من الصعب جدا فهم تركيبة التنظيم القضائي والشروع مباشرة في تحليل نظم القانون المتعلقة بالتنظيم القضائي المعمول به داخل المملكة المغربية، دون الوقوف على ماهية هذا التنظيم وإبراز موقعه، وضبط مفهومه وبيان خصوصيته ضمن المنظومة التشريعية المعمول بها ببلادنا، خاصة إذا علمنا أن التنظيم القضائي كمفهوم قانوني سواء اعتبرناه مادة أكاديمية تدرس على مستوى مدرجات كلية الحقوق بالمغرب، أو قانونا معمول به من الناحية الواقعية في نطاق تسيير مرفق القضاء بمفهومه الواسع، يتوقف في حقيقة أمره على مجموعة من القوانين المتفرقة فيما بينها شكلا ومضمونا، بالرغم من أن هذه الأخيرة تعنى كلها بتنظيم مؤسسات قضائية معينة، بمعنى أننا لسنا أمام قانون واحد مخصص لضبط فضاء التنظيم القضائي بالمغرب.
وعلى خلاف ما قد يفهمه البعض من أن التنظيم القضائي محصور فقط في تلك القائمة من المحاكم التي نظمها المشرع المغربي بموجب الظهير الشريف بمثابة قانون رقم 1.74.338 بتاريخ 24 جمادى الثانية 1394 (15 يوليوز 1974 ) يتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة، لكون أن الظهير الشريف يحمل عبارة التنظيم القضائي، إلا أنه في واقع الحال توجد مؤسسات قضائية أخرى لم يرد ذكرها في الظهير الشريف المشار إليه، بل نظمتها قوانين أخرى كما هو الحال بالنسبة للمحكمة الدستورية والمحكمة العسكرية والمحاكم المالية، بيد أن هذه الأصناف من المحاكم هي خارج التركيبة القضائية التي نص عليها ظهير 1974 المتعلق بالتنظيم القضائي،
وبالتالي فإن استعمال المفهوم الواسع للتنظيم القضائي للملكة المغربية قد يؤدي لا محال إلى الاختلاف في الفهم وإلى الخلط في المفاهيم القضائية، وهذا الطرح وإن لم يكن قد فطن له البعض بمناسبة دراستهم لهذا القانون وإبراز خصوصيات المؤسسات القضائية المذكورة، إلا أنه يشكل بصدق عائقا بالنسبة لبعض الدارسين له، خاصة فئة الطلبة الذين يدرسون لأول مرة مسألة التنظيم القضائي، ومن ثم كان يجب ضبط مفهوم التنظيم القضائي أولا ثم الحديث عن طبيعة القانون المخصص لدراسة التنظيم القضائي ثانيا.
1) المفهوم الضيق للتنظيم القضائي :
لعل الإشكال الذي طرحناه سابقا والمتعلق بكيفية فهم مصطلح التنظيم القضائي وضبط مفهومه القانوني بصيغة واسعة، جعلنا بدون أدنى شك نبحث عن معايير للتفرقة بين المفهوم الواسع للتنظيم القضائي الذي يشمل جميع أصناف المحاكم بالمغرب وبين المفهوم الضيق الذي ينحصر فقط على ما تم ذكره وحصره في الظهير الشريف لسنة 1974 المتعلق بالتنظيم القضائي، وعلى هذا الأساس ووفقا للمفهوم الضيق الذي استعمله المشرع المغربي بموجب الظهير الشريف، فإن مصطلح التنظيم القضائي لا يمكن استعماله إلا فقط في تلك الأصناف الواردة بموجب الظهير الشريف السالف الذكر، وهكذا يشير الفصل الأول من هذا الظهير ، بأن التنظيم القضائي للملكة المغربية يشمل حصرا المحاكم التالية :” المحاكم الابتدائية – المحاكم الإدارية – المحاكم التجارية – محاكم الاستئناف – محاكم الاستئناف الإدارية – محاكم الاستئناف التجارية – محكمة النقض. وتعين مقارها ودوائر نفوذها وعدد موظفيها بمقتضى مرسوم “.
2) طبيعة قانون التنظيم القضائي بالمغرب :
لا مراء في أن مسألة ضبط المصطلح القانوني ووضعه في سياقه العام والخاص من جهة، وفي مفهومه الواسع والضيق من جهة ثانية، يجعلنا متيقنين حتما من دلالاته اللغوية والمعرفية في نطاق الحمولة الفكرية التي يحملها في متن النص القانوني، أو من خلال العناوين الكبرى التي تروم إلى تقسيم القانون من الناحية الشكلية إلى أبواب وأجزاء ومحاور …. الخ،
ولعل هذا النمط الفكري يجعل معه القانون العادي أو التنظيمي الموضوع للنقاش والتحليل أكثر مرونة ويسرا، مقارنة مع تلك القوانين التي يتم دراستها وتحليلها بصورة عامة، دون التركيز على المصطلح المستعمل في سياق قانوني معين.
وقانون التنظيم القضائي في هذا النطاق يحتاج فعلا إلى دراسة خاصة لمجموعة من النقط الهامة في بنيته من قبيل مكوناته الأساسية ومجزوءاته المحورية، ومقتضياته الرئيسية …. دون أن ننسى موقعه من المنظومة التشريعية بخصوص طبيعته القانونية التي تهمنا في هدا الإطار. فكل القوانين التي أحاطها المشرع بعناية التنظيم في الإشراف على مجال معين تتكئ في جوهرها على أمرين هامين أحدهما موضوعي وأخر شكلي ،
إذ يتعلق الأمر الأول بوجود قانون يرمي إلى الاهتمام بالجانب الموضوعي ، على اعتبار أن هذا النوع يختص بتحديد المبادئ الرئيسية والقواعد العامة في مجال قانوني معين كما هو الحال بالنسبة للقانون الجنائي العام، ظهير الالتزامات والعقود ، مدونة الأسرة….
أما الأمر الثاني فينحصر دوره فقط في الاهتمام بالجانب الشكلي أو الإجرائي، بمعنى التركيز على قواعد شكلية صرفة أسوة بقانون المسطرة المدنية وقانون المسطرة الجنائية،
ومن هنا نستشف على أن القواعد القانونية بصورة عامة تحمل طابعا ثنائيا، فإما أن تكون قواعد موضوعية تتناول النصوص القانونية كموضوع، أو أن تكون شكلية فقط تركز على النصوص القانونية بوصفها إجراءات شكلية أو مسطرية .
وفي خضم التجاذب الحاصل في بنية القوانين وما تؤطره من مقتضيات عامة وخاصة في إطارها القانوني، وشكلية وموضوعية في طبيعتها القانونية، يطل التنظيم القضائي بوجه مختلف تماما عن ما هو معمول به في سائر القوانين الأخرى، سواء كانت شكلية أو موضوعية، حيث يكاد يصنفه المختصون في مجال القانون بكونه قانون مزدوج يحمل الخاصيتين معا في الوقت نفسه.
فإذا كان المعيار الموضوعي ينبني بالأساس على وجود مبادئ وقواعد قانونية عامة تعمل على تنظيم مجموعة من الروابط القانونية بهدف حماية مصالح الأفراد والمؤسسات في نطاق ما يأمر به القانون وفي حدود ما يسمح به، فإن ما يلاحظ في إطار التنظيم القضائي أنه تناول مجموعة من المبادئ الهامة في التنظيم القضائي للمملكة المغربية، نذكر من أهمها استقلالية القضاء والنيابة العامة، أي استقلال السلطة القضائية، بمعنى وجود سلطة قضائية مستقلة تماما عن السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، وهي بمثابة ضمانات مهمة جدا في الحقل المتعلق بالمجال القضائي لكافة أطياف وشرائح المجتمع المغربي، وهذا إن كان يدل على شيء إنما يدل على أن المشرع المغربي من خلال بوابة التنظيم القضائي أنه صاغ مقتضياته بحكمة واتزان، وبنوع من الحرفية والإتقان، وأحاطه بمجموعة من المبادئ الهامة الدالة على موضوعية القانون أو موضوعية التركيبة التي أطرت نصوص التنظيم القضائي لدرجة أن القارئ والمتصفح لظهير التنظيم القضائي للمملكة يعجز تماما عن تصنيف ظهير التنظيم القضائي المغربي ضمن دائرة القوانين الموضوعية، في غياب أراء صريحة من لدن الفقهاء القانونيين والمتخصصين في المجال القانوني والقضائي، ومفاد ذلك يعود بالأساس إلى أمرين أساسيين :
أولا وجود تناغم حاصل بين نصوصه القانونية في إطار وحدة الموضوع والجوهر، ثم وجود تسلسل منطقي حاصل على مستوى أفكاره، سواء من حيث المنهج أو من حيث النسق البنيوي للقواعد الأمرة.
ولئن كانت المبادئ العامة حاضرة في موضوع التنظيم القضائي من حيث أنها قواعد موضوعية تحمل في طياتها حقوق والتزامات ناشئة بين الأفراد أو بين المؤسسات أو بين الأفراد والمؤسسات، فهل يمكن القول بأن القواعد الموضوعية المذكورة في متن بعض نصوص التنظيم القضائي وبناء على المبادئ الكبرى المؤطرة لعملية هذا التنظيم، تعتبر فعلا ناشئة للحقوق والالتزامات، ويجب العودة إليها كلما طرأت خصومة قضائية في هذا الإطار ؟
في واقع الأمر يصعب الإجابة عن هذا السؤال في ظل عدم وجود نصوص مفسرة لبنية لقواعد القوانين المنصوص عليها في ظهير التنظيم القضائي المغربي، وحتى لو افترضنا ذلك في وجود نمط خاص من القواعد الموضوعية ضمن منظومة التنظيم القضائي، فلا يمكن الجزم مسبقا بكون الحقوق المستوحاة من نصوص الظهير موضوع التحليل هل هي موجهة للجميع؟ أم أنها حكرا على فئة معينة من المهنيين وخاصة طائفة القضاة، باعتبارهم الفاعلون الرئيسيون في هذا التنظيم؟
ومهما يكن فلا جدوى من إزاحة الطبيعة الموضوعية من ظهير التنظيم القضائي حتى نرى علاقته بالجانب الآخر المتعلق بالمعيار الشكلي.
ومن جانب آخر فإذا كان المعيار الشكلي في القانون يتجلى في وجود إجراءات شكلية تروم إلى تنظيم القواعد القانونية من أجل تنفيذ الحقوق الناشئة عن النصوص القانونية الموضوعية، فإن هذا الأمر نراه واضحا من خلال جملة من الإجراءات الرئيسية المكونة لمشهد التنظيم القضائي بالمغرب، ولا سيما في الفرع المتعلق بالتأليف والاختصاص وكذلك القسم المتعلق بتفتيش المحاكم…. على أساس أن الفصول المذكورة في هذه المحاور تعتبر قواعد شكلية بامتياز، إذ تقوم تارة بتنظيم الإجراءات والمساطر الواجب احترامها بشكل مفصل قوامه تنظيم مرحلة من مراحل التقاضي أو التقيد بشروط خاصة أثناء سير الدعوى القضائية، كما أنها تقوم تارة أخرى بالإحالة على القوانين المسطرية الأخرى التي تشاركها نفس الاختصاص، في إشارة إلى قانون المسطرة المدنية وقانون المسطرة الجنائية باعتبارهما مكملان رئيسيان للمشهد القضائي بالمغرب،
وبالتالي فالصورة التي يوجد عليها التنظيم القضائي بالمغرب هي أقرب للقانون الشكلي من القانون الموضوعي، على الرغم من وجود إشارات حقيقية لازدواجية التنظيم القضائي المغربي في طبيعته القانونية بين ما هو موضوعي وما هو شكلي والراجح في القول أن التنظيم القضائي إذا كانت قواعده موضوعية فيما يخص المبادئ العامة التي يتناولها في بنوده، فهو شكلي وقواعده شكلية فيما يخص الاختصاصات والمهام التي تناولها بالتفصيل في عدد هام من الفروع. للدكتور سعد بن عجيبة