التعسف في اللغة هو اخذ الشيء على غير طريقته ومثله الاعتساف، وعسفه عسفا أخذه بقوة، وعسف في الأمر، فعله من غير روية ولا تدبر، واصطلاحا اختار البعض تعبير المضارة في استعمال الحق، وفي لغة القانون يعرف بأنه انحراف بالحق عن غايته أو استعمال الحق على وجه غير مشروع.
بموجب هذه النظرية – نظرية عدم التعسف في استعمال الحق- يجب على المالك أن يمارس حقه في الحدود المقررة بمقتضى القانون أو الاتفاق أو الأنظمة الجاري بها العمل، فإذا تعسف في استعمال حقه كان ذلك خطأ موجب لإثارة مسؤوليته.
ولقد كانت الشريعة الإسلامية سباقة إلى إقرار نظرية التعسف في استعمال الحق، وطبقتها على أوسع مدى في حقل الملكية العقارية، فهي لم تحصر إساءة استعمال الحق في الأعمال التي يجريها المالك قصد إيقاع الضرر بالغير، بل اعتبرت من قبيل إساءة الاستعمال للأعمال التي ينشأ عنها ضرر فاحش للجار حتى لو لم تكن مقترنة بأي قصد جرمي.
وقد أقرت معظم التشريعات المقارنة نظرية التعسف في استعمال الحق خاصة في مجال الملكية العقارية، حيث أضفت على حق الملكية صيغة اجتماعية يجب أن يمارس في إطار القيود المقررة عليها.
وهكذا نصت المادة 906 من القانون المدني الألماني على انه “لا يجبر المالك على أن يتحمل في ملكه الغازات والأبخرة والروائح والدخان والهبات والحرارة، والضوضاء والاهتزاز ونحوها إلا إذا كان الضرر الناشئ عنها تافها زهيدا أو إذا كانت ناتجة عن استعمال العقار، استعمالا عاديا حسب عرف المكان”.
وفي فرنسا رغم عدم وجود نص ينظم نظرية التعسف في استعمال الحق إلا أنه تم الاستعانة بالفقه والقضاء لإقرار هذه النظرية، وهكذا ذهب الاجتهاد القضائي الفرنسي إلى تطبيق هذه النظرية خاصة على الملكية العقارية بناء على مقتضيات الفصل 1382 من القانون المدني القائل بوجوب التعويض عن الضرر الناشئ عن فعل الغير.
كما حددت المادة الخامسة من القانون المدني المصري حالات التعسف في استعمال حق الملكية في صور ثلاث إذ تقول: “يكون استعمال الحق غير مشروع في الأحوال الآتية:
– إذا لم يقصد به سوى الإضرار بالغير.
– إذا كانت المصلحة التي يرمي إلى تحقيقها قليلة الأهمية بحيث لا تتناسب البتة مع مايصيب الغير من ضرر بسببها.
– إذا كانت المصلحة التي يرمي إلى تحقيقها غير مشروعة”.
أما بالنسبة للتشريع المغربي فإنه بالرجوع إلى ظهير 19 رجب الملغى نجده لا ينص على هذه النظرية ذلك أن الفصل التاسع منه نص على ما يمنحه حق الملكية لصاحبه من سلطة الاستعمال والاستغلال والتصرف لكن في حدود القوانين والأنظمة، دون الإشارة بشكل صريح إلى هذه النظرية.
ومدونة الحقوق العينية لم تختلف عن ظهير 19 رجب كثيرا فهي لم تنص بشكل واضح وصريح على نظرية التعسف في استعمال الحق إلا أنه مع ذلك يمكن الاستناد إلى بعض النصوص المضمنة بمدونة الحقوق العينية لإقرار هذه النظرية وهكذا فإنه بالرجوع إلى المادتين 14 و 19 نجدهما تنصان على أن لصاحب حق الملكية سلطة استعماله واستغلاله والتصرف فيه لكن في حدود القانون أو الاتفاق أو الأنظمة الجاري بها العمل.
كما تنص المادة 20 من مدونة الحقوق العينية على انه لا يسوغ لمالك العقار أن يتصرف فيه تصرفا ضارا بحقوق الغير المتعلقة بذلك العقار، ونصت المادة 21 على أنه: ” لا يسوغ لمالك العقار أن يستعمله استعمالا مضرا بجاره ضرار بليغا”.
من خلال ما تقدم يمكن أن نقول بأن مدونة الحقوق العينية أقرت نظرية التعسف في استعمال الحق وإن كان ذلك بشكل غير صريح فإذا كان حق الملكية حقا مطلقا فهو مقيد بالقانون والاتفاق والأنظمة الجاري بها العمل، وبعدم الإضرار بحقوق الغير.
وبالرجوع إلى قانون الالتزامات والعقود نجد مجموعة من الفصول التي تقر نظرية التعسف في استعمال الحق ومنها الفصل 94 الذي ينص على انه : “لا محل للمسؤولية المدنية إذا فعل شخص بغير قصد الإضرار ما كان له الحق في فعله.
غير انه إذا كان من شأن مباشرة هذا الحق أن تؤدي إلى إلحاق ضرر فادح بالغير وكان من الممكن تجنب هذا الضرر، أو إزالته من غير أذى جسيم لصاحب الحق، فإن المسؤولية المدنية تقوم إذا لم يجر الشخص ما كان يلزمه لمنعه أو إيقافه”.
بناء على هذا الفصل فإن ممارسة الحق في نطاقه ودون قصد الإضرار لا يوجب المسؤولية المدنية، أما إذا توافر قصد الإضرار فذلك تعسف في استعمال الحق يكون سببا لإقرار المسؤولية المدنية ولقيام التعويض، كما أن نفس الفصل يشترط لقيام التعسف أن يسبب صاحب الحق ضررا فادحا للغير عند استعماله لحقه.
كما نص الفصل 77 من قانون الالتزامات والعقود على أن كل عمل يرتكبه الإنسان…. ويكون من شانه أن يحدث ضررا للغير يلزم مرتكبه بتعويض هذا الضرر، وهذه القاعدة هي التي وردت في الفصل 1382 من القانون المدني الفرنسي والتي استند إليها القضاء في فرنسا لإقرار نظرية إساءة استعمال الحق.
وبالرجوع إلى الفصل 91 من قانون الالتزامات والعقود نجده يمنح الحق للجار في أن يطلب من أصحاب المحلات المضرة بالصحة أو المقلقة للراحة، إما إزالة هذه المحلات، وإما إجراء ما يلزم فيها من التغيير للقضاء على الأضرار التي يتظلم منها وأوضح أن الترخيص الصادر عن السلطات المختصة لا يحول دون ذلك، لكن الضرر المطلوب إزالته هو الضرر المحقق وليس الضرر الاحتمالي.
ثم إن قراءة الفصل 92 من قانون الالتزامات والعقود بمفهوم المخالفة تبين أن المشرع المغربي منح للجار الحق في إلزام جاره بإزالة الضرر الذي يتجاوز الحد المألوف، أما إذا كان ناشئا عن الالتزامات العادية التي لا يمكن تجنبها، والتي لا تتجاوز الحد المألوف فلا يمكن المطالبة بإزالتها.
انطلاقا من هذه النصوص سواء الواردة في مدونة الحقوق العينية أو قانون الالتزامات والعقود يتبين أن المشرع المغربي اخذ هو الآخر بنظرية التعسف في استعمال الحق وطبقها على الملكية العقارية، على غرار ما ذهبت إليه التشريعات الحديثة، وكذلك الشريعة الإسلامية التي كانت سباقة إلى الأخذ بهذه النظرية.