ثمة ترابط قوي بين مبدأ مجانية القضاء ومبدأ المساعدة القضائية. فإذا كان الأول يعني أن فصل القاضي في النزاعات لا يتطلب أداء مقابل لذلك من الأطراف. أي أن المتقاضين لا يؤدون الرواتب ولا أي مقابل للقضاة الذين يبتون في نزاعاتهم. وهذا فيه تشجيع للجوء إلى المحاكم من أجل تمكين أصحاب الحقوق من حقوقهم.
فإن الثاني يفيد بمفهوم المخالفة أن هناك نفقات يتعين أداؤها من قبل المتداعين. وقد يبدو أن مبدأ المجانية أصبح فارغ المحتوى. لكن من الضروري التمييز بين المجانية وأداء المصاريف اللازمة للدعوى انطلاقا من تقييدها بكتابة الضبط إلى حين البت فيها، بل وإلى أن يتم تنفيذها.
فالمجانية لها علاقة بمبدأ دستوري هام يتمثل في الحق في التقاضي، ولها علاقة كذلك بالمهمة الموكلة دستوريا للقضاء كسلطة ثالثة بالدولة إلى جانب السلطتين التشريعية والتنفيذية. إذ من المنطقي أن تتكفل الدولة بأداء رواتب القضاة لا المتقاضي، حفاظا على مبدأ استقلال القضاء. وتلافيا للانحياز الذي قد يكون أداء الأطراف لرواتب القضاة سببا فيه.
وقد نصت المادة 6 من قانون التنظيم القضائي في هذا السياق على هذا المبدأ حين أكدت أنه :” طبقا لأحكام الفصل 121 من الدستور، يكون التقاضي مجانيا في الحالات المنصوص عليها قانونا لمن لا يتوفر على موارد كافية للتقاضي. تتم الاستفادة من المساعدة القضائية والمساعدة القانونية طبقا للشروط التي يحددها القانون”.
وتجدر الإشارة إلى مسألة في غاية الأهمية وردت في هذه المادة تتمثل في المفهوم الجديد للمجانية ذلك أن هذه المادة لا تعتبر المجانية مبدأ أصليا يهم جميع المواطنين والمتقاضين وإنما جعلته مقتصرا على من لا يتوفر على الموارد المالية الكافية أي أن المادة تسوي بين مبدأ المجانية ومبدأ المساعدة القضائية والقانونية.
والتوجه الجديد لقانون التنظيم القضائي يتناقض مع ما تم الاستقرار عليه فقها وقضاء حيث اعتبار المجانية ممنوحة لكل المواطنين والمتقاضين بدون استثناء مادام أن الأمر يتعلق برواتب وأجور القضاة والموظفين والعاملين بالمحاكم والمؤسسات القضائية على اختلاف أنواعها والتي تتولى الدولة أداءها ولا دخل للمواطنين ولا للمتقاضين بذلك.
أما بالنسبة للمصاريف والرسوم القضائية اللازمة للتقاضي فهي التي يستفيد المتقاضي المحتاج أو المعوز من أدائها ليس في إطار المجانية وإنما في إطار المساعدة القضائية أو القانونية شريطة التوفر على كافة الشروط الموضوعية والشكلية التي يتطلبها القانون في هذا الصدد.
يضاف إلى ما سبق أن الفرق شاسع بين مبدأ مجانية القضاء ومبدأ المساعدة القضائية، فالمبدأ الأول ذو طبيعة دستورية وله علاقة بمبدأ دستوري وحقوقي آخر يتمثل في الحق في اللجوء إلى القضاء، وهذا مبدأ لا يقتصر على المعوزين والمحتاجين فحسب، وإنما هو حق مكفول دستوريا لكل من تعرض أحد حقوقه للمساس أو الاعتداء من قبل الغير بحيث يجوز له أن يطالب بحقه أمام القضاء وبدون قيود ولا أداء.
أما مبدأ المساعدة القضائية فهو معزز لمبدأ المجانية ومعضد له، فالأصل كما هو معلوم أن تفرض رسوم ومصاريف على ممارسة الدعوى دون فسح المجال أمام المتقاضين الكيديين، وبديهي ألا تتولى الدولة أداء هذه الرسوم وتلك المصاريف لأن الأمر متعلق بأصحاب الشأن، ولأن المصاريف مرتبطة بالإجراءات التي يطلبها الطرف وهي إجراءات تختلف من دعوى لأخرى بناء على إرادة واختيار الأطراف وليس باختيار القضاء لأن المشرع أوجدها لفائدة الأطراف ولهم أن يقدروا الأجدى فيسلكوه ما لم يتعلق الأمر بما له علاقة بالنظام العام.
ولما كان الأمر كذلك نقترح أن يعاد النظر في المقتضيات المنصوص عليها دستوريا وتشريعيا في هذا المقام التي تخلط بين مبدأ المجانية كمبدأ دستوري سام وبين المساعدة القضائية والقانونية ذات الطبيعة القانونية العادية والتي تتعلق بالمصاريف والرسوم، وذلك كله من أجل رفع الغموض وعدم المساس بالاستقرار الفقهي والقضائي الذي دام لسنوات ليس بالقانون المغربي فحسب وإنما بالنسبة للقوانين المقارنة أيضا.
أما المصاريف والرسوم القضائية اللازمة لإجراءات الدعاوى فتقع على المتقاضي دون أن يتعارض ذلك مع مبدأ المجانية المتعارف عليه في الكثير من الأنظمة القضائية المقارنة. ومرد وجوب مصاريف ونفقات الدعوى على المتقاضين إلى عدم استقامة إلزام الدولة بدفعها لأن صاحب المصلحة هو المفروض فيه القيام بذلك.
من ناحية أخرى إن تمديد مبدأ مجانية القضاء إلى المصاريف اللازمة لسير الدعوى ( رسوم تقييد الدعوى، والتبليغات وأجور الخبراء، وأتعاب المحامين، وأجور التراجمة ومصاريف تنقل الشهود، ومصاريف المعاينات، والتنفيذات …..) فيه تشجيع على تكاثر وتزايد الدعاوى الكيدية، وعلى التقاضي بسوء نية ما دام أن المتقاضي يعلم مسبقا أنه غير ملزم بأي أداء، ولا متبوعا بأي جزاء حتى ولو ثبت أن رفعه للدعوى أو قيامه بإجراء ما، لم يكن يرمي إلا إلى الكيد بغريمه وتطويل الإجراءات دون وجه حق.
ومن ثم يكون المشرع قد وفق وإلى حد بعيد في جعل المصاريف المختلفة التي تتطلبها الدعاوى على نفقة المتقاضين لا الدولة. وهكذا نظم قانون المسطرة المدنية هذا الجانب في الفصول من 124 إلى 129. ومما ورد في هذا الإطار أنه : “يحكم بالمصاريف على كل طرف خسر الدعوى سواء كان من الخواص أو إدارة عمومية. يجوز الحكم بحسب ظروف القضية بتقسيم المصاريف بين الأطراف كلا أو بعضا”. وبذلك يكون المشرع قد حسم بشكل لا لبس فيه أن المصاريف أيا كان نوعها تقع على الأطراف ولو كانوا إدارة عمومية.
بيد أنه قد يكون أحد الأطراف فقيرا ومعوزا لا يقوى على أداء المصاريف التي تتطلبها الدعوى من بدايتها إلى نهايتها. ومن ثم يستوجب الأمر وضع قواعد خاصة به تجعله يتقاضى دون أن تقف المصاريف عائقا أمام حصوله على حقوقه.
وقد انتبه المشرع إلى مثل هذه الحالات فأصدر مقتضيات تعفي المتقاضي المعوز من أداء المصاريف، وهو ما يعرف بالمساعدة القضائية. ففي فاتح نونبر 1966 صدر مرسوم ملكي يتعلق بالمبدأ المشار إليه. وتشمل المساعدة القضائية كل مراحل التقاضي سواء تعلق الأمر بالمرحلة الابتدائية (الدرجة الأولى) أو بمرحلة الاستئناف (الدرجة الثانية) أو بمرحلة النقض.
وللحصول على المساعدة القضائية ينبغي التوفر على الشروط الآتية : تقديم طلب إلى وكيل الملك لدى المحكمة التي ستنظر في النزاع – إثبات الطالب للمساعدة لفقره وحاجته وعدم قدرته على تحمل الصوائر والرسوم القضائية الخاصة بالدعوى التي هو طرف فيها.
وتم إحداث مكاتب للمساعدة القضائية على مستوى محاكم الموضوع وكذا على مستوى محكمة النقض مكونة من أعضاء ينتمون للنيابة العامة، وقضاة، وأعضاء من هيأة الدفاع.
وتجدر الإشارة إلى أن ثمة نوعين من المساعدة القضائية : المساعدة القضائية بناء على طلب والمساعدة القضائية بقوة القانون. وكما هو واضح من خلال التسميتين فهناك عدة نقاط للاختلاف بين النوعين نشير إلى بعضها باختصار :
المساعدة القضائية بناء على طلب لا تمنح إلا إذا توافرت الشروط التي ينص عليها المرسوم المؤرخ في 1966 والمتمثلة في تقديم طلب، وإثبات العسر. أما المساعدة الممنوحة بقوة القانون فلا تستوجب مثل هذين الشرطين وإنما يكفي أن يكون المستفيد ممن متعهم القانون بالمساعدة القضائية لغاية معينة كما هو الشأن بالنسبة للأجراء في مجال الشغل.
تنتهي المساعدة القضائية بناء على طلب بمجرد صدور الحكم عن المحكمة التي قدم الطلب أمام وكيل الملك لديها بمعنى أنها تنتهي بانتهاء المرحلة التي تمت فيها. وإن رغب المعني في الاستفادة منها في المرحلة القضائية اللاحقة، فما عليه إلا أن يتقدم بطلب جديد إلى ممثل النيابة العامة لدى المحكمة الأعلى.
أما المساعدة القضائية بقوة القانون فتستمر إلى حين انتهاء مرحلة البت على مستوى الدرجة الثانية. وبعد ذلك تفقد طابعها القانوني التلقائي لتصبح مساعدة قضائية بناء على طلب. أي أن المتقاضي الذي كان يتمتع بالمساعدة القضائية القانونية في المرحلتين الابتدائية والاستئنافية ملزم بتقديم طلب إلى محكمة النقض وإلا وجب عليه أداء كل الصوائر والرسوم والمصاريف التي تتطلبها مرحلة النقض.
من النقاط التي تعكس الفرق بين المساعدة القضائية المبنية على طلب، والمساعدة القضائية بحكم القانون، اقتصار الاستفادة في الأولى على الطرف وحده سواء كان مدعيا أو مدعى عليه، مستئنفا أو مستأنفا عليه، طالبا للنقض أو مطلوبا في النقض. في الوقت الذي تمتد الاستفادة في المساعدة القضائية القانونية إلى ذوي حقوق الطرف أيضا. وما يؤكد ذلك ما جاء في الفصل 273 من قانون المسطرة المدنية حيث : يستفيد من المساعدة القضائية بحكم القانون العامل مدعيا أو مدعى عليه أو ذوو حقوقه في كل دعوى بما في ذلك الاستئناف وتسري آثار مفعول المساعدة القضائية بحكم القانون على جميع إجراءات تنفيذ الأحكام القضائية».
وتتميز المساعدة القضائية بحكم القانون بنوع من التوسع من حيث النطاق. إذ لا تقتصر فقط على النتائج المباشرة للدعوى وإنما تتجاوز ذلك وبكثير خاصة من حيث النطاق الزمني.
ففي المادة 177 من القانون رقم 18.12 المتعلق بالتعويض عن حوادث الشغل الصادر في 29 دجنبر 2014 جاء ما يلي : يمكن للغير المثبتة عليه المسؤولية بمقتضى الاتفاق المنصوص عليه في المادة 170 من هذا القانون أو بموجب حكم أو قرار قضائي وكذا لمؤمنه، عند الاقتضاء، أن يرفع مع المصاب والمشغل ومؤمنه، دعوى من أجل مراجعة الإيراد طبقا لأحكام هذا القانون داخل خمس سنوات من تاريخ وقوع حادثة الشغل، كما يجب أن يتحمل، عند الاقتضاء، المصاريف المترتبة عن دعوى المصاب».