توجد في الحياة القانونية عدة تصرفات قانونية وعقود تتشابه في كثير من مقوماتها لدرجة يصعب فيها تمييز أحدهما عن الآخر. والخطورة في هذا التقارب والتشابه تكمن في تحديد القوانين الواجب تطبيقها بالنسبة لهذا العقد أو ذاك.
وفي هذا الإطار يلاحظ أن عقد الشغل يعرف مشكلا حادا في تمييزه عن عدد من العقود المشابهة له، كعقد إجارة الصنعة وعقد الوكالة وعقد المقاولة وغيرها، ومصدر هاته الصعوبة، هو الخصوصية التي يتمتع بها قانون الشغل في مواجهة القواعد العامة للقانون المدني.
واعتبارا لمنهج تقليدي، فقد حدد معظم الفقهاء عناصر عقد الشغل في ثلاثة: تقديم العمل من طرف الأجير، أداء الأجر من طرف المشغل وأخيرا وجود علاقة تبعية من الطرف الأول للطرف الثاني.
والواقع أن العنصرين الأولين ليسا من قبيل الوسائل المميزة فعلا لعقد الشغل، إذ يمكن اعتبارهما من قبيل الالتزامات التي يرتبها العقد على طرفي العلاقة.
أولا: تعريف التبعية
تعرف التبعية بأنها خضوع الأجير لإشراف ورقابة صاحب العمل وتنفيذ الشغل تحت سلطته وإرادته، فعلاقة التبعية تجسد بصورة واضحة عقد الشغل، لأن الأجير لا يشتغل لحسابه ولكن لحساب صاحب العمل، وبعبارة أخرى يزاول شغلا تابعا، وهذا ما يضفي على عقد الشغل نوعا من الاستقلالية وبالتالي تمييزه عن عقود أخرى تشبهه من عدة وجوه إلا أنها تنعدم فيه هذه العلاقة. فما هي إذن أنواع التبعية، وما هو موقف المشرع منها؟.
ثانيا : أنواع التبعية
تنقسم التبعية إلى تبعية قانونية وتبعية اقتصادية:
1- التبعية القانونية :
مفادها حق المشغل في توجيه ومراقبة الأجير أثناء قيامه بالعمل، وفي التزامه بطاعته والامتثال له في هذا التوجيه والمراقبة، كما تظهر التبعية القانونية كذلك في الجزاءات التي يمكن للمشغل عند المخالفة توقيعها على الأجير. وفي هذا التصور لا عبرة بوضعية الأجير الاجتماعية أو الاقتصادية، أي سواء كان غنيا أو فقيرا، إذ يتساوى في ذلك المهندس ومدير الشركة اللذان لهما أجرا مرتفعا مع عامل بسيط في تلك الشركة لا يتقاضى سوى الحد الأدنى للأجر. وتختلف درجة التبعية القانونية باختلاف طبيعة العمل وتخصص الأجير ومستوى كفاءته المهنية. ومن هنا كانت التبعية القانونية أنواع، بحيث يمكن التمييز ما بين التبعية الفنية والتبعية التنظيمية:
* فالأولى: يكون المشغل على دراية بالقواعد والتفاصيل الفنية للعمل المطلوب إنجازه من الأجير، مما يعني خضوع هذا الأخير لتوجيه وإشراف رب العمل بالعمل في جوهر العمل وجزئياته. وهذا النوع من التبعية شائع في النشاطات الاقتصادية الصغرى التي يحترف فيها المشغل ذات الحرفة التي يشتغل فيها الأجير، وذلك مثل الصناعة التقليدية، أو ورشة الميكانيك أو التجارة أو الحدادة، حيث يشتغل المشغل بنفسه في ورشته، مع إشرافه على أجرائه ومراقبته الفنية لهم مراقبة دقيقة وتامة.
* أما التبعية التنظيمية تتجلى بالخصوص لدى بعض الأطر المتخصصة، وذلك كالأطباء، المحامين، والمهندسين وأساتذة التعليم الحر، فصاحب العمل لا يمارس رقابة فنية تتعلق بتفاصيل ودقائق العمل المنجز من طرفهم باعتباره ليس له التخصص وغير ملم به وإنما تنصب رقابته على الظروف الخارجية الإدارية والتنظيمية فقط كأوقات العمل ومكانه وتسليم المواد والأدوات اللازمة للعمل، وتقسيم العمل على الأجراء عند تعددهم، وإجراء تفتيش للتأكد من مراعاتهم لتعليماته، وكل ذلك مع الخضوع للجزاءات التأديبية في حالة مخالفة هذه التعليمات.
2- التبعية الاقتصادية:
حسب التبعية القانونية فإنه يجب على الأجير إنجاز الشغل داخل المؤسسة وتحت الإشراف الفعلي والمباشر لصاحب العمل أو نائبه، لكن التطور الذي طرأ في المجالين الاقتصادي والاجتماعي أدى إلى حدوث تغيير نوعي في أساس علاقات الشغل من الناحية القانونية، ذلك أن تعدد المؤسسات التجارية واختلاف فروعها وظهور شركات متعددة الجنسيات، كل هذا أدى إلى فك الرقابة الفعلية التي كانت لصاحب العمل على أجرائه، فقد يكون صاحب العمل في دولة لكن أجرائه في دولة أخرى، ويصدق هذا بالخصوص على الشركات التجارية العالمية.
بالإضافة إلى ذلك فقد حصل نوع من التحول في ميدان الشغل ذلك أن ظهور فئات جديدة في سوق العمل أدى بالمشرع إلى تمديد حماية القانون الاجتماعي إلى هذه الفئات وذلك كالعمال في بيوتهم الذين يشتغلون لحساب غيرهم.
فهذه الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية، أظهرت ضعف ونسبية علاقة التبعية القانونية، لأنها لم تستطع استيعاب هذا التحول الاقتصادي والاجتماعي في ميدان الشغل، وعلى هذا الأساس ظهرت التبعية الاقتصادية التي قال بها لأول مرة الفقيه كوش سنة 1913 والذي اعتبر وجود التبعية الاقتصادية رهين باعتماد الشخص الذي يؤدي الشغل على ما يحصله من هذا الشغل كمورد وحيد أو كمورد رئيسي للعيش، ومقابل ذلك فإن الذي يدفع أجر الشغل يستعمل نشاط من يؤديه بكامله وبكيفية منتظمة، أي أن التبعية الاقتصادية تفترض عنصرين هما : اعتماد الأجير على عمله من أجل العيش، أي أن يكون عمله هو مورد عيشه الوحيد؛ وأن يؤدي كامل نشاطه لفائدة صاحب العمل بحيث لا يشتغل في مكان آخر مثلا.
ثالثا : موقف المشرع المغربي من التبعية
لقد كان التعريف الذي أورده المشرع المغربي لعقد الشغل من خلال الفصل 723 من ق ل ع محل انتقاد الفقه المغربي، وذلك على اعتبار أنه لم يشر إلى عنصر التبعية، باعتباره أحد العناصر الجوهرية المحددة لطبيعته. وعلى خلاف ذلك فإن المشرع المغربي، وإن كان لم يعرف عقد الشغل في المدونة، فإنه، ومن خلال تحديده لمفهوم الأجير، تطرق بطريقة غير مباشرة للتبعية، وذلك حينما نص بمقتضى المادة السادسة من المدونة على أنه “يعد أجيرا كل شخص التزم ببذل نشاطه المهني تحت تبعية مشغل واحد أو عدة مشغلين” ،
مما يجعلنا نقول أن المشرع المغربي يأخذ بالتبعية كعنصر من عناصر عقد الشغل. ومما يعزز هذا الموقف نص المادة 21 من نفس القانون التي أكدت على امتثال الأجير، حيث نصت على: “أن الأجير يمتثل لأوامر المشغل في نطاق المقتضيات القانونية أو التنظيمية، أو عقد الشغل أو اتفاقية الشغل الجماعية أو النظام الداخلي، يمتثل الأجير للنصوص المنظمة لأخلاقيات المهنة”.
إن عدم تحقق هذا الامتثال يعني الامتناع عن تنفيذ أوامر المشغل مما يعد خطأ جسيما يبرر طرد العامل، وهذا ما أشارت إليه المادة 9 من مدونة الشغل التي اعتبرت أن رفض الأجير إنجاز شغل من اختصاصه عمدا وبدون مبرر يعد من الأخطاء الجسيمة التي تؤدي إلى الفصل.
مما سبق يتبين أن المشرع المغربي يأخذ التبعية القانونية كعنصر أساسي من عناصر عقد الشغل، وذلك من حيث المبدأ على اعتبار أن هناك تعطيل لهذا المعيار بالنسبة لبعض الفئات التي رغم قيامها بعملها في إطار التبعية، إلا أنها لا تخضع لمدونة الشغل، كما هو الشان بالنسبة لخدم المنازل، وأجراء الصناعة التقليدية الحرفية.
لكن اعتماد المشرع على التبعية القانونية كمناط لتطبيق قواعد مدونة الشغل، لا يعني إطلاقا استبعاد التبعية الاقتصادية، إذ يأخذ بها في بعض الأحيان بدافع حماية بعض العمال ذات الوضع الاقتصادي الضعيف، حيث لا تتحقق في العمل التي تؤديه صورة التبعية القانونية بالرغم من ارتباطها مع من تؤدي العمل لحسابه، والنتيجة المترتبة عن هذا الاتجاه هو توسيع نطاق المشمولين بالحماية القانونية للشغل وإحلال فكرة علاقة الشغل لتطبيق قواعد قانون الشغل محل عقد الشغل، وهذه المقتضيات تطبق استثناء وعلى سبيل الحصر على ما يلي:
- الأشخاص الذين يخضعون أنفسهم في مقاولة ما رهن إشارة الزبناء، لكي يقدموا لهم مختلف الخدمات سواء كان بتكليف من رئيس المقاولة أو برضاه.
- الأشخاص الذين عهدت إليهم مقاولة واحدة بمباشرة مختلف البيوعات وبتلقي مختلف الطلبات، إذا كان هؤلاء الأشخاص يمارسون مهنتهم في محل سلمته لهم المقاولة ويتقيدون بالشروط والأثمنة التي تفرضها تلك المقاولة.
- الأجراء المشتغلين ببمنازلهم.
- الصحفيين المهنيين.
بالإضافة إلى أن مقتضيات الفصل الثاني من ظ 27 يوليوز 1972 المغير بظهير 4 أكتوبر 1977، الخاص بالضمان الاجتماعي تنص على أنه يخضع لزاما لهذا الظهير المتمرنون والأشخاص الأجراء من كلا الجنسين الذين يشتغلون لفائدة مؤاجر أو عدة مؤاجرين أيا كان نوع أجرهم وشكل وطبيعة وصحة عقدهم، وبعبارة أخرى تطبق مقتضيات الظهير رغم انتفاء عنصر التبعية القانونية.