بات القانون الاجتماعي يحظى بأهمية متميزة على مختلف المستويات والأصعدة، وذلك بالنظر إلى الدور البارز الذي يلعبه العمل والشغل في الحياة اليومية للأفراد والمجتمعات من خلال سد مختلف حاجياتهم من جهة، ومساهمته الفاعلة في تطوير اقتصاد الدولة وتحقق تقدمها وازدهارها من جهة ثانية. فهذا الفرع من فروع القانون له أثره البالغ في حياتنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وإذا كان الكل يقر بأن قانون الشغل يكتسب أهمية مباشرة بالنسبة لأطراف العلاقة الشغلية، فإنه بالمقابل لا يستطيع أحد إنكار حساسيته ودوره الفاعل وأثره البالغ على المجتمع بأكمله ومن نواح متعددة. وعلى الرغم من كون قانون الشغل يعتبر قانونا حديثا، فإنه صار اليوم يتصدر أغلب فروع القانون الأخرى بفضل أهميته الفائقة على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
الأهمية الاجتماعية لقانون الشغل
إن نشأة هذا القانون ارتبطت أساسا بالاعتبارات الإنسانية والاجتماعية المتمثلة في النهوض بأحوال الأجراء، وتنظيم ظروف عملهم وتحسين معيشتهم، وكذا تحقيق حياة أفضل لهم، وهو بهذا يلعب دورا بارزا في تنظيم حياتهم، ويكفل لهم التمتع بحقوقهم بما يضمن حياة كريمة لهم.
وترجع الأهمية الاجتماعية لقانون الشغل، إلى كونه يحكم شغل أكبر طوائف المجتمع عددا، فهو يسري على شريحة واسعة من المجتمع ويخاطب قطاعا عريضا وحيويا من مجموع السكان يتمثل في الطبقة العاملة، وبما أن هذه الفئة تؤدي شغلا تابعا لحساب الغير تحت رقابته وإشرافه وتوجيهه مقابل أجر، فإن هذا القانون من دون شك يبقى في غاية الأهمية بالنسبة للأجراء، سيما وأن ما يتقاضونه من أجور يشكل المورد الغالب لعيشهم وعيش أفراد أسرهم. لذلك كان له تأثير بالغ في حياة الأجير وأفراد أسرته؛ فعلى مقتضى قواعده يتوقف احتفاظ الأجير بإنسانيته أو إهدار أدميته، لأن الأجر الذي يحصل عليه هو الذي يحدد مستوى المعيشة التي يعيش بها هو وأفراد أسرته.
وتظهر الأهمية الاجتماعية لقانون الشغل كذلك في كونه لا يقتصر على تنظيم العلاقة التي تربط الأجراء بالمشغلين، بل يتجاوز ذلك إلى التأثير المباشر في الحياة اليومية لهؤلاء الأجراء وأسرهم، ذلك أن قواعده تنعكس على حياة الأجير الوظيفية والشخصية والعائلية، فهي التي تتولى تحديد ساعات الشغل وأوقاته، والراحة الأسبوعية، والعطلة السنوية المؤدى عنها، والإجازات المرضية، ونظام الأجور والتعويضات والتأمينات الاجتماعية للعمال وذويهم في حالات الإصابة والمرض والعجز والوفاة، وطبعا فإن هذه القواعد لا تمس فقط الحياة الشخصية للأجير بل تشمل كذلك أسرته ومن هم تحت رعايته.
إن تبعية الأجراء للمشغلين يمكن أن تقود في بعض الأحيان إلى نشوب صراعات ونزاعات بين الطرفين، مما يستوجب العمل على إقامة علاقات متوازنة بين طرفي الإنتاج، والحرص على ضمان الحماية اللازمة للأجراء لاستقرار علاقات العمل. وعليه فإن قانون الشغل له أهمية خاصة في إرساء مبادئ الأمن والسلم الاجتماعي، ذلك أن تنظيم روابط العمل بشكل سليم ومتوازن يؤدي إلى إشاعة روح التعاون والانسجام، ويقضي على أسباب القلق والتذمر والاضطراب، فبمقتضى قانون الشغل يتحدد الوضع الإنساني واللا إنساني لحياة الأجراء، وبغير هذه الكفاءة في استعمال قوانين الشغل تسوء الأوضاع وتضطرب الأحوال الاقتصادية.
وترتيبا على ما سبق يمكن القول: إن المحرك الأول لعملية التطور والتقدم والازدهار للأمم، هو تشريع الشغل ؛ فتنظيم علاقات العمل والسعي إلى تطويرها تؤدي حتما إلى تحقيق الرفاهية والخير والرخاء للمجتمع وأما ضعف مستوى تشريع الشغل أو تطبيقه بشكل غير فعال فسيقود إلى نتائج معكوسة ومحزنة.
الأهمية الاقتصادية لقانون الشغل:
يحتل العمل مكانة بارزة في حياة الفرد والمجتمع على حد سواء، فهو بالإضافة إلى كونه المصدر الأساسي لمعيشة الغالبية العظمى من البشر، فإنه المحرك الأول لعملية التطور والتقدم والازدهار للأمم. وهو ما جعل الدول والحكومات تعنى بتنظيم العلاقات العمالية وتحرص على إقرار نوع من التوازن بين مصالح طرفي الإنتاج (أصحاب الأعمال والعمال)، مع مراعاة قواعد العدالة الاجتماعية وكفالة حقوق الأجراء لما لهم من أهمية في بناء المجتمع، فالرأسمال المادي الموظف في المشروعات الإنتاجية من قبل المستثمرين، لا تفوق أهميته أهمية الرأسمال اللامادي المتمثل في الموارد البشرية، لأنه بدون توفر هذا الأخير سيظل رأس المال بلا قيمة وبالتالي فإن المنفعة الاجتماعية للعمل تفوق المنفعة الاجتماعية للرأسمال المادي
ولما كان العمل أداء ضرورية لإنتاج الأموال اللازمة لسد حاجات الإنسان، كان طبيعيا أن تكون هنالك روابط وثيقة بين القانون الذي ينظم شؤون العمل وبين الاقتصاد فبين قانون الشغل والاقتصاد علاقة تأثير وتأثر، بحيث يتأثر قانون الشغل بالنظام الاقتصادي السائد في الدولة، كما أن قانون الشغل يؤثر بدوره تأثيرا بليغا في الحياة الاقتصادية.
ومن مظاهر تأثير الاقتصاد على الشغل، يمكن الحديث عن التطور الذي عرفته الآلات وما نجم عنها من حوادث في صفوف الطبقة العاملة، وما سببته من بطالة جراء الاستغناء عن الكثير من الأيدي العاملة كما أن الظروف الاقتصادية العامة لها بالغ الأثر على قانون الشغل، بحيث تجد بأن تقلبات الأثمان تؤثر في القيمة الفعلية للأجور، وزيادة الإنتاج تساعد المشغل على تحمل أعباء التشريعات الاجتماعية؛ فكل تطور يطرأ على النظم الاقتصادية يؤثر في قانون الشغل.
وإذا كان للاعتبارات الاقتصادية أثر في قانون الشغل، فإن هذا الأخير يؤثر بدوره في الحياة الاقتصادية. وذلك بالنظر إلى تدخله في بعض العناصر الرئيسة للنشاط الاقتصادي وهي تشغيل الأيدي العاملة، والقوة الشرائية للأجراء، والأعباء المالية للمشروعات بحيث نجد أن قانون الشغل يتضمن مجموعة من القواعد المنظمة للأيدي العاملة، والتي تمنح الأجراء مستوى معينا من الحماية أو المزايا كتحديد ساعات العمل.
وتقرير راحات أسبوعية واجازات سنوية، وتحريم تشغيل بعض الفئات من العمال، ومنحهم الحق في تكوين النقابات العمالية والمفاوضات الجماعية، ولا شك أن هذا التنظيم يؤثر في الإنتاج إذا ما بقيت عناصر النشاط الاقتصادي على حالها، ومع ذلك فإن تحديد ساعات العمل يزيد من نشاط العمال، كما أن حظر تشغيل الأجراء دون السن القانونية للتشغيل يحافظ على صحتهم مما يجعلهم أكثر إنتاجا في مستقبل حياتهم.
وبالنسبة للمشغلين فإنهم يعوضون نقص الإنتاج من هذه الناحية، بتنظيم العمل على صورة أفضل، والسعي نحو الحصول على آلات حديثة، وتشغيل أجراء أكفاء ذوي مهارات عالية.
وفي نفس الوقت الذي يحمي فيه قانون الشغل الأجير من سوء المعاملة، فإنه يعمل جاهدا ليضمن له الحصول على أجر عادل، وفي الحصول على مبالغ إضافية كالضمان الاجتماعي والتعويض عن حوادث الشغل … الخ. ولما كانت هذه الأجور والتعويضات عبارة عن مورد رزق عدد كبير من المستهلكين، فإن تنظيم الأجور يؤثر تأثيرا مباشرا في الاستهلاك، وتأثيرا غير مباشر في الإنتاج. وقد أبرز هذا الرأي بوضوح الاقتصاديون القائلون بأن الأزمات الاقتصادية ترجع إلى نقص الاستهلاك.
وترتيبا على ما سبق، يمكن القول إن العلاقة بين الاقتصاد والشغل تظهر من خلال جانبين لا يمكن الفصل بينهما؛ جانب مكمل لأن الأجراء والمشغلين يكمل بعضهم البعض الآخر للحصول على الإنتاج وجانب تنافسي يظهر بعد انتهاء العملية الإنتاجية، حيث تتنافس كل الأطراف على منافع الإنتاج.
وتظهر الأهمية الاقتصادية لقانون الشغل في كونه يعمل على التوفيق بين المصالح الاقتصادية المتناقضة لطرفي الإنتاج، وتحويلها إلى مصالح مشتركة تحقق التوازن في الحياة الاقتصادية العامة، ولعل إدراك المشرع لهذه الآثار الاقتصادية المهمة يدفعه في بعض الأحيان إلى اتخاذ قانون الشغل كوسيلة لتوجيه الاقتصاد القومي والتحكم في سوق الشغل في إطار تحقيق الخطة العامة والأهداف المنشودة، كتوجيه اليد العاملة وفق احتياجات القطاعات المختلفة، وتخفيض ساعات الشغل ورفع القدرة الشرائية للأجراء… الخ.
لذلك ينبغي على المشرع عند عزمه القيام بسن تشريعات العمل مراعاة الآثار الاقتصادية والاجتماعية حتى تصدر على أسس اقتصادية سليمة وتحقق في نفس الآن العدالة الاجتماعية المنشودة. كما تبرز الأهمية الاقتصادية لقانون الشغل في التقليل من البطالة ومحاربتها وتوفير فرص عمل لأكبر قدر ممكن من الأفراد، وذلك عن طريق تخفيض الحد الأدنى لساعات الشغل وتنظيمها، وإنعاش التشغيل في مجموعة من القطاعات والمناطق الواعدة، أضف إلى ذلك أن قانون الشغل يعمد إلى رفع مستوى معيشة الأجراء، من خلال تمتيعهم بمجموعة من الحقوق والضمانات، خاصة فيما يتعلق بالأجور حيث يؤدي رفعها إلى زيادة القدرة الشرائية وبالتالي زيادة الاستهلاك مما يؤثر بدوره على زيادة الإنتاج وانعاش الاقتصاد وخلق فرص جديدة للعمل.
يتضح لنا إذن عمق التأثير المتبادل بين قانون الشغل والاقتصاد، فالتقدم الاجتماعي يستند إلى حد كبير على التقدم الاقتصادي، ولا ينبغي بحال من الأحوال أن تكون المطالب الاجتماعية عائقا أمام نمو وتطور الاقتصاد، كما لا يجب تحقيق التقدم الاقتصادي على حساب حقوق الأجراء وظروفهم الإنسانية. وهو ما يحتم على المشرع السعي نحو إقامة التوازن بين البعدين الاجتماعي والاقتصادي.
الأهمية السياسية لقانون الشغل:
يعتمد نجاح الدول في تحيق أمن المجتمع واستقراره على مدى قياس آثار إصلاحاتها السياسية على الطبقة العمالية، فهذه الطبقة باتت تتشكل اليوم من أعداد هائلة من أفراد المجتمع، وأصبحت بالتالي رقما صعبا يجب على الدول والحكومات أخذه بعين الاعتبار لضمان استقرارها السياسي وأمنها المجتمعي.
فقد أصبح بارزا اليوم حجم القوة السياسية للطبقة العاملة ودورها في الحقل السياسي عموما، كمكون يصعب على المسؤولين الحكوميين وغير الحكوميين تجاهله في سياستهم، ذلك أن الطبقة العاملة وبالنظر إلى عددها الهائل، أصبحت طبقة سياسية ضاغطة، وبالتالي سيكون لها تأثير بليغ على نتائج العمليات الانتخابية.
ولعل هذا ما يجعل الهيئات السياسية بمختلف مشاربها تعمل جاهدة على تقديم برامج انتخابية تركز أغلب محاورها على النهوض بتحسين أوضاع الأجراء الاقتصادية والاجتماعية، من أجل استمالة أصواتها. مع التأكيد على أن القانون يجب أن يعبر عن الواقع الفعلي للمجتمع الذي ينظم علاقاته ويحكم روابطه، وإلا أصبح مجرد شعارات مرفوعة بلا تطبيق، أو أمال منشودة بلا تحقيق.
وتظهر أهمية قانون الشغل من الناحية السياسية في كونه يعتبر محددا أساسيا في تعزيز وتقرير الاستقرار السياسي داخل البلد من عدمه، فعدم تجاهل سياسات الدولة لأوضاع الطبقة العاملة سواء الاجتماعية منها أو الاقتصادية، من شأنه أن يعزز الاستقرار داخل المجتمع ويساعد في تقدمه وازدهاره. أما عدم احترام المبادئ والحقوق الأساسية للأجراء، أو التراجع عن المكاسب السابقة، من شأنه أن يهدد الاستقرار والتقدم في عالم العمل ويقود بالتالي إلى نتائج غير مرغوبة