يقصد بمبدأ استقلال السلطة القضائية أن تتمتع هذه السلطة بالاستقلال عن الهيآت الدستورية الأخرى والسلط التي نص عليها الدستور. ونعني بذلك أساسا السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية. ويراد بهذا المبدأ أيضا تمتع القضاة كأفراد موكول إليهم أمر البت في الملفات التي تعرض عليهم بنوع من الحياد والاستقلال وعدم التأثر أو الخضوع لأية جهة كيفما كانت.
وبالنظر إلى أهمية استقلال السلطة القضائية، خص الدستور المغربي الصادر في 29 يوليوز 2011 السلطة القضائية ومبدأ استقلال القضاء بالفصول من 107 إلى 112 حيث ركز على ضرورة التزام الكل بعدم المساس باستقلال السلطة القضائية وذلك بعدم السماح بالتدخل في عمل القضاء ولا بالتأثير عليه. وكما يبدو من خلال قراءة مقتضيات الدستور، فكل تدخل أو تأثير أو ضغط أو توجيه تعليمات للقضاة أثناء قيامهم بمهامهم القضائية يعد غير مقبول ويعرض صاحبه للمساءلة.
وتنزيلا للمبادئ الكبرى الواردة في الدستور وتكريسا لدور القضاء كسلطة ثالثة إلى جانب السلطتين التشريعية والتنفيذية، نصت المادة 4 من قانون التنظيم القضائي الصادر في يونيو 2022 على أنه : «يقوم التنظيم القضائي على مبدأ استقلال السلطة القضائية عن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية»، بل إن ما يؤكد الأهمية الخاصة التي أولاها المشرع لهذا المبدأ أنه جعله أول المبادئ المعتمدة في تنظيمنا القضائي الجديد.
وإذا كان استقلال السلطة القضائية حيال السلطتين التشريعية والتنفيذية يعني عدم تدخل هاتين الأخيرتين في عمل السلطة القضائية، أي أن السلطة التشريعية مكلفة دستوريا بسن القوانين ووضعها، وكذا القيام بمراقبة العمل الحكومي عن طريق الأسئلة الكتابية أو الأسئلة الشفوية أو غيرها من الآليات التي وضعها الدستور لتحقيق هذه المراقبة، فإن الاستقلال المذكور يتحقق بعدم تجاوز الحدود المرسومة دستوريا للسلطة التشريعية.
ويعني الاستقلال أيضا، عدم تدخل السلطة التنفيذية في الاختصاص والصلاحيات المعهود بها للسلطة القضائية. ومؤدى ما نقول أن الحكومة كهيأة تنفيذية ليس لها سوى القيام بتنفيذ القوانين وفق ما ينص على ذلك الدستور. وإذا كان الأمر كذلك، فإن مبدأ الاستقلال يفرض عدم تدخل القضاء في أعمال السلطتين المذكورتين.
أما استقلال القاضي – كفرد وليس كمؤسسة أو سلطة – وهو المعنى الثاني لمبدأ الاستقلال – فيتوقف على تمتيع القاضي بهامش واسع من القناعة في اتخاذ ما يراه مناسبا من قرارات ومواقف من النزاعات التي تعرض عليه في إطار النصوص والمقتضيات القانونية المطبقة على النوازل.
ولا شك أن استقلال السلطة القضائية استأثر بأهمية وعناية خاصتين من قبل كل مكونات المجتمع المغربي، سواء تعلق الأمر بهيات عمومية أو خاصة أو تعلق بالمجتمع المدني سيما الجمعيات التي جعلت هدف قانونها الأساسي هو تحقيق استقلال القضاء. بل إن استقلال القضاء من أولويات سياسة صاحب الجلالة الملك محمد السادس الذي لا يفوته كلما كانت الفرصة مناسبة أن يركز على ضرورة إصلاح القضاء وجعله فعلا رافعة للنمو الاقتصادي والاجتماعي بالمملكة وعنوانا للثقة في العدالة ببلادنا.
وقد انطلقت بالفعل التدابير والآليات والأدوات التي تمكن من النهوض بوضع القضاء ببلادنا وبتحقيق مبدأ استقلال القضاء المكرس في أعلى وأسمى قانون في البلاد المتمثل في الدستور.
غير أن عدة معيقات منها ما هو قانوني، أو سياسي، أو واقعي تجعل تجسيد هذا المبدأ على أرض الواقع من الأمور التي تتميز بنوع من الصعوبة التي لا ترقى إلى مستوى الاستحالة.
فأما المعيقات ذات الطابع القانوني فيمكن تلخيص أهمها في النقاط الآتية :
لا يمكن أن يتحقق استقلال القضاء بالشكل المطلوب ما دام أن ترقية القضاة تتوقف على التنقيط الذي يتولى رئيس المحكمة القيام به ونقصد رؤساء المحاكم بكافة درجاتها وأنواعها، لأن الاستقلال يقتضي ألا يكون القاضي محكوما بالمنطق الرئاسي. أي التسلسل الرئاسي، لأن القناعة القضائية هي أهم ما يميز عمل القضاة لا سيما في المادة الزجرية التي تعتمد مبدأ حرية الإثبات
حيث جاء في المادة 286 من قانون المسطرة الجنائية الصادر في 03 أكتوبر 2002 كما تم تتميمه وتعديله على أنه يمكن إثبات الجرائم بأية وسيلة من وسائل الإثبات ما عدا في الأحوال التي يقضي القانون فيها بخلاف ذلك، ويحكم القاضي حسب اقتناعه الصميم ويجب أن يتضمن المقرر ما يبرر اقتناع القاضي وفقا للبند 8 من المادة 365 …. وهي مسألة قررها المشرع للقضاة وهم يقومون بالمساطر والإجراءات ويبتون في النوازل والقضايا التي تعرض عليهم.
ونعتقد أن تجاوز هذا العائق الذي قد يقف أمام إحساس القاضي بعدم استقلاليته. وبكونه لا يختلف كثيرا عما هو معمول به في كثير من الوظائف العمومية الأخرى أمر ضروري. ومن ثم نقترح أن يكون القضاة كالأساتذة الجامعيين، غير مرهونين في ترقيهم بأسلوب التنقيط من قبل مسؤولي المؤسسات التي يشتغلون بها، بل بملف قضائي وعلمي يعكس كفاءة القاضي في أداء مهامه، وكذا مؤهلاته العلمية واحترامه لواجباته المهنية تبت فيه لجنة من القضاة المشهود لهم بالخبرة والكفاءة المهنية والقدرة على التقييم الموضوعي النزيه للأعمال التي تعرض أمامه.
ونقترح أن يتم تعيين أعضاء اللجن المكلفة بالنظر في ملفات ترقية القضاة من قبل المجلس الأعلى للسلطة القضائية وأن يختار هؤلاء الأعضاء من قضاة يمارسون مهامهم بنفس المحكمة التي ينتمي إليها المترشح للترقية ومن قضاة ينتمون إلى محاكم أخرى. وسيكون هذا في نظرنا ضمانا لإعمال الضمير والقناعة الشخصية ولاستقلال القضاة في اتخاذهم لما يرونه مناسبا من قرارات وتدابير.
من بين الأمور التي تعد في اعتقادنا من بين أسباب عدم فعالية مبدأ استقلال القضاء اقتران ترقية القضاة بالإنتاج السنوي لهم. أي أن تمييز قاض عن آخر لا يعتمد على معايير لها علاقة بجودة الأحكام والقرارات التي يصدرها، وإنما من حيث عدد الملفات التي استطاع أن يبت فيها خلال السنة.
وفي اعتقادنا المتواضع، لا يمكن لهذا الأسلوب الكمي الذي لا يعطي للكيف أهميته اللازمة، أن يتخذ معيارا لتقييم عمل القضاة، لأنه من جهة أولى يفتح المجال أمام ترقية قضاة لا يولون أية أهمية للتقنيات الفنية للقضاء، ويعتمدون على الكم دون الكيف ولأنه من جهة ثانية يستبعد قضاة هم أولى بالترقية من غيرهم، بناء على الأحكام الرفيعة والإجراءات السليمة والناجعة التي قاموا بها، ومن جهة ثالثة، لأن مثل هذا الأسلوب لا يشجع على الإبداع والاجتهاد القضائي وهو الأمر الذي توخاه المشرع من خلال منحه القضاة عدة صلاحيات إبان نظرهم في الملفات.
ولا شك أن النظام الأساسي للقضاة على الرغم من تضمنه لكثير من الجوانب الإيجابية في ما يتعلق بوضعية القضاة وسير عملهم، فإنه ينطوي على العديد من الجوانب التي تطال مبدأ استقلال القضاء. من ذلك على سبيل المثال السلطات والصلاحيات التي يتمتع بها الرؤساء الأولون لمحاكم الاستئناف والوكلاء العامون للملك لديها في انتداب القضاة المنتمين للدوائر الاستئنافية التابعة لهم في حال وجود خصاص طارئ يستدعي ذلك. وكذا إمكانية ممارسة الرئيس الأول لمحكمة النقض والوكيل العام للملك لديها لنفس الصلاحيات على مستوى دوائر نفوذ محاكم الاستئناف بالمملكة مع الالتزام طبعا بما تفرضه المواد 73 وما يليها من القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة.
ونعتقد أنه على الرغم من تحويل الصلاحيات التي كانت ممنوحة لوزير العدل إلى المسؤولين القضائيين المومأ إليهم أعلاه ضمانا لحقوق أكثر للقضاة، فإنه مع كل ذلك. تبقى بعض الإشكالات مطروحة سيما في تطبيق معايير الانتداب وتجديد مدته
يضاف إلى ما سبق، أنه من بين الأمور التي كانت تدخل في خانة عوائق تحقيق استقلال القضاء رئاسة وزير العدل للنيابات العامة التي تتكون من أعضاء يدخلون في خانة القضاء، غير أن المادة 25 من القانون التنظيمي الخاص بالنظام الأساسي للقضاة تجاوزت بحق عددا من الانتقادات التي كان يثيرها هذا الأمر بجعل النيابة العامة تحت سلطة ومراقبة الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض باعتباره رئيسا للنيابة العامة عوضا عن الوزير طبقا لما كان معمولا منذ 1974 تاريخ إصدار النظام الأساسي لرجال القضاء الملغى.
ولا يمكن تحقيق استقلال القضاء إن لم يكن القاضي يشعر بالفعل بنوع من الهبة والتميز في السلم الاجتماعي. فمن الضروري إعادة النظر في وضعية القضاة المادية وتوفير الشروط الملائمة للعمل واستتباعا، ينبغي الزيادة في رواتب القضاة بما يليق ودورهم الحيوي والتنموي، وتهييئ الظروف المناسبة للعمل شأن إعادة النظر في بنايات المحاكم. لأن عددا غير يسير من المحاكم بالمملكة لا تعكس الهبة التي من المفروض أن يتمتع بها القضاء سيما وأن المتقاضين ينطلقون من ظروف عمل القضاة (المكاتب والبنايات والتجهيزات وقاعات الجلسات …….) للحكم عن هبتهم وقيمتهم الاجتماعية ودورهم داخل المجتمع.
فضلا عما ذكر، أن كثرة الملفات التي يقوم القضاة بالبت فيها كل أسبوع وكل شهر وكل سنة خاصة في بعض الأقسام والشعب كقضاء الأسرة، لا يساعد على تحقيق استقلالية القضاء بالمفهوم الواسع للمصطلح، إذ كيف يمكن للقاضي أن يفكر في هذا المبدأ وهو ملزم بالنظر في ملفات كثيرة، ومجبر على تحرير الأحكام المتعلقة بها قبل النطق بها دون أن ننسى ما يقوم به القضاة من أبحاث وإجراءات ومعاينات وغيرها. فكل هذا سيثقل كاهل القاضي ويجعله لا يفكر سوى في البت في الملفات التي أوكلت إليه.
وارتباطا بهذه النقطة، تعد الترقية بناء على الإنتاج السنوي فيه بعض من المخاطر أهمها بلوغ العدالة المنشودة والاستقلال التام للقاضي والجودة في الأحكام هذا مع العلم أن معيار عدد الملفات التي تم النطق بها خلال كل سنة لا يمكن أن يعتمد كمعيار لتقييم عمل القاضي إذا لم تؤخذ طبيعة القضايا التي تم النظر فيها بعين الاعتبار.
فالقضايا العقارية مثلا، لا يمكن أن توازي قضايا الحالة المدنية أو مخالفات السير من حيث صعوباتها وإجراءاتها ومدة إصدار الأحكام فيها. وعليه يكون معيار الإنتاج غير عادل وغير موضوعي فضلا عن أنه قد يؤثر سلبا على استقلال القضاة الذين يصدرون أحكاما ذات جودة عالية ولو مع محدودية عددها.