقائية العينية.
ثانيا – قيود المتابعة وسقوط الدعوى العمومية :
إذا كانت القاعدة العامة أن كل جريمة تفسح المجال لإقامة الدعوى العمومية، فإن بعض الظروف قد تحول دون ممارسة هذا الحق من طرف الجهة الموكول إليها أمر إقامة الدعوى العمومية. وهذه الظروف قد تتجلى في شكل موانع تمنع من إقامة الدعوى المومية منذ البداية. وهذه هي ما عبرنا عنه بقيود المتابعة. كما تتجلى هذه الظروف في أسباب تطرأ بعد ارتكاب الجريمة وقبل إقامة الدعوى العمومية أو بعد إقامتها، وتؤدي إلى سقوط الدعوى العمومية وتعذر مواصلتها.
1) قيود المتابعة :
هناك قيود تغل يد النيابة العامة أو الجهة المسموح لها بإقامة الدعوى العمومية عن المتابعة نهائيا أو بصفة مؤقتة، إلى أن يتحقق الشرط الذي يستلزمه القانون لممارسة الدعوى العمومية كالحصانة أو الأمر أو الشكاية أو سقوط الدعوى العمومية.
أ – الحصانة القضائية
يسري القانون الجنائي المغربي على الجميع، إلا أن هناك استثناءات مقررة في القانون العام الداخلي والقانون الدولي. ومن بين هذه الاستثناءات، الملك و الدبلوماسيون وأعضاء البرلمان.
– الملك : ينص الفصل 46 من الدستور المغربي على أن: « شخص الملك لا تنتهك حرمته، وللملك واجب التوقير والاحترام».
– الدبلوماسيون : على الرغم من عدم وجود نص صريح في القانون الداخلي المغربي يمنح الحصانة من المتابعة للأعوان الدبلوماسيين، فإن مصادقة المملكة المغربية على بعض الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحصانة الممثلين الدبلوماسيين وموظفي بعض الهيئات الدولية تجعل القضاء المغربي ملزما بمراعاة قواعد الحصانة القضائية بالنسبة لهؤلاء الأشخاص. وقد رتب الفصل 229 من القانون الجنائي عقوبة على خرق قواعد الحصانة القضائية.
– أعضاء البرلمان : ينظم الفصل 64 من الدستور المغربي موضوع الحصانة البرلمانية. ويمكن أن نميز بين نوعين من أنواع الحصانة البرلمانية حصانة موضوعية وحصانة إجرائية،
فالحصانة الموضوعية هي المحددة بمقتضى الفصل 64 من الدستور التي تنص على عدم متابعة أي عضو من أعضاء البرلمان ولا البحث عنه ولا إلقاء القبض عليه ولا اعتقاله ولا محاكمته، بمناسبة إبدائه لرأي أو قيامه بتصويت خلال مزاولته لمهامه ما عدا إذا كان الرأي المعبر عنه يجادل في النظام الملكي أو الدين الإسلامي أو يتضمن ما يخل بالاحترام الواجب للملك. ويمكن القول إن الحصانة الموضوعية هي بمثابة لا مسؤولية البرلماني عن الأفعال المشار إليها، وأما الحصانة الإجرائية، فهي لا تعني عدم مساءلة عضو البرلمان، وإنما تربط مساءلته بإجراءات مسطرية يتعين على الجهة المعنية بإقامة الدعوى العمومية سلوكها.
ب – الاختصاص
في بعض الحالات يتعذر على النيابة العامة إقامة المتابعة نظرا لأن المشرع أسند إثارة الدعوى العمومية إلى جهات أخرى غيرها، منها: الجرائم التي يرتكبها أحد أعضاء الحكومة أثناء ممارستهم لمهامهم، والتي تختص بها المحكمة العليا، والجرائم المرتكبة من طرف بعض سامي الموظفين مثل التي يرتكبها أعضاء الحكومة خارج ممارسة مهامهم، وأعضاء السلك القضائي، والوالي والعامل، ولو خارج مهامهم، وباشا أو خليفة أول للعامل أو رئيس دائرة أو قائد أو ضباط للشرطة القضائية، بالنسبة للجنايات والجنح التي يرتكبونها أثناء مزاولتهم لوظيفتهم.
ج – اشتراط أمر بالمتابعة أو شكاية
إذا كانت القاعدة العامة تقضي أن النيابة العامة يمكنها إقامة الدعوى العمومية كلما توفرت لديها أدلة على ارتكاب فعل جرمي، وارتأت في إطار سلطتها التقديرية جدوى للقيام بذلك، من غير أن تكون بحاجة لأن يتقدم إليها المتضرر بشكاية أو أن تأذن لها جهة أخرى بذلك. فإنها لا تستطيع في بعض الحالات أن تقيم الدعوى العمومية إلا إذا تقدم المتضرر بشكاية. وفي حالات أخرى قد تتوقف الدعوى العمومية على صدور أمر أو إذن بإقامتها من جهة يخولها القانون هذه الصلاحية.
– توقف المتابعة على شكاية : هناك حالات يشترط القانون تقديم شكاية من الجهة المتضررة قبل أن يصبح متاحا للنيابة العامة ممارسة الدعوى العمومية، كما هو الشأن بالنسبة لجريمة إهمال الأسرة (الفصلان 479 و 480 ق الجنائي) ، وجريمة الخيانة الزوجية ( الفصل 491 ق ج)، والسرقة المرتكبة في حق الأصول ( الفصل 535 ق ج )، واستعمال ناقلة دون إذن مالكها (الفصل 522 ق ج)، وجريمة خيانة الأمانة المنصوص عليها في الفصل 548 من ق ج. وكذلك جرائم القذف في قانون الصحافة…
ففي مثل هذه الحالات التي تشترط فيها شكاية من أجل إقامة الدعوى العمومية، لا يمكن تحريك المتابعة قبل تقديم الشكاية وإلا كانت باطلة. ويحق للمتهم أو المسؤول المدني الدفع بهذا البطلان في سائر أطوار المسطرة وأمام محكمة النقض مباشرة. وعلى المحكمة إثارة البطلان تلقائيا، وتبقى المتابعة باطلة ولو قدمت الشكاية بعد ذلك، فيتعين أن تكون المتابعة لاحقة للشكاية لا سابقة عليها.
ومن جهة أخرى فإن تقديم الشكاية إذا كانت شرطا ضروريا للمتابعة، وإن كان يسمح للنيابة العامة بإقامة الدعوى العمومية فإنه لا يلزمها بذلك، وتبقى لها سلطة الملاءمة لذلك.
2) سقوط الدعوى العمومية :
نصت المادة الرابعة من قانون المسطرة الجنائية ” تسقط الدعوى العمومية بموت الشخص المتابع وبالتقادم وبالعفو الشامل وبنسخ المقتضيات الجنائية التي تجرم الفعل وبصدور مقرر اكتسب قوة الشيء المقضي به. وتسقط بالصلح عندما ينص القانون على ذلك. تسقط أيضا بتنازل المشتكي عن شكايته إذا كانت الشكاية شرطاً ضروريا للمتابعة. ما لم ينص القانون على خلاف ذلك”.
– وفاة الشخص المتابع :
المسؤولية الجنائية مسؤولية شخصية، فإذا مات الشخص المتابع قبل إقامة الدعوى العمومية، تعين على النيابة العامة حفظ الملف. أما إذا أقيمت الدعوى العمومية بعد الموت، فيجب على المحكمة أن تصرح بعدم قبولها، و إذا مات الشخص المتابع بعد إقامة الدعوى العمومية أو أثناء سريان إجراءاتها، فيجب على المحكمة المعروضة عليها القضية أو قاضي التحقيق التصريح بسقوط الدعوى العمومية.
وتصريح المحكمة بسقوط الدعوى العمومية لا يعتبر فصلا فيها، وإنما مجرد إعلان عن إنهاء إجراءات المتابعة. أما الدعوى المدنية التابعة فتتابع فيها الإجراءات ضد الورثة والمسؤول عن التعويض المدني طبقا للمادة 12 من قانون المسطرة الجنائية.
– التقادم :
تقضي المادة الخامسة من قانون المسطرة الجنائية على أنه تتقادم الدعوى العمومية، ما لم تنص قوانين خاصة على خلاف ذلك: بمرور عشرين سنة ميلادية كاملة تبتدئ من يوم ارتكاب الجناية، وبمرور خمس سنوات ميلادية كاملة تبتدى من يوم ارتكاب الجنحة، و بمرور سنتين ميلاديتين كاملتين تبتدئات من يوم ارتكاب المخالفة. غير أنه إذا كان الضحية قاصرا وتعرض لاعتداء جرمي ارتكبه في حقه أحد أصوله أو من له عليه رعاية أو كفالة أو سلطة، فإن أمد التقادم يبدأ في السريان من جديد لنفس المدة ابتداء من تاريخ بلوغ الضحية سن الرشد المدني.
و هناك قوانين خاصة تنص على أجال أخرى للتقادم بعضها أطول مما نص عليه قانون المسطرة الجنائية، كقانون العدل العسكري الذي يقضي بأن مدة التقادم في جريمتي العصيان والفرار من الجندية، لا تبتدئ إلا من اليوم الذي بلغ فيه سن الجاني خمسين سنة. ومنها ما يقرر أحكاماً أخف كالمادة 25 من قانون الصيد البري التي قررت تقادم الدعوى بعام واحد من تاريخ إنجاز المحضر المثبت للمخالفة. وكتقادم جريمة القذف بواسطة الصحافة بستة أشهر من تاريخ نشر المقال أو إجراء المتابعة.
ويعتبر تاريخ ارتكاب الجريمة هو منطلق احتساب أجل التقادم ومؤدى ذلك أنه إذا انصرمت المدة التي يحددها المشرع دون أن تبادر النيابة العامة أو الجهة المخول إليها حق إقامة الدعوى العمومية إلى ممارسة هذه الدعوى، فإن الدعوى تعتبر قد سقطت بمضي المدة وتمتنع بعد ذلك ممارستها، ويتعين على القضاء – في كل الأحوال – التصريح بسقوطها.
وتعتبر مدة التقادم ( عملا بالمادة 750 ) من الأجال الكاملة لا تشمل اليوم الأول ولا اليوم الأخير. أي أنه لا يحسب ضمن المدة يوم ارتكاب الجريمة ويوم القيام بإجراء المتابعة، وإذا كان اليوم الأخير يوم عطلة امتد الأجل إلى أول يوم عمل بعده، غير أن مدة التقادم يمكن أن تستمر أكثر من المدد المشار إليها في المادة الخامسة، وذلك في الحالات التي يطرأ فيها إجراء قاطع أو سبب موقف للتقادم.
والإجراء القاطع لمدة التقادم هو كل إجراء من إجراءات التحقيق أو من إجراءات المتابعة تقوم به السلطة القضائية أو تأمر بالقيام به وإجراءات التحقيق هي الإجراءات التي تندرج في إطار التحقيق الإعدادي أو التحقيق النهائي لقضية من القضايا وتقوم به السلطة القضائية إما في إطار مسطرة التحقيق الإعدادي أو في إطار تحقيق تكميلي، أو في إطار مناقشة قضية بالجلسات. وأما إجراءات المتابعة فهي كل الإجراءات التي تقوم بها الجهة المكلفة بإقامة الدعوى العمومية لعرض الخصومة على القضاء قصد البت فيها.
ويترتب على الإجراء القاطع اعتبار الزمن الذي مضى منذ ارتكاب الفعل الجرمي كأن لم يكن، ويبدأ احتساب مدة التقادم بكاملها من جديد انطلاقا من تاريخ الإجراء القاطع. ويمكن أن يتكرر الأمر أكثر من مرة.
وأما السبب الواقف فيتمثل في استحالة إقامة الدعوى العمومية الناتجة عن القانون نفسه. ولا يعني توقف التقادم إهمال احتساب المدة المنصرمة منذ تاريخ ارتكاب الجريمة، وإنما يعني أن حساب التقادم يتوقف في التاريخ الذي يطرأ فيه المانع القانوني الذي يحول دون إقامة الدعوى العمومية، ويستأنف السريان بارتفاع المانع، مع احتساب المدة السابقة عن التوقف.
ويعود التقادم إلى مجراه من جديد ابتداء من اليوم الذي ترتفع فيه الاستحالة لمدة تساوي ما بقي من آمده وقت توقفه، بمعنى أن توقف التقادم تبقى معه المدة السابقة على التوقف قائمة، وتبدأ فترة أخرى ليتحقق التقادم بجمع الفترتين معا (الفقرة الخامسة من المادة 6).
– العفو الشامل :
العفو الشامل Ammistic يتم بنص تشريعي صريح. ويحدد النص المذكور ما يترتب على العفو الشامل ( أو العام ) من آثار دون المساس بحقوق الغير. وإذا صدر العفو الشامل قبل إقامة الدعوى العمومية غل يد النيابة العامة عن تحريكها. وإذا صدر أثناء مواصلة إجراءاتها كان سببا لسقوط الدعوى العمومية، وإذا صدر بعد صدور الحكم البات فيها فإنه يؤدي إلى سقوط العقوبة.
– العفو الخاص :
ينص الفصل 53 من مجموعة القانون الجنائي على أن العفو من حقوق الملك، وأنه يباشر طبقاً للظهير الشريف رقم 1.57.387 الصادر في 6 فبراير 1958 . ويتعلق الأمر بالعفو الخاص. وبمقتضى ظهير 6 فبراير 1958 المعدل بظهير 1977/10/8 يمكن إصدار العفو قبل تحريك المتابعة أو خلال ممارسة الدعوى العمومية أو بعد إصدار حكم بعقوبة أصبح نهائيا. والعفو الصادر قبل الشروع في المتابعات أو خلال إجرائها، يحول دون ممارسة الدعوى العمومية أو يوقف سيرها حسب الحالة في جميع مراحل المسطرة ولو أمام محكمة النقض.
– نسخ المقتضيات الجنائية التي تجرم الفعل :
إذا ارتكب شخص فعلا يعاقب عليه التشريع الجنائي، ثم صدر قانون جديد ينسخ النص الذي كان يجرم ذلك الفعل، قبل متابعة الفاعل أو أثناء إجراءات المتابعة، فإن الدعوى العمومية تسقط بسبب رفع صفة الإجرام عن الفعل الذي كان معاقبا عليه ساعة ارتكابه، ولم يبق كذلك ساعة إجراء المتابعة من أجله أو أثناء المحاكمة. وإذا صدر القانون الجديد بعد اكتساب الحكم بالعقوبة حجية الأمر المقضي، فإن أثره ينسحب إلى العقوبة ويؤدي إلى وضع حد لتنفيذها.
وقد نص الفصل الخامس من القانون الجنائي أنه ” لا يسوغ مؤاخذة أحد على فعل لم يعد يعتبر جريمة بمقتضى قانون صدر بعد ارتكابه فإذا كان قد صدر حكم بالإدانة فإن العقوبات المحكوم بها أصلية كانت أو إضافية، يجعل حد لتنفيذها”. إلا أن مقتضيات الفصل 5 من القانون الجنائي لا تسري على القوانين المؤقتة التي تظل مقتضياتها سارية على الجرائم التي ارتكبت خلال مدة تطبيقها.
– صدور مقرر اكتسب قوة الشيء المقضي به :
من القواعد الأساسية التي تقوم عليها أسس المحاكمة العادلة، عدم إمكانية محاكمة شخص مرتين من أجل الفعل الواحد حتى ولو اتصف الفعل بأكثر من وصف. ولذلك فقد قضت المادة 4 من ق م ج أن الدعوى العمومية تسقط بصدور مقرر اكتسب قوة الشيء المقضي به، إلا أن الاحتجاج بسبقية الحكم في الموضوع، وبالتالي التصريح بسقوط الدعوى الجديدة، لا يقبل إلا إذا توفرت في الحكم السابق الشروط التالية:
– أن يكون حكما قضائياً صادراً عن سلطة قضائية، وقد عبرت المادة الرابعة بلفظ مقرر، والمقرر في مفهوم قانون المسطرة الجنائية هو الحكم أو القرار أو الأمر الصادر عن هيئة قضائية.
– أن يكون الحكم حائزاً لحجية الشيء المقضي به أي غير قابل للطعن فيه بالتعرض أو الاستئناف أو النقض إما لأنه كذلك بطبيعته، وإما لأنه قد استنفذ طرق الطعن فيه، وإما لفوات مواعيد الطعن.
– أن يكون الحكم قطعياً، أي حاسماً في موضوع النزاع مما يحول دون عرضه على القضاء من جديد.
– الصلح :
يسمح القانون بإجراء المصالحة بشأن بعض الجرائم ويعتبر ذلك من أسباب انقضاء المتابعة الجنائية بشأنها. ومن بين النصوص القانونية التي تقضي صراحة بجواز المصالحة النصوص الآتية:
– المادة 74 من ظهير 1917/10/17 المتعلق بالمحافظة على الغابات.
– المادة 22 مكرر من ظهير 1923/7/21 المنظم للصيد البري.
– المادة 33 من ظهير 1926/04/11 المنظم لصيد السمك في المياه الداخلية.
– المادة 53 من ظهير 1973/11/23 المنظم للصيد البحري.
– المواد من 273 إلى 277 من مدونة الجمارك الصادرة في 77/10/9.
ففي مثل هذه الحالات يتعين على المحكمة، إذا أبرم الصلح أن تصرح بسقوط الدعوى العمومية، لأن الصلح يعتبر من أسباب انقضائها. وإذا كانت الدعوى العمومية لم تتم ممارستها بعد، فينبغي على النيابة العامة أن تقرر حفظها لسقوطها بسبب الصلح.
ومن البديهي أن الصلح لا يعتبر مسقطاً للدعوى العمومية إلا إذا كان القانون يرتب عليه هذا الأثر، وأما في الحالات الأخرى فإن الدعوى العمومية تبقى صحيحة، ويقتصر تأثير الصلح على مقتضيات الدعوى المدنية التابعة، وأحياناً تأخذه المحكمة بعين الاعتبار عند تقدير العقوبة.
– التنازل عن الشكاية :
من أسباب سقوط الدعوى العمومية سحب الشكوى متى كانت شرطاً ضرورياً للمتابعة، ولذلك فإن التنازل عن الشكاية ينهي الدعوى العمومية في جميع الجرائم التي تتوقف فيها المتابعة على شكاية. ومن بين الجرائم التي تتوقف المتابعة فيها على شكاية جريمة الخيانة الزوجية. وينص الفصل 492 من القانون الجنائي على أن سحب الشكاية يضع حداً لآثار الحكم بالمؤاخذة الصادر ضد الزوج أو الزوجة.
والجدير بالذكر أن التنازل عن الشكاية يعتبر من أسباب سقوط الدعوى العمومية، متى كانت الشكاية شرطا أساسيا لتحريك المتابعة، دون حاجة لأن يصرح النص صراحة بذلك، لأن مقتضيات المادة الرابعة عامة تنطبق على جميع الجرائم التي تتوفر فيها هذا الشرط، اي التي تكون فيها الدعوى العمومية متوقفة على تقديم شكاية.