المجال الدستوريقانونيات

أصل نشأة الدولة

لقد تعددت واختلفت النظريات التي حاولت البحث في نشأة الدولة وتكوينها، وتحديد أساسها أو الأصل الذي تستمد منه سلطاتها، ومن بين هذه النظريات نذكر النظريات التيوقراطية ونظريات العقد الاجتماعي، ونظرية تطور الأسرة الى جانب النظريات الأخرى منها النظرية الخلدونية ( نسبة إلى عالم الاجتماع الكبير عبد الرحمن ابن خلدون) ، والنظرية الماركسية أو ما يطلق عليه ( نظرية الحتمية التاريخية) ، والنظرية القانونية ( نظرية الأساس الدستوري) .النظرية السوسيولوجية ( المؤسسة الاجتماعية).

ويرجع تعدد هذه النظريات إلى اعتبارات تاريخية وفلسفية، وإلى اختلاف المذاهب حول سلطات الحكم وأشكاله، كما يرجع إلى أن الدولة التي بحث الفقهاء في مصدرها وقاعدتها عرفت تطورا في نشوئها، مما جعل بعض النظريات تفقد صلاحيتها أمام التحليل العلمي فتفسح المجال لنظريات أخرى.

ومن جهة أخرى يعود الاختلاف حول نشأة الدولة إلى اختلاف مدارس التفكير بين من حاولوا البحث عن منشأ اجتماعي للدولة، ومن حاولوا البحث عن قاعدة قانونية لها، وإلى اختلاف الأهداف السياسية كذلك.

النظريات التيوقراطية:

يذهب أنصار الحكم الفردي المطلق، إلى كون الناس في حاجة ماسة لحكم قوي يمارس صلاحياته دون أية قيود ودون معارضة، ولا توجد فوقه سلطة أخرى بإمكانها مراجعة قراراته أو إلغائها، ولتحقيق ذلك أعلنوا أن الله هو المالك الحقيقي للسلطة، وأن الدولة تستمد سلطاتها من الله وليس من أعضاء المجتمع، غير أنه على الرغم من إرجاع أنصار الحكم الفردي أصل الدولة إلى أساس إلاهي واتفاقهم بالإجماع على ذلك، فإنه يختلفون فيما يتعلق بطريقة اختيار الحكام، وعموما يمكن أن نميز في هذا الإطار بين ثلاثة نظريات.

1) نظرية الطبيعة الإلهية للحاكم :

تسمى أيضا بنظرية الحاكم /الإله، وهي تذهب إلى اعتبار الحاكم إلاها، لا يستمد سلطاته وصلاحياته من أحد، ولا يمكن لأي كان أن يمارس عليه الرقابة، أو أن يعارض ما يصدر عنه من قرارات، على اعتبار أن كل معارضة للحاكم هي معارضة للإله، وتعرض صاحبها لعقاب دنيوي وأخروي.

وقد عرفت هذه النظرية تطبيقات عملية، ففي عهد مصر الفرعونية مثلا، كان الملك فرعون يعتبر نفسه إلاها، كما طبقت هذه النظرية أيضا في كل من الهند القديمة والصين، حيث كان الملوك والأباطرة يعتبرون أنفسهم آلهة ولا سلطة فوق سلطتهم.

ومن وجهة نظر علمية، تعد هذه النظرية، نظرية استبدادية تؤسس لطغيان الحكام واستفرادهم بالسلطة بعيدا عن كل محاسبة أو تحمل للمسؤولية انطلاقا من كون الحاكم الإله منزها ومقدسا.

2) نظرية الحق الإلهي المباشر :

يطلق عليها أيضا، نظرية التفويض الإلهي، ومفادها أن الحاكم لا يعتبر إلاها وإنما خليفة الله، ويستمد مختلف سلطاته وصلاحياته مباشرة من الله، ولا يحتاج في ذلك إلى تزكية الشعب أو موافقته.

ولا يسمح في إطار هذه النظرية بمعارضة تصرفات الحاكم، لكون كل معارضة له أو مقاومة لتصرفاته وأعماله تعتبر بمثابة معارضة ومقاومة لله الذي اختاره واصطفاه، وفوض له سلطانه باعتباره خليفة له، ومنحه سلطة الحكم باسمه.

وعلى هذا الأساس، فهذه النظرية لا تخرج هي الأخرى عن كونها تؤسس للاستبداد وطغيان الحكام، ولمقاومة كل إصلاح يكون مصدره الشعب.

3) نظرية الحق الإلهي غير المباشر :

تسمى أيضا بنظرية العناية الإلهية، وتختلف عن سابقاتها من حيث الشكل، لا من حيث المضمون، حيث أن هذه النظرية تقول بأن الحاكم يتم اختياره من طرف الشعب، ولكن بإيعاز من الله، فالله طبقا لهذه النظرية هو الذي يوجه إرادة عباده إلى اختيار الحاكم حاكم معين دون غيره ، ومن حيث مضمونها، فهي لا تسمح أيضا بمقاومة طغيان واستبداد الحكام لكونهم يختارون طبقا للإرادة الإلهية، وبالتالي فكل مقاومة أو معارضة لهم تعتبر بمثابة مقاومة ومعارضة لله.

وعموما، فالنظريات التيوقراطية كلها نظريات غير ديمقراطية لإقصائها للشعب في عملية اختيار حكامه، ومراقبتهم وعزلهم في حالة خروجهم وابتعادهم عن مصلحة الشعب، وقد عرفت هذه النظريات تطبيقات عملية في عهد مصر الفرعونية، وفي عهد الهند القديمة كما عرفت بعض التطبيقات حتى في الدول الأوربية قبل حدوث الثورات بها.

وفي مقابل هذه النظريات ظهرت مجموعة من النظريات الأخرى التي ترجع أصل نشأة الدولة إلى الإنسان ذاته بعيدا عن أية قوة غيبية، ومن أهم هذه النظريات نظريات العقد الاجتماعي، التي ترجع أصل الدولة إلى عقد اجتماعي بين الحكام والمحكومين، رغم اختلافها في طريقة إبرام هذا العقد وفي النتائج المترتبة عنه.

نظريات العقد الاجتماعي :

ترتكز نظريات العقد الاجتماعي على الأصل التعاقدي للدولة، أي أن مصدر سلطات الدولة ليس هو الله وإنما العقد الذي يبرم بين الحاكمين والمحكومين، والذي بناء على أساسه يقوم الحكام بممارسة سلطاتهم وصلاحياتهم، لكن مع احتفاظ الشعب بحق المعارضة، ومتابعة الحكام في حالة إخلالهم ببنود العقد رغم اختلاف درجة هذه المعارضة والمتابعة من مفكر لآخر، ورغم اختلاف طريقة إبرام العقد أيضا وهذا ما يظهر جليا من خلال كتابات رواد نظريات العقد الاجتماعي : توماس هوبز، وجون لوك، وجون جاك روسو.

1) نظرية العقد الاجتماعي عند توماس هوبز 1679 – 1588 :

ينطلق توماس هوبز في نظريته من حالة الطبيعة التي يصورها على أنها كانت تتميز بالفوضى والحرب الدائمة لعدة اعتبارات أهمها ميل ونزوع الإنسان إلى الشر، ومن تم يقول هوبز بأن هذه المرحلة (مرحلة حالة الطبيعة) كانت تتميز بحرب الجميع ضد الجميع وبسيادة “قانون الغاب والبقاء للأقوى”.

وللخروج من هذه الحالة، ولإنهاء حالة الحرب، وسيادة السلم والأمن، وظف توماس هوبز فكرة” الليفياتان”، للرمز إلى الدولة أو السلطة القوية القادرة على إنهاء الحرب والعنف ونشر الأمن والاستقرار، وذلك لما تمتلك من وسائل الضبط وقدرات الإكراه والقهرة ، ومن ذلك نستنتج دعوة توماس هوبز إلى إقامة دولة قوية مبنية على الطاعة تتمتع بسلطات مطلقة وغير مقيدة وذلك بهدف تحقيق الانتقال من الحالة الطبيعية إلى الحياة في إطار مجتمع منظم ومستقر.

ولبناء الدولة وفقا لتصور هوبز، يقترح عقدا اجتماعيا يتنازل بموجبه كل أفراد المجتمع عن جميع حقوقهم لفائدة الحاكم الذي سيضمن لهم تحقيق السلام، وسيادة الطمانينة بدلا عن حالة الحرب والفوضى التي كانوا يعيشون فيها.

ويعتبر هذا العقد حسب هوبز أساس سلطة الدولة، إلا انه يعاب عليه كونه عقدا من جانب واحد، والحاكم لا يعد طرفا فيه، ومهما بلغت درجة طغيان أو استبداد الحاكم لا يحق للمحكومين أن يعارضوه، ولا أن ينازعونه في سلطته المطلقة ما داموا قد تنازلوا له بمحض إرادتهم بموجب العقد عن كل السلط والصلاحيات وبالتالي لم يبق من حقهم أن يثورا ضده أو أن يطالبوه بحقوقهم.

2) نظرية العقد الاجتماعي عند جون لوك 1704 – 1632 :

يعد جون لوك من أبرز مفكري نظريات العقد الاجتماعي، وأكثرهم جرأة وتقدما، وينطلق هو الآخر في تفسيره الظاهرة نشوء الدولة وأصل سلطتها، من حالة الطبيعة، إلا أنه وعلى خلاف توماس هوبز، فلوك يذهب إلى كون حالة الطبيعة كانت حالة عادية تتميز بسيادة التألف والتعايش بين أفراد المجتمع، وبسيادة الأمن والسعادة، غير أن دافع الحفاظ على هذه الحقوق والمكتسبات زيادة على هدف حماية الملكية الخاصة وسيادة الحرية، كان وراء تحقيق الانتقال من حالة الطبيعة إلى حالة المجتمع المدني والسياسي المنظم.

ويذهب جون لوك في تبريره للانتقال إلى كون حقوق الأفراد وحرياتهم تبقى معرضة للانتهاك في ظل حالة الطبيعة نظرا لغياب وافتقاد هذه الأخيرة حالة الطبيعة لثلاثة دعائم وركائز أساسية وهي : غياب قانون قائم ومحدد ومعروف ومقبول بموجب اتفاق عام كمعيار للخير والشر، وقاض كفء وغير متحيز من أجل تطبيقه، وقوة إكراهية من أجل تنفيذ حكم القاضي حسب الأصول.

فمن أجل حماية الحريات والحقوق وعلى رأسها الحق في الملكية، ومن أجل حماية مكتسبات حالة الطبيعة، ذهب أفراد المجتمع حسب لوك إلى إبرام عقد اجتماعي مع الحاكم، الهدف منه هو تحقيق حياة أفضل.

وبحسب لوك فإن العقد يبرم باتفاق وتراض بين المحكومين من جهة والحاكم من جهة أخرى . وبمقتضى هذا العقد لا يتنازل المحكومين عن كل حقوقهم وحرياتهم كما هو الأمر في نظر هوبز، وإنما فقط عن جزء منها كما أنه بموجب هذا العقد الاجتماعي يحق للمحكومين الوقوف ضد كل شطط في استعمال السلطة من قبل الحاكم، وضد كل انحراف أو خروج عن مقتضيات العقد، أو عدم الالتزام بها من طرف الحاكم.

ولذلك يقر لوك لأفراد المجتمع بالحق في معارضة الحاكم متى تعدى حدود العقد وتجاوزها … وعلى هذا الأساس يعد لوك من السباقين لطرح مفهوم المعارضة “كآلية لمقاومة طغيان واستبداد الحكام” ، على اعتبار أن سلطة الحكام طبقا للعقد الاجتماعي المقترح من طرف لوك ليست سلطة مطلقة، وإنما هي مقيدة بما اتفق عليه في العقد المبرم بين المحكومين والحاكم.

3) نظرية العقد الاجتماعي عند جان جاك روسو 1778 – 1712 :

يعد جان جاك روسو ثالث رواد نظرية العقد الاجتماعي، وتعتبر أعماله وكتاباته أصيلة وذات طبيعة شمولية، وتتميز بدقة كبيرة وينطلق روسو في تفسيره لأصل نشأة الدولة والأساس الذي تستمد منه سلطاتها من حالة الطبيعة، التي كانت بحسب رأيه حالة عادية تسود فيها الحرية والاستقلال، ولكن على الرغم من ذلك فروسو استبعد أن يكون الإنسان شريرا بالفطرة، كما تجنب القول بأنه طيب ومسالم، بل هو “أي الإنسان” في حالة براءة لم تدم طويلا بسبب توسيع الملكية الخاصة، مع ما ترتب عن ذلك من نتائج وصراعات بين طبقات المجتمع،

الأمر الذي دفع بطبقة الأغنياء إلى البحث عن وسيلة للقضاء على هذه الوضعية، فاستمالوا الفقراء من أجل إقامة مجتمع قاعدته العقد يبرم بينهم للمحافظة على أموالهم والقضاء على الحروب والغزوات، وبمقتضى هذا العقد يتنازل كل فرد على جميع حقوقه مقابل الحصول على حقوق وحريات مدنية تقررها الجماعة للأفراد.

وعلى خلاف جون لوك، فالعقد الاجتماعي الذي يعد أساس الانتقال من حالة الطبيعة إلى حالة المجتمع المدني والسياسي المنظم لم يبرم بين طرفين أي الحاكم والمحكومين، وإنما أبرم فقط من قبل الأفراد فيما بينهم باعتبارهم أفرادا مستقلين من جهة، وباعتبارهم أعضاء متحدين ومتضامنين يشكلون الشخص الجماعي العام من جهة أخرى.

وبمقتضى العقد الاجتماعي، حسب جون جاك روسو، يتنازل أفراد المجتمع عن حقوقهم كلية ولكن في مقابل ذلك يتمتعون بحقوق وحريات أخرى تقررها السلطة لصالح الجماعة، على اعتبار أن الدولة تستمد وجودها وسلطتها من إرادة الجماعة التي أنشأتها وخولت لها حق ممارسة السلطة باسمها، ويترتب عن هذا التصور نتائج سياسية هامة منها:

1 – أن الشعب هو مصدر السلطة السياسية.

2- أن السيادة هي حق للشعب وحده، ولا يمكن أن تكون حقا شخصيا للحكام، بل إنهم يمارسون مظاهر السيادة فقط.

3 – أن الدولة ما هي إلا جهاز تعاقدي.

وتبقى سلطة الدولة وفقا لتصور روسو، سلطة مقيدة بالإرادة العامة، ويبقى من حق الشعب وهو المالك الحقيقي للسيادة أن يمارس الرقابة على الحكام ما داموا يمارسون السلطة باسم الجماعة ولصالحها.

فالحكام ما هم إلا وكلاء عن المجموع، أو على حد تعبير روسو خداما، ومن ثم يكون للأفراد حق عزل هؤلاء الحكام إذا ما عن لهؤلاء الأخيرين الاستبداد بسلطاتهم، ومسوا حقا من حقوق الأفراد، أو تضمنت تصرفاتهم اعتداء عليها أو نيلا منها.

وبصفة عامة، فنظريات العقد الاجتماعي، تعد نظريات ديمقراطية على الرغم من التفاوت فيما بينها ، وهي نظريات افتراضية خيالية، تنطلق من تصورات مختلفة لحالة الطبيعة بقصد الانتقال إلى المجتمع المدني المنظم الذي يعتمد على سلطة المؤسسات بدل سلطة الأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم آلهة أو يستمدون شرعيتهم من الله، ولا يتحملون مسؤولية تصرفاتهم أمام الشعب كما تذهب إلى ذلك النظريات التيوقراطية.

وقد ساهمت هذه النظريات على الرغم من الانتقادات الموجهة لها في إعادة بناء الفكر السياسي الأوروبي، وفي إعادة الاعتبار للإنسان ( الفرد / الجماعة) بالنظر لكونه الأساس الذي تستمد منه الدولة شرعيتها وسلطتها، والهدف الذي توجد من أجل خدمته وحماية حقوقه وحرياته.

وإذا كان الفضل يرجع لهذه النظريات في تحديد مفهوم السلطة، فإليها يرجع الفضل أيضا في تحديد طبيعة العلاقة بين الشعب والحكام من جهة، وبين الإرادة العامة والإرادة الخاصة من جهة ثانية . فهذه النظريات اعتبرت الشعب هو المالك الحقيقي للسيادة وهو صاحب السلطة، أما الحكام فهم وكلاء عن الشعب والإرادة العامة سابقة ومقدمة على الإرادة الخاصة. غير أنه، وبفعل مجموعة من الظروف والأحداث التاريخية، وبفعل التغيرات التي شهدتها الدول الأوربية خلال القرن التاسع عشر، فإن نظريات العقد الاجتماعي عرفت تراجعا ملموسا، كما فقدت نسبيا وظيفتها الإيديولوجية لصالح نظريات جديدة ذات منحى قانوني واجتماعي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى