قانونيات

شكل الدولة وأصل نشأتها

أولا – شكل الدولة :

يقسم فقهاء القانون الدستوري الدولة إلى شكلين دولة موحدة بسيطة وأخرى مركبة، ويعتمد في هذا التقسيم على وصف وتركيب السلطة السياسية في الدولة .

فبالنسبة لشكل الدولة يمكن أن ننظر إليه من منظورين : منظور سياسي ومنظور قانوني . فمن الناحية السياسية تختلف الدول من حيث شكل الحكم فيها وشكل المؤسسات السياسية (ملكي، جمهوري) ومن حيث العلاقات بين السلط (نيابي، رئاسي، مختلف)، ومن حيث النظام الاقتصادي الاجتماعي للدولة (دولة ليبرالية، اشتراكية، ذات نظام مختلف).

أما من الناحية القانونية فهناك عدة اختلافات وأشكال قانونية للدول دآب فقهاء القانون العام على تقسيمها إلى دول بسيطة وأخرى مركبة ، وما يهمنا نحن أكثر في هذا الصدد هو المنظور القانوني للدولة. لذلك سنتناول شكلي الدولة البسيطة والمركبة.

1 – الدولة الموحدة أو البسيطة :

تتميز الدولة الموحدة أو البسيطة ببساطة ووحدة وعدم ازدواجية بنيانها الدستوري والسياسي، فهي تظهر كوحدة موحدة على الصعيدين الداخلي والخارجي، فعلى المستوى الداخلي يكون للدولة الموحدة دستور واحد يطبق على مجموع إقليم الدولة، كما تكون لها سلطة تشريعية (برلمان ) واحدة، وسلطة تنفيذية (حكومة) واحدة، وسلطة قضائية واحدة. وعلى المستوى الخارجي يكون للدولة البسيطة هيئة واحدة تتولى إدارة شؤونها الدولية وتمثيلها في الخارج.

وينسحب مفهوم ومعنى الدولة البسيطة على كل دولة يحكمها مبدأ وحدة السيادة. فالشكل البسيط للدولة يلغي كل إمكانية لانقسام السلطة والسيادة بين الدولة والمجموعات المكونة لها، وإلا سنكون في هذه الحالة أمام دولة اتحادية أو مركبة ، ويمكن أن تكون الدولة البسيطة جمهورية كما يمكن أن تكون ملكية، ويمكن أن تكون أيضا اشتراكية كما يمكن أن تكون ليبرالية، ويمكن أن تكون رئاسية كما يمكن أن تكون نيابية … ومن أمثلة الدول البسيطة :المغرب الجزائر، مصر، فرنسا.

إلا أن التشديد على وحدة مصادر السلطة لاعتبار دولة ما بسيطة أو موحدة، لا يمنع من أخذ الدولة الموحدة بالتنظيم الإداري الذي تراه ملائما لأوضاعها، ومطابقا لدرجة نموها الاقتصادي والاجتماعي وتطور وعيها السياسي، فرغم خضوع سكان الدولة البسيطة لهيئة حاكمة واحدة، إلا أن بإمكانها (الدولة) أن تكون إما مركزية أو لامركزية ، كما بإمكانها أن تعتمد على نظام الجهوية.

أ – الدولة الموحدة ومبدأ ” المركزية الإدارية” :

تعني المركزية في مفهومها العام والواسع التوحيد وعدم التجزئة، وتعني المركزية الإدارية Centralisation Administrative تركيز السلطات الإدارية في يد رجال السلطة المركزية في العاصمة وفي يد تابعيهم سواء كان هؤلاء يمارسون وظائفهم في العاصمة أو في الأقاليم، مع خضوعهم جميعا للسلطة الرئاسية للوزير، فالدولة البسيطة التي تعتمد نظام المركزية الإدارية هي التي تكون فيها لا القرارات السياسية فحسب بل القرارات الإدارية كذلك نابعة من مركز واحد و انطلاق من هذا التحليل يتضح بأن الدولة هي ولوحدها التي تتمتع بالشخصية المعنوية وبالتالي بإمكانية ممارسة سلطتها وصلاحياتها وفقا لما تعتمده من قوانين وتتخذه من قرارات على كل الهيئات والأفراد المتواجدة فوق إقليمها.

وتتخذ المركزية الإدارية في التطبيق العملي إحدى صورتين : التركيز الإداري وعدم التركيز الإداري.

فالتركيز الإداري يقصد به تركيز السلطة الإدارية كلها في جزئياتها وعمومياتها في العاصمة، بحيث لا يكون لممثلي الإدارة المركزية في الأقاليم آية سلطة خاصة في تصريف الأمور، وهذا يقتضي منهم الرجوع إلى وزارتهم في كل شيء إلا أن هذه الصورة من المركزية الإدارية أصبحت منعدمة التطبيق في الوقت الراهن وذلك راجع لعدة أسباب منها شساعة إقليم الدولة، وتزايد عدد سكانها، زيادة على تكاثر التزامات الوزراء مما لا يسمح لهم بتولي كل الأمور بأنفسهم، هذا إضافة إلى تزايد متطلبات الدولة بصفة عامة وكثرة القضايا والمهام المطروحة عليها.

أما عدم التركيز الإداري فيقوم أساسا على تخويل بعض موظفي الوزارة في العاصمة أو في الأقاليم بصفة فردية أو في شكل لجان تعين الحكومة أعضائها حق البث نهائيا في بعض الأمور دون حاجة للرجوع إلى الوزير المختص، لاسيما في المسائل التي لا تحتاج إلى مجهود خاص في إنجازها . ويتم الاعتماد في تطبيق مبدأ عدم التركيز الإداري على آلية التفويض في الاختصاص الذي يتم وفق ضوابط وقواعد محددة بمقتضى القانون.

ب – الدولة الموحدة ومبدأ “اللامركزية الإدارية” :

يقصد باللامركزية الادارية، ترك جزء من الوظيفة الإدارية بين أيدي هيئات مصلحية أو إقليمية متمتعة بالشخصية المعنوية لتباشرها تحت الوصاية الإدارية للسلطات المركزية ويقصد بها أيضا توزيع الوظائف الإدارية بين الحكومة المركزية في العاصمة، وبين هيئات الجماعات المحلية والمصلحية، وتخضع هذه الهيئات المحلية في ممارسة وظيفتها لإشراف ورقابة الحكومة المركزية.

ويواكب نظام اللامركزية الإدارية الاتجاهات الحديثة التي ترمي إلى تحقيق مزيد من الديمقراطية للشعوب، وذلك لمساهمتها الفعالة في تصريف الشؤون الإدارية وفي تحمل المسؤولية الكاملة في إدارة المشروعات التي تفي بحاجياتهم.

وينتج عن نظام اللامركزية الإدارية تعدد الأشخاص المعنوية القانونية التي تتولى تنفيذ عدة مهام ولها عدة اختصاصات وصلاحيات تمارس تحت وصاية السلطة المركزية.

وتتخذ اللامركزية الإدارية صورتين أساسيتين وهما اللامركزية المحلية أو الإقليمية واللامركزية المصلحية أو المرفقية تتحقق بمنح مرفق عام سواء أكان وطنيا أو محليا أو جهوياء الشخصية المعنوية شريطة خضوعه للرقابة أو الوصاية من طرف السلطات المختصة، وينطبق هذا بصفة خاصة على المؤسسات العمومية بمختلف أنواعها.

أما اللامركزية الإقليمية فتتحقق بمنح إقليم من أقاليم الدولة الشخصية المعنوية بهدف السهر على تحقيق المصالح المحلية تحت إشراف الحكومة ورقابتها.

وتجدر الإشارة إلى أن أسلوب اللامركزية الإدارية أصبح معتمدا في جل دول العالم لكونه يعتمد أولا على تقريب الإدارة من المواطن، وثانيا على إشراك المواطن في إدارة شؤونه عن طريق آلية الانتخاب، وفي كل هذا تدعيم للديمقراطية التي تتمحور حولها دولة الحق والقانون.

ويعتبر المغرب من بين الدول التي اختارت العمل بنظام اللامركزية، وتدعيما لهذا المسار فقد نص المشرع الدستوري في الفقرة الأخيرة من الفصل الأول من دستور 2011، على أن ” التنظيم الترابي للمملكة تنظيم لامركزي، يقوم على الجهوية المتقدمة”، كما نص المشرع الدستوري على أن ” يرتكز التنظيم الجهوي والترابي على مبادئ التدبير الحر، وعلى التعاون والتضامن ويؤمن مشاركة السكان المعنيين في تدبير شؤونهم، والرفع من مساهمتهم في التنمية البشرية المندمجة والمستدامة “.

ج – الدولة الموحدة و”نظام الجهوية” :

الجهة Region في الاصطلاح القانوني، مفهوم حديث يرتبط ظهوره في الدول الليبرالية بالعمل الديمقراطي وأحد روافده اللامركزية، لذلك يشار إليها في الدساتير العصرية على أنها” جماعة محلية” أي وحدة ترابية لامركزية تتمتع بالشخصية المعنوية وبالاستقلالين الإداري والمالي.

وقد عرف النظام الجهوي تقدما ملحوظا في مجموعة كبيرة من الدول مثل ألمانيا وإسبانيا، حيث تتمتع الجهات في هذه الدول إضافة إلى الاستقلال الإداري بنوع من الاستقلال السياسي وذلك لتواجد مؤسسات منتخبة تتمتع بصلاحيات عديدة تهم أمور الجهة وقضاياها المحلية بل إن الجهات في مجموعة من الدول تتوفر على سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية جهوية.

وفي المغرب يرجع الفضل في النهوض بالجهة والرقي بها إلى مستوى مؤسسة دستورية إلى دستور سنة 1992 الذي أضاف الجهة إلى خانة الجماعات المحلية حين نص في الفصل 94 منه على أن الجماعات المحلية بالمملكة هي الجهات والعمالات والأقاليم والجماعات الحضرية والقروية، ولا يمكن إحداث أي جماعة محلية أخرى إلا بقانون وتم التأكيد على ذلك بمقتضى دستور 1996 وخاصة في الفصل 100 منه.

وقد أنيطت بالجهة في المغرب مع مراعاة اختصاصات الجماعات المحلية الأخرى مهمة المساهمة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للجماعة الجهوية بتعاون إن اقتضى الحال مع الدولة والجماعات المحلية الأخرى، ويتولى تدبير شؤون الجماعة مجلس جهوي ينتخب بطريقة ديمقراطية وفقا للتشريع الجاري به العمل.

وتجدر الإشارة إلى أن الملك محمد السادس عين لجنة استشارية للجهوية، انكبت على تشخيص مكامن الخلل في نظام الجهوية بالمغرب، واقتراح نظام متطور وفي هذا الخصوص دعا الملك إلى تطبيق نظام الجهوية المتقدمة كما حدد المرتكزات الأساسية التي تقوم عليها وقد تم تكريس نظام الجهوية المتقدمة على مستوى دستور 2011 الذي بوأ الجهة مكانة الصدارة ضمن الجماعات الترابية بالمغرب،

وهذا ما تؤكده الفقرة الثانية من الفصل 143من الدستور، والتي نصت على أن تتبوأ الجهة، تحت إشراف رئيس مجلسها، مكانة الصدارة بالنسبة للجماعات الترابية الأخرى في عمليات إعداد وتتبع برامج التنمية الجهوية، والتصاميم الجهوية لإعداد التراب، في نطاق احترام الاختصاصات الذاتية لهذه الجماعات الترابي كما نصت الفقرة الثالثة من الفصل 145 على أن يساعد الولاة والعمال رؤساء الجماعات الترابية، وخاصة رؤساء المجالس الجهوية على تنفيذ المخططات والبرامج التنموية”.

2 – الدولة المركبة أو الاتحادية :

تعني الدولة المركبة أو الاتحادية في مفهومها البسيط اتحاد دولتين أو أكثر، إلا أن هذا الاتحاد قد يختلف حسب الحالات، فقد يكون ناتجا عن اتحاد وتحالف دولتين أو أكثر مع احتفاظ كل دولة بسيادتها كاملة على المستويين الداخلي والخارجي، وهذا النوع هو ما يطلق عليه بالكونفدرالية، وقد يكون ناتجا عن اتحاد دولتين أو أكثر في إطار دولة واحدة مع تخلي كل الدول المكونة لهذا النوع من الاتحاد عن سيادتها الخارجية، وهذا ما يطلق عليه تعبير ” الدولة الفيدرالية أو الاتحادية”.

غير أنه وقبل استقرار المجتمع الدولي على هذين الشكلين من أشكال الدولة المركبة أو الاتحادية (كونفدرالية الدول، والدول الاتحادية الفيدرالية) وتجدر الإشارة إلى أن المجتمع الدولي عرف أشكال أخرى سابقة للاتحاد بين الدول منها الاتحاد الشخصي والاتحاد التعاهدي ، غير أن هذين الشكلين انقرضا ولم يعد لهما أي وجود على مستوى الواقع الدولي المعاصر، لهذا فالأشكال الحديثة للدولة المركبة أو الاتحادية هي شكلين أساسيين وهما: الاتحاد التعاهدي أو الكونفدرالية – الدول الاتحادية أو الفدرالية.

أ – الاتحاد التعاهدي أو الكونفدرالي “كونفدرالية الدول” :

تقوم الدول الكونفدرالية نتيجة لاتحاد دولتين أو أكثر، ويتم هذا الاتحاد بمقتضى معاهدة تتم المصادقة عليها بالإجماع من قبل كل دول الاتحاد. وبمقتضى المعاهدة المؤسسة للاتحاد، تحتفظ كل دولة في إطاره بكيانها وشخصيتها الدولية كما تحتفظ بسيادتها الداخلية، ففي الاتحاد التعاهدي تحتفظ الدول بكامل سيادتها دون انتقاص على المستويين الداخلي والخارجي.

ويتم النص في معاهدة الاتحاد الكونفدرالي على مجموع الأهداف المشتركة التي تلتزم بها دول الاتحاد، كالدفاع المشترك عن استقلال هذه الدول، وحفظ السلام والأمن بها، أو التنسيق والتعاون في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والتشاور والتنسيق فيما بينها فيما يخص الشؤون والمصالح الخارجية.

ويترتب على احتفاظ الدول الداخلة في الاتحاد بسيادتها الداخلية أن كل دولة منها تظل محتفظة بنظام حكمها السياسي الذي قد يختلف في طبيعته عن نظم الحكم التي تسود غيرها من الدول الأعضاء في الاتحاد، كما يترتب على هذا الاستقلال احتفاظ رعايا كل دولة بجنسيتهم الخاصة، ومن ثم يعتبر رعايا كل دولة من قبيل الأجانب بالنسبة للدول الأخرى الداخلة في الاتحاد.

وكنتيجة أيضا لاحتفاظ دول الاتحاد الكونفدرالي بسيادتها الداخلية والخارجية، فإن الحروب التي تعلنها إحدى دول الاتحاد ضد دولة أخرى لا تلزم الاتحاد أو أية دولة أخرى إلا في نطاق ما تنص عليه معاهدة التأسيس، كما أن الحروب التي تنشب بين الدول الأعضاء في الاتحاد، لا تعد حربا أهلية وإنما هي حرب دولية.

يقصد بالاتحاد الشخصي اتحاد دولتين أو أكثر تحت حكم ورئاسة عرش واحد، مع احتفاظ كل دولة بسيادتها الداخلية والخارجية، ويعد هذا النوع من الاتحادات أضعف أنواع الاتحاد ومن أمثلته الاتحاد الذي جمع بين إنجلترا وهانوفر ما بين 1714 و 1737 أما الاتحاد الفعلي فيعني الاتحاد بين دولتين أو أكثر تحت حكم رئيس دولة واحد وهيئة شؤون خارجية واحدة لكن شريطة احتفاظ كل الدول المكونة لهذا الاتحاد بتدبير شؤونها الداخلية بشكل مستقل عن الدول الأخرى، ومن أمثلة هذا النوع من الاتحاد، اتحاد السويد والنرويج ما بين 1815 و1905وتعد سلطات الاتحاد مقيدة بنصوص المعاهدة المنشئة للاتحاد، ويجب ألا تتعدى الاختصاصات المنصوص عليها بمقتضى تلك المعاهدة سواء بالزيادة أو النقصان، ما عدا في حالة تعديل مقتضيات المعاهدة شريطة موافقة الدول الأعضاء على كل التعديلات، هذا طبعا مع احتفاظ الدول بحقها في الاعتراض على كل تعديل يمس المعاهدة، وبحقها أيضا في الانسحاب أو الانفصال عن الاتحاد بالنظر لكون هذا الأخير لا يشكل دولة ولا حكومة فوق حكومات الدول المنضوية تحت لواءه.

ويعد حق الانفصال من العلامات المميزة لهذا النوع من الاتحاد، إذ يكون لكل دولة داخلة فيه حقا مطلقا في الانفصال عنه متى رأت ذلك مناسبا أو ملائما، سواء نص على هذا الحق في معاهدة أو صك الاتحاد أو لم ينص عليه .

وإذا كان من حق دول الاتحاد الإعلان عن انفصالها عن الاتحاد، فإن من حق دول الاتحاد إصدار قرار بالإجماع يقضي بفصل كل عضو ثبت في حقه العمل على مخالفة الواجبات والشروط المنصوص عليها في معاهدة الاتحاد.

ومن أمثلة الاتحاد التعاهدي أو الكونفدرالي، نذكر جامعة الدول العربية، التي أسست بمقتضى الميثاق الموقع سنة 1945 بين مجموعة من الدول العربية، ويحتفظ هذا الميثاق لكل دول الجامعة باستقلاليتها وسيادتها كاملة على المستويين الداخلي والخارجي . وينص أيضا على مجموعة من مجالات التعاون والعمل المشترك لما فيه خير الأمة العربية.

وفي الأخير نشير إلى أنه إذا كان الاتحاد التعاهدي ينشأ ويقوم بمقتضى معاهدة، فإن انتهائه أيضا يمكن أن يتم إما عن طريق الانفصال أو الانضمام . فقد تنفصل الدول الأعضاء في الاتحاد عن بعضها البعض وينتهي بذلك الاتحاد ومثال ذلك الاتحاد الألماني الذي قام عام 1815 والذي انتهى بقيام الصراع بين روسيا والنمسا عام 1866 وقد تنضم الدول الأعضاء في الاتحاد التعاهدي في اتحاد أخر أكثر قوة ومتانة كالاتحاد الفدرالي، وكمثال على ذلك الاتحاد التعاهدي السويسري الذي قام سنة 1815 وتحول إلى اتحاد فدرالي مركزي سنة 1848.

ب – الدولة الفيدرالية أو الاتحادية :

يعتبر الاتحاد المركزي أو الفيدرالي من أنضج أنواع الاتحادات، وأكثرها فعالية وتقدما على صعيد النتائج الاقتصادية والسياسية، وأقواها عمقا على مستوى الاندماج البشري والثقافي ويتحقق بانصهار مجموعة من الدول، تربطها صلات متينة كاللغة والدين والتاريخ المشترك والمصالح الاقتصادية والبشرية الموحدة .

وكنتيجة لهذا الاتحاد تفقد الدول الأعضاء سيادتها الخارجية، ولكنها تحتفظ بسيادتها الداخلية في معظم شؤونها فيكون لكل دولة من الدول الأعضاء في الاتحاد المركزي دستورها وقوانينها الخاصة بها، ومجالسها النيابية وحكومتها وقضائها، وفي نفس الوقت يكون لدولة الاتحاد المركزي دستور خاص بها وسلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية، ويكون لها وحدها حق تولي الشؤون الخارجية للاتحاد وحق تبادل التمثيل السياسي مع الدول الأجنبية.

ولهذا يمكن اعتبار الاتحاد المركزي أو الفيدرالي كما ذهب إلى ذلك بعض الفقهاء “دولة موحدة على المستوى الخارجي دولة موحدة على الصعيد الداخلي ” وبالمقارنة مع كنفدرالية الدول التي هي أيضا من أنواع الدولة المركبة، يبقى الاتحاد الفيدرالي أكثر متانة وقوة وعمقا، ولذلك فهو يتميز عن غيره من أنواع الاتحادات الأخرى بمجموعة من المميزات والخصائص.

وقد انتشر هذا النموذج (الاتحاد الفيدرالي) بعد قيام الاتحاد الأمريكي في عام 1787، وتبنته عدة دول في مختلف أنحاء العالم لأسباب سياسية أو تاريخية أو جغرافية، ومن أمثلة الدول الاتحادية نذكر الولايات المتحدة الأمريكية وكندا والبرازيل وفنزويلا وسويسرا والهند وماليزيا ونيجريا والإمارات العربية المتحدة.

  • – نشأة الدولة الفيدرالية :

إذا كان الاتحاد الفيدرالي يتم على أساس دستور، فإن قيامه وتكوينه يكون إما عن طريق التجمع والانضمام وإما عن طريق الانفصال والانقسام :

– طريقة الانضمام

بمقتضى هذه الطريقة تنشأ الدولة الاتحادية نتيجة لانضمام وتجمع عدة دول في إطار دولة واحدة، ومن تم فالدولة الفيدرالية تتكون طبقا لهذه الطريقة من خلال اندماج عدة دول أو ولايات مكونة فيما بينها دول اتحادية، وغالبا ما يكون الباعث على الاتحاد هو تكتل جهودها أو مواجهة خطر خارجي، أو قيام ولاية قوية، بتوحيد ولايات ضعيفة مجاورة لها ضمن دولة اتحادية، وقد تكون الحاجة إلى تطوير الروابط الضعيفة للكنفدرالية إلى روابط قوية ضمن دولة فيدرالية.

– طريقة الانفصال

وفق هذه الطريقة ينشأ الاتحاد الفيدرالي نتيجة تقسيم مقصود ومتعمد لأجزاء متعددة من دولة سابقة كانت بسيطة وموحدة، حيث تحافظ هذه الأجزاء على رغبتها في استمرار الروابط فيما بينها ولكن بشكل آخر، هو الاتحاد المركزي . ولهذا فبمقتضى هذه الطريقة تتحول الدولة الموحدة عن طريق الانفصال والانقسام إلى دولة اتحادية، وكمثال على ذلك الاتحاد السوفياتي سابقا وروسيا حاليا.

  • – المبادئ التي تقوم عليها الدولة الفيدرالية :

خلاف لكونفدرالية الدول (الاتحاد الكونفدرالي) التي تقوم على أساس معاهدة تبرمها الدول الأعضاء وتصادق عليها، فإن الاتحاد الفيدرالي يقوم على أساس دستور مكتوب تشارك في سنه واعتماده كل الدويلات او الولايات المكونة للاتحاد، وتتميز الدولة الفيدرالية بنوع من التعقيد في تنظيمها وتسييرها وذلك لكونها توفق بين ضرورة إرضاء الولايات والدويلات المنضوية في إطارها وذلك بمنحها مجموعة من الصلاحيات والسلط الداخلية التي تمارسها بصفة مستقلة عن الاتحاد المركزي وعن باقي الولايات الأخرى، هذا من جهة، ومن جهة أخرى ضرورة تمتيع الاتحاد المركزي بمجموعة من السلط والوسائل والأجهزة للقيام بوظائفه على المستوى الدولي والدبلوماسي والاقتصادي والدفاعي دون المساس بالصلاحيات والسلط الداخلية المخولة لمكونات الاتحاد الفيدرالي، ولضمان الانسجام والتوافق بين مكونات الاتحاد، تقوم الدولة الفيدرالية على أساس مبدأين اثنين هما : مبدأ الاستقلال الذاتي ومبدأ المشاركة.

– مبدأ الاستقلال الذاتي

يعتبر مبدأ الاستقلال الذاتي مبدأ أساسيا في النظم الفيدرالية، حيث يضفي على مجموع أعضائها الطابع الدولي، ويميزها عن نظام الأقاليم والجهات في الدولة الموحدة. ويقضي هذا المبدأ بأن تمارس كل دولة منخرطة في الاتحاد اختصاصاتها الدستورية والإدارية والقضائية دون تدخل من الدولة الفيدرالية، فالحكام يمارسون سلطاتهم بناءا على تفويض من شعب الدويلة بذاتها.

ومن مظاهر الاستقلال الذاتي الذي تتمتع به الولايات في إطار الدولة الفيدرالية أيضا، إمكانية الولايات في وضع دساتير خاصة بها، ويمكن أن تتضمن هذه الدساتير مجموعة من المقتضيات المتعارضة، ولكن الأساس هو ألا تتضمن أي مقتضى يتعارض مع المبادئ المنصوص عليها في الدستور الاتحادي.

وزيادة على ذلك فالولايات تتمتع بتواجد سلطات تنفيذية وتشريعية وقضائية خاصة بها، تمارس اختصاصاتها وصلاحياتها بحرية تامة، ولا يحدها إلا ما هو منصوص عليه من مبادئ ونصوص واردة في الدستور الاتحادي. وكل خلاف في الاختصاص يحدث بين السلطات الفيدرالية وسلطات الولايات من جهة أو بين سلطات الولايات فيما بينها من جهة ثانية، تبت فيه المحكمة الدستورية العليا وهي أعلى هيئة قضائية فيدرالية، وتتولى أيضا السهر على احترام مقتضيات الدستور الفيدرالي ومقتضيات دساتير الولايات، إضافة إلى توليها لمهمة الرقابة على دستورية القوانين وذلك بمراعاة مدى تطابقها مع مقتضيات الدستور الفيدرالي، هذا زيادة على تواجد محكمة دستورية على صعيد كل ولاية تتولى أيضا النظر في مدى تطابق القوانين التي تقرها برلمانات الولايات مع أحكام دساتيرها ومع أحكام الدستور الفيدرالي.

وعلى الرغم من تواجد مجموعة كبيرة من مظاهر استقلال الولايات عن الاتحاد الفيدرالي إلا أن ذلك لا يعني انفصالها عنه، وإنما تبقى داخلة في إطاره، وعاملة طبقا لمقتضيات دستوره، ومحافظة على استقراره ودوامه، ويتم ذلك من خلال مجموعة من الآليات يجسدها مبدأ المشاركة الذي يضمن مشاركة كل مكونات الدولة الفيدرالية في تسييرها وتدبيرها.

– مبدأ المشاركة

طبقا لهذا المبدأ، يحق لكل مكونات الاتحاد الفيدرالي المساهمة في تسيير وإدارة شؤونه، فهو يضمن تعاون كل الولايات المكونة للإتحاد، وهذا ما يجعل الدولة الاتحادية تبدو وكأنها دولة موحدة على المستوى الخارجي، ودولة موحدة أيضا على المستوى الداخلي. ويظهر تطبيق مبدأ المشاركة داخل الاتحاد الفيدرالي على المستويين التشريعي والتنفيذي.

فعلى المستوى التشريعي، نجد أن برلمانات الاتحاد الفيدرالية تتكون من مجلسين مجلس ينتخب على أساس عدد سكان الدولة الاتحادية ويمنح تمثيلا أكبر للولايات ذات الكثافة السكانية المرتفعة، وفي هذا إرضاء لها، ومجلس ثان يضمن تمثيلا متساويا لكل الولايات بغض النظر عن عدد سكانها وفي هذا إرضاء للولايات الصغيرة.

وعلى المستوى التنفيذي، فمشاركة الولايات في السلطة التنفيذية، تختلف باختلاف شكل النظام السياسي للدولة الفيدرالية، فإذا كان هذا النظام رئاسيا كما هو في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن المشاركة تأخذ صبغة انتخاب رئيس الدولة الفيدرالية من قبل مجموع الشعب المكون لها، أما إذا كان النظام الفيدرالي برلمانيا كما هو الحال في ألمانيا الاتحادية فإن السلطة التنفيذية تنبثق عن البرلمان وتمثل أغلبيته.

وأما إذا كانت الدولة الاتحادية تأخذ بنظام الجمعية كما هو الشأن في سويسرا فإن السلطة التنفيذية يتولاها مجلس اتحادي تنفيذي، يمثل كل الولايات أو المقاطعات، ويقتصر عمله على تنفيذ مقررات البرلمان الفيدرالي. وتفاديا لكل اختلاف بين الاتحاد والولايات، يتولى الدستور الاتحادي تنظيم اختصاصات الاتحاد، وتحديد طبيعة علاقاته بالولايات، ويعد هذا الأمر عامل قوة لدعم وتقوية الدولة الفيدرالية.

  • – طرق توزيع الاختصاصات بين السلطة الاتحادية وسلطات الولايات :

كنتيجة منطقية لازدواجية السلطات العامة في الدولة الفيدرالية، تقوم مشكلة توزيع الاختصاص بين هذه السلطات، ولحل هذه المسألة اتجهت مختلف دساتير الدول الاتحادية في العالم المعاصر إلى اعتماد إحدى الطرق التالية لتوزيع الاختصاصات ومنع تداخلها بين السلطات الاتحادية وسلطات الولاية.

الطريقة الأولى: بمقتضى هذه الطريقة يحدد الدستور الاتحادي على سبيل الحصر اختصاصات السلطات المركزية وتلك التي تدخل في اختصاص السلطات التابعة للولايات ويعاب على هذه الطريقة أن التحديد الحصري لاختصاصات كل من السلطات المركزية وسلطات الولايات لا يمكن أن يكون شاملا وتاما مهما بلغت درجة تفصيل وتدقيق الدستور زيادة على إمكانية ظهور أمور واختصاصات أخرى جديدة مع مرور الزمن وتغير الظروف دون أن يكون الدستور قد حدد الجهة المختصة بها سلفا، الأمر الذي قد يؤدي إلى ظهور تنازع حول الجهة المختصة أهي السلطة الاتحادية أم سلطات الولايات.

الطريقة الثانية : بموجبها يحدد الدستور حصريا سلطات الدولة الاتحادية، ويترك ما عداها لاختصاص سلطات الولايات، وفي هذه الحالة يكون اختصاص السلطات المركزية ضيقا واستثنائيا على خلاف اختصاص سلطات الولايات الذي يكون عاما وشاملا، بحيث تختص هذه الأخيرة إضافة إلى ما هو منصوص عليه في الدستور، في كل المسائل والأمور الأخرى غير الواردة في الدستور إضافة إلى اختصاصها في كل ما يستجد من وظائف وقضايا مستقبلا.

وهذه الطريقة هي الأكثر شيوعا واستعمالا في أغلبية الدول الفيدرالية التقليدية كالولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وسويسرا ….غير أنه يلاحظ أنه إذا كانت الدساتير الاتحادية في هذه الدول تجعل من اختصاص سلطات الولايات هو الأصل أو القاعدة، واختصاص سلطات الاتحاد هو الاستثناء، فإن الواقع العملي قد سار في اتجاه عكسي، فقد أخذت هذه الدول شيئا فشيئا في توسيع اختصاص السلطات المركزية على حساب اختصاص سلطات الولايات …

الطريقة الثالثة : هي على عكس الطريقة الثانية، يتم بموجبها تحديد اختصاصات ومجالات تدخل سلطات الولايات على سبيل الحصر، أما اختصاصات السلطات المركزية فتبقى غيرمحددة، لتتولى بذلك ممارسة كل ما هو منصوص عليه في الدستور، وما هو غير وارد فيه ولتتولى أيضا ممارسة الاختصاص في كل الأمور والمسائل المستجدة.

وبمقتضى هذه الطريقة يكون اختصاص السلطات الاتحادية المركزية اختصاصا عاما يشكل الأصل، أما اختصاص سلطات الولايات فيعد اختصاصا استثنائيا ومحدودا. ومن أمثلة الدساتير التي اعتمدت هذه الطريقة في توزيع الاختصاص بين السلطات المركزية الفيدرالية وسلطات الولايات نذكر دستور كندا، والهند وفنزويلا.

ثانيا – أصل نشأة الدولة :

لقد تعددت واختلفت النظريات التي حاولت البحث في نشأة الدولة وتكوينها، وتحديد أساسها أو الأصل الذي تستمد منه سلطاتها، ومن بين هذه النظريات نذكر النظريات التيوقراطية ونظريات العقد الاجتماعي، ونظرية تطور الأسرة الى جانب النظريات الأخرى منها النظرية الخلدونية ( نسبة إلى عالم الاجتماع الكبير عبد الرحمن ابن خلدون) ، والنظرية الماركسية أو ما يطلق عليه ( نظرية الحتمية التاريخية) ، والنظرية القانونية ( نظرية الأساس الدستوري) .النظرية السوسيولوجية ( المؤسسة الاجتماعية).

ويرجع تعدد هذه النظريات إلى اعتبارات تاريخية وفلسفية، وإلى اختلاف المذاهب حول سلطات الحكم وأشكاله، كما يرجع إلى أن الدولة التي بحث الفقهاء في مصدرها وقاعدتها عرفت تطورا في نشوئها، مما جعل بعض النظريات تفقد صلاحيتها أمام التحليل العلمي فتفسح المجال لنظريات أخرى.ومن جهة أخرى يعود الاختلاف حول نشأة الدولة إلى اختلاف مدارس التفكير بين من حاولوا البحث عن منشأ اجتماعي للدولة، ومن حاولوا البحث عن قاعدة قانونية لها، وإلى اختلاف الأهداف السياسية كذلك.

1 – النظريات التيوقراطية :

يذهب أنصار الحكم الفردي المطلق، إلى كون الناس في حاجة ماسة لحكم قوي يمارس صلاحياته دون أية قيود ودون معارضة، ولا توجد فوقه سلطة أخرى بإمكانها مراجعة قراراته أو إلغائها، ولتحقيق ذلك أعلنوا أن الله هو المالك الحقيقي للسلطة، وأن الدولة تستمد سلطاتها من الله وليس من أعضاء المجتمع، غير أنه على الرغم من إرجاع أنصار الحكم الفردي أصل الدولة إلى أساس إلاهي واتفاقهم بالإجماع على ذلك، فإنه يختلفون فيما يتعلق بطريقة اختيار الحكام، وعموما يمكن أن نميز في هذا الإطار بين ثلاثة نظريات.

أ – نظرية الطبيعة الإلهية للحاكم :

تسمى أيضا بنظرية الحاكم /الإله، وهي تذهب إلى اعتبار الحاكم إلاها، لا يستمد سلطاته وصلاحياته من أحد، ولا يمكن لأي كان أن يمارس عليه الرقابة، أو أن يعارض ما يصدر عنه من قرارات، على اعتبار أن كل معارضة للحاكم هي معارضة للإله، وتعرض صاحبها لعقاب دنيوي وأخروي.

وقد عرفت هذه النظرية تطبيقات عملية، ففي عهد مصر الفرعونية مثلا، كان الملك فرعون يعتبر نفسه إلاها، كما طبقت هذه النظرية أيضا في كل من الهند القديمة والصين، حيث كان الملوك والأباطرة يعتبرون أنفسهم آلهة ولا سلطة فوق سلطتهم. ومن وجهة نظر علمية، تعد هذه النظرية، نظرية استبدادية تؤسس لطغيان الحكام واستفرادهم بالسلطة بعيدا عن كل محاسبة أو تحمل للمسؤولية انطلاقا من كون الحاكم الإله منزها ومقدسا.

ب – نظرية الحق الإلهي المباشر :

يطلق عليها أيضا، نظرية التفويض الإلهي، ومفادها أن الحاكم لا يعتبر إلاها وإنما خليفة الله، ويستمد مختلف سلطاته وصلاحياته مباشرة من الله، ولا يحتاج في ذلك إلى تزكية الشعب أو موافقته، ولا يسمح في إطار هذه النظرية بمعارضة تصرفات الحاكم، لكون كل معارضة له أو مقاومة لتصرفاته وأعماله تعتبر بمثابة معارضة ومقاومة لله الذي اختاره واصطفاه، وفوض له سلطانه باعتباره خليفة له، ومنحه سلطة الحكم باسمه.

وعلى هذا الأساس، فهذه النظرية لا تخرج هي الأخرى عن كونها تؤسس للاستبداد وطغيان الحكام، ولمقاومة كل إصلاح يكون مصدره الشعب.

ج – نظرية الحق الإلهي غير المباشر :

تسمى أيضا بنظرية العناية الإلهية، وتختلف عن سابقاتها من حيث الشكل، لا من حيث المضمون، حيث أن هذه النظرية تقول بأن الحاكم يتم اختياره من طرف الشعب، ولكن بإيعاز من الله، فالله طبقا لهذه النظرية هو الذي يوجه إرادة عباده إلى اختيار الحاكم حاكم معين دون غيره ، ومن حيث مضمونها، فهي لا تسمح أيضا بمقاومة طغيان واستبداد الحكام لكونهم يختارون طبقا للإرادة الإلهية، وبالتالي فكل مقاومة أو معارضة لهم تعتبر بمثابة مقاومة ومعارضة لله.

وعموما، فالنظريات التيوقراطية كلها نظريات غير ديمقراطية لإقصائها للشعب في عملية اختيار حكامه، ومراقبتهم وعزلهم في حالة خروجهم وابتعادهم عن مصلحة الشعب، وقد عرفت هذه النظريات تطبيقات عملية في عهد مصر الفرعونية، وفي عهد الهند القديمة كما عرفت بعض التطبيقات حتى في الدول الأوربية قبل حدوث الثورات بها.

وفي مقابل هذه النظريات ظهرت مجموعة من النظريات الأخرى التي ترجع أصل نشأة الدولة إلى الإنسان ذاته بعيدا عن أية قوة غيبية، ومن أهم هذه النظريات نظريات العقد الاجتماعي، التي ترجع أصل الدولة إلى عقد اجتماعي بين الحكام والمحكومين، رغم اختلافها في طريقة إبرام هذا العقد وفي النتائج المترتبة عنه.

2 – نظريات العقد الاجتماعي :

ترتكز نظريات العقد الاجتماعي على الأصل التعاقدي للدولة، أي أن مصدر سلطات الدولة ليس هو الله وإنما العقد الذي يبرم بين الحاكمين والمحكومين، والذي بناء على أساسه يقوم الحكام بممارسة سلطاتهم وصلاحياتهم، لكن مع احتفاظ الشعب بحق المعارضة، ومتابعة الحكام في حالة إخلالهم ببنود العقد رغم اختلاف درجة هذه المعارضة والمتابعة من مفكر لآخر، ورغم اختلاف طريقة إبرام العقد أيضا وهذا ما يظهر جليا من خلال كتابات رواد نظريات العقد الاجتماعي : توماس هوبز، وجون لوك، وجون جاك روسو.

أ – نظرية العقد الاجتماعي عند توماس هوبز 1679 – 1588 :

ينطلق توماس هوبز في نظريته من حالة الطبيعة التي يصورها على أنها كانت تتميز بالفوضى والحرب الدائمة لعدة اعتبارات أهمها ميل ونزوع الإنسان إلى الشر، ومن تم يقول هوبز بأن هذه المرحلة (مرحلة حالة الطبيعة) كانت تتميز بحرب الجميع ضد الجميع وبسيادة “قانون الغاب والبقاء للأقوى”.

وللخروج من هذه الحالة، ولإنهاء حالة الحرب، وسيادة السلم والأمن، وظف توماس هوبز فكرة” الليفياتان”، للرمز إلى الدولة أو السلطة القوية القادرة على إنهاء الحرب والعنف ونشر الأمن والاستقرار، وذلك لما تمتلك من وسائل الضبط وقدرات الإكراه والقهرة ، ومن ذلك نستنتج دعوة توماس هوبز إلى إقامة دولة قوية مبنية على الطاعة تتمتع بسلطات مطلقة وغير مقيدة وذلك بهدف تحقيق الانتقال من الحالة الطبيعية إلى الحياة في إطار مجتمع منظم ومستقر.

ولبناء الدولة وفقا لتصور هوبز، يقترح عقدا اجتماعيا يتنازل بموجبه كل أفراد المجتمع عن جميع حقوقهم لفائدة الحاكم الذي سيضمن لهم تحقيق السلام، وسيادة الطمانينة بدلا عن حالة الحرب والفوضى التي كانوا يعيشون فيها.

ويعتبر هذا العقد حسب هوبز أساس سلطة الدولة، إلا انه يعاب عليه كونه عقدا من جانب واحد، والحاكم لا يعد طرفا فيه، ومهما بلغت درجة طغيان أو استبداد الحاكم لا يحق للمحكومين أن يعارضوه، ولا أن ينازعونه في سلطته المطلقة ما داموا قد تنازلوا له بمحض إرادتهم بموجب العقد عن كل السلط والصلاحيات وبالتالي لم يبق من حقهم أن يثورا ضده أو أن يطالبوه بحقوقهم.

ب – نظرية العقد الاجتماعي عند جون لوك 1704 – 1632 :

يعد جون لوك من أبرز مفكري نظريات العقد الاجتماعي، وأكثرهم جرأة وتقدما، وينطلق هو الآخر في تفسيره الظاهرة نشوء الدولة وأصل سلطتها، من حالة الطبيعة، إلا أنه وعلى خلاف توماس هوبز، فلوك يذهب إلى كون حالة الطبيعة كانت حالة عادية تتميز بسيادة التألف والتعايش بين أفراد المجتمع، وبسيادة الأمن والسعادة، غير أن دافع الحفاظ على هذه الحقوق والمكتسبات زيادة على هدف حماية الملكية الخاصة وسيادة الحرية، كان وراء تحقيق الانتقال من حالة الطبيعة إلى حالة المجتمع المدني والسياسي المنظم.

ويذهب جون لوك في تبريره للانتقال إلى كون حقوق الأفراد وحرياتهم تبقى معرضة للانتهاك في ظل حالة الطبيعة نظرا لغياب وافتقاد هذه الأخيرة حالة الطبيعة لثلاثة دعائم وركائز أساسية وهي : غياب قانون قائم ومحدد ومعروف ومقبول بموجب اتفاق عام كمعيار للخير والشر، وقاض كفء وغير متحيز من أجل تطبيقه، وقوة إكراهية من أجل تنفيذ حكم القاضي حسب الأصول.

فمن أجل حماية الحريات والحقوق وعلى رأسها الحق في الملكية، ومن أجل حماية مكتسبات حالة الطبيعة، ذهب أفراد المجتمع حسب لوك إلى إبرام عقد اجتماعي مع الحاكم، الهدف منه هو تحقيق حياة أفضل.

وبحسب لوك فإن العقد يبرم باتفاق وتراض بين المحكومين من جهة والحاكم من جهة أخرى . وبمقتضى هذا العقد لا يتنازل المحكومين عن كل حقوقهم وحرياتهم كما هو الأمر في نظر هوبز، وإنما فقط عن جزء منها كما أنه بموجب هذا العقد الاجتماعي يحق للمحكومين الوقوف ضد كل شطط في استعمال السلطة من قبل الحاكم، وضد كل انحراف أو خروج عن مقتضيات العقد، أو عدم الالتزام بها من طرف الحاكم.

ولذلك يقر لوك لأفراد المجتمع بالحق في معارضة الحاكم متى تعدى حدود العقد وتجاوزها … وعلى هذا الأساس يعد لوك من السباقين لطرح مفهوم المعارضة “كآلية لمقاومة طغيان واستبداد الحكام” ، على اعتبار أن سلطة الحكام طبقا للعقد الاجتماعي المقترح من طرف لوك ليست سلطة مطلقة، وإنما هي مقيدة بما اتفق عليه في العقد المبرم بين المحكومين والحاكم.

ج – نظرية العقد الاجتماعي عند جان جاك روسو 1778 – 1712 :

يعد جان جاك روسو ثالث رواد نظرية العقد الاجتماعي، وتعتبر أعماله وكتاباته أصيلة وذات طبيعة شمولية، وتتميز بدقة كبيرة وينطلق روسو في تفسيره لأصل نشأة الدولة والأساس الذي تستمد منه سلطاتها من حالة الطبيعة، التي كانت بحسب رأيه حالة عادية تسود فيها الحرية والاستقلال، ولكن على الرغم من ذلك فروسو استبعد أن يكون الإنسان شريرا بالفطرة،

كما تجنب القول بأنه طيب ومسالم، بل هو “أي الإنسان” في حالة براءة لم تدم طويلا بسبب توسيع الملكية الخاصة، مع ما ترتب عن ذلك من نتائج وصراعات بين طبقات المجتمع، الأمر الذي دفع بطبقة الأغنياء إلى البحث عن وسيلة للقضاء على هذه الوضعية، فاستمالوا الفقراء من أجل إقامة مجتمع قاعدته العقد يبرم بينهم للمحافظة على أموالهم والقضاء على الحروب والغزوات، وبمقتضى هذا العقد يتنازل كل فرد على جميع حقوقه مقابل الحصول على حقوق وحريات مدنية تقررها الجماعة للأفراد.

وعلى خلاف جون لوك، فالعقد الاجتماعي الذي يعد أساس الانتقال من حالة الطبيعة إلى حالة المجتمع المدني والسياسي المنظم لم يبرم بين طرفين أي الحاكم والمحكومين، وإنما أبرم فقط من قبل الأفراد فيما بينهم باعتبارهم أفرادا مستقلين من جهة، وباعتبارهم أعضاء متحدين ومتضامنين يشكلون الشخص الجماعي العام من جهة أخرى.

وبمقتضى العقد الاجتماعي، حسب جون جاك روسو، يتنازل أفراد المجتمع عن حقوقهم كلية ولكن في مقابل ذلك يتمتعون بحقوق وحريات أخرى تقررها السلطة لصالح الجماعة، على اعتبار أن الدولة تستمد وجودها وسلطتها من إرادة الجماعة التي أنشأتها وخولت لها حق ممارسة السلطة باسمها، ويترتب عن هذا التصور نتائج سياسية هامة منها:

1 – أن الشعب هو مصدر السلطة السياسية.

2- أن السيادة هي حق للشعب وحده، ولا يمكن أن تكون حقا شخصيا للحكام، بل إنهم يمارسون مظاهر السيادة فقط.

3 – أن الدولة ما هي إلا جهاز تعاقدي.

وتبقى سلطة الدولة وفقا لتصور روسو، سلطة مقيدة بالإرادة العامة، ويبقى من حق الشعب وهو المالك الحقيقي للسيادة أن يمارس الرقابة على الحكام ما داموا يمارسون السلطة باسم الجماعة ولصالحها.

فالحكام ما هم إلا وكلاء عن المجموع، أو على حد تعبير روسو خداما، ومن ثم يكون للأفراد حق عزل هؤلاء الحكام إذا ما عن لهؤلاء الأخيرين الاستبداد بسلطاتهم، ومسوا حقا من حقوق الأفراد، أو تضمنت تصرفاتهم اعتداء عليها أو نيلا منها.

وبصفة عامة، فنظريات العقد الاجتماعي، تعد نظريات ديمقراطية على الرغم من التفاوت فيما بينها ، وهي نظريات افتراضية خيالية، تنطلق من تصورات مختلفة لحالة الطبيعة بقصد الانتقال إلى المجتمع المدني المنظم الذي يعتمد على سلطة المؤسسات بدل سلطة الأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم آلهة أو يستمدون شرعيتهم من الله، ولا يتحملون مسؤولية تصرفاتهم أمام الشعب كما تذهب إلى ذلك النظريات التيوقراطية.

وقد ساهمت هذه النظريات على الرغم من الانتقادات الموجهة لها في إعادة بناء الفكر السياسي الأوروبي، وفي إعادة الاعتبار للإنسان ( الفرد / الجماعة) بالنظر لكونه الأساس الذي تستمد منه الدولة شرعيتها وسلطتها، والهدف الذي توجد من أجل خدمته وحماية حقوقه وحرياته.

وإذا كان الفضل يرجع لهذه النظريات في تحديد مفهوم السلطة، فإليها يرجع الفضل أيضا في تحديد طبيعة العلاقة بين الشعب والحكام من جهة، وبين الإرادة العامة والإرادة الخاصة من جهة ثانية .

فهذه النظريات اعتبرت الشعب هو المالك الحقيقي للسيادة وهو صاحب السلطة، أما الحكام فهم وكلاء عن الشعب والإرادة العامة سابقة ومقدمة على الإرادة الخاصة.

غير أنه، وبفعل مجموعة من الظروف والأحداث التاريخية، وبفعل التغيرات التي شهدتها الدول الأوربية خلال القرن التاسع عشر، فإن نظريات العقد الاجتماعي عرفت تراجعا ملموسا، كما فقدت نسبيا وظيفتها الإيديولوجية لصالح نظريات جديدة ذات منحى قانوني واجتماعي.


مراجع معتمدة :

المختار مطيع، القانون الدستوري والمؤسسات السياسية.

Bernard chantebout: Droit constitutionnel et Sciences Politique

رقية المصدق، القانون الدستوري والمؤسسات السياسية، الجزء الأول، الطبعة الأولى، 1986.

مليكة الصروخ: القانون الإداري، دراسة مقارنة، الطبعة الثانية 1992.

محمد الأعرج: القانون الإداري المغربي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى