إن تطور الصناعة واعتمادها بشكل متزايد على مواد وآلات تهدد صحة وسلامة وحياة الأجراء كان سببا دفع إلى التفكير في تجنب هذه الفئة تلك المخاطر. لذلك لجأت أغلب الدول منذ أواسط القرن 19 إلى اعتماد نصوص قانونية تضمن تعويض المصابين بأضرار جراء الشغل. غير أن الاكتفاء بالتعويض في هذا المجال لم يكن كافيا، لذلك تم التفكير، انطلاقا من مبدأ الوقاية خير من العلاج، في وسائل تحد أو تقلل من تعرض الأجراء لتلك الأضرار،
وهو ما سار في اتجاهه المشرع المغربي منذ 2 يوليوز 1947 تاريخ صدور الظهير الشريف المتعلق بسن ضوابط للخدمة والعمل، وكرسه مؤخرا في مدونة الشغل من خلال تضمينها لتدابير تتعلق بحفظ الصحة والسلامة تتمثل في إحداث مصالح طبية للشغل ،ومجلس طب الشغل والوقاية من المخاطر المهنية، وتقرير قواعد السلامة.
المصالح الطبية للشغل:
نظرا لأهمية الطب في حياة الأجراء من خلال استفادتهم من العلاجات التي يقدمها والوقاية من الأمراض التي قد يتعرضون لها، نص المشرع على إحداث مصالح طبية للشغل حدد تنظيمها ، وأسند إليها اختصاصات معينة لكي يتأتى تحقيق الأهداف المنتظرة منها:
أولا: تنظيم المصالح الطبية للشغل
أوجب المشرع إحداث مصالح طبية للشغل مستقلة لدى المقاولات الصناعية والتجارية ومقاولات الصناعة التقليدية والاستغلالات الفلاحية والغابوية وتوابعها إذا كانت تشغل ما لايقل عن 50 أجيرا.
كما أخضع المشرع لذات الالتزام المشغلون وكافة تلك المقاولات دون اعتبار لعدد الأجراء التي تشغل إذا كانوا يباشرون أشغالا تعرض الأجراء لمخاطر الأمراض المهنية المحددة في التشريع المتعلق بالتعويض عن حوادث الشغل والأمراض المهنية.
واعتبارا لكون المقاولات التي تشغل أقل من 50 أجيرا قد لا تقوى على توفير مصلحة طبية مستقلة للشغل، فإن المشرع قد خيرها بين إحداث هذه المصلحة المستقلة أو إحداث مصالح طبية مشتركة فيما بينها بعد موافقة المندوب الإقليمي المكلف بالشغل على اختصاصها الترابي وموافقة الطبيب المكلف بالشغل .
وتتألف هذه المصالح من طبيب أو أكثر متخصصين في طب الشغل يسهرون على تسييرها مع استعانتهم في جميع أوقات الشغل بمساعدين اجتماعيين أو ممرضين حاصلين على إجازة الدولة ومرخص لهم بممارسة أشغال المساعدة الطبية.
ثانيا: اختصاصات المصالح الطبية للشغل
أسند المشرع لهذه المصالح جملة من الاختصاصات قصد تمكينها من إنجاز دورها المتمثل في توفير وسائل الوقاية للأجراء. هكذا يتولى طبيب الشغل إجراء الفحوص الطبية الواجبة على الأجراء خاصة الفحص الرامي إلى التأكد من ملاءمة منصب الشغل للحالة الصحية للأجير عند بداية تشغيله وإلى تجنيب الأجراء الإضرار بصحتهم بسبب الشغل من خلال مراقبة شروط النظافة في مكان الشغل، ومخاطر العدوى والحالة الصحية للأجراء.
ويجوز لطبيب الشغل بصفة استثنائية تقديم علاجات للأجراء في الأحوال المستعجلة عند وقوع حوادث أو ظهور أمراض داخل المقاولة، وإسعاف الأجير الذي تعرض لحادثة الشغل التي لا تؤدي إلى توقف الأجير عن شغله.
كما يتمتع طبيب الشغل بصلاحية اقتراح تدابير فردية كالنقل من شغل لآخر أو تحويل منصب الشغل، إذا كانت تلك التدابير تبررها اعتبارات تتعلق بسن الأجير وحالته الصحية وقدرته البدنية على التحمل.
كما يضطلع هذا الطبيب بدور استشاري يتجلى في استشارته فيما يتعلق بالمسائل المتعلقة بالتنظيم التقني للمصلحة الطبية للشغل، والتقنيات الجديدة للإنتاج والمواد والمستحضرات الجديدة ومراقبة شروط النظافة العامة في المقاولة وغيرها من التدابير المتعلقة بحفظ صحة الأجراء.
مجلس طب الشغل والوقاية من المخاطر المهنية:
إضافة إلى الدور الاستشاري الذي يضطلع به أطباء الشغل بالمصالح الطبية للشغل المحدثة بالمقاولات نص المشرع في المادة 332 من مدونة الشغل على إحداث مجلس استشاري يدعى مجلس طب الشغل والوقاية من المخاطر المهنية تسند إليه مهمة تقديم اقتراحات و اراء للنهوض بمفتشية الشغل والمصالح الطبية وكل ما له علاقة بحفظ الصحة والسلامة المهنية والوقاية من حوادث الشغل والأمراض المهنية، ويرأس هذا المجلس وزير التشغيل أو من ينوب عنه، ويتألف من ممثل واحد عن كل من وزارة الصحة، ووزارة الداخلية، ووزارة الفلاحة، ووزارة التجارة والصناعة ووزارة المالية، ووزارة الصناعة التقليدية، ووزارة الطاقة والمعادن، ووزارة التجهيز، وإدارة الدفاع الوطني، إضافة إلى 10 ممثلين عن المنظمات المهنية للمشغلين الأكثر تمثيلا، و 10 ممثلين عن المنظمات النقابية للأجراء الأكثر تمثيلا.
كما يمكن لوزير التشغيل بصفته رئيسا لهذا المجلس أن يدعو للمشاركة فيه كل شخص يتوفر على كفاءات في مجال اختصاص المجلس، أو أن يقترح بمبادرة منه أو يطلب من أحد أعضاء المجلس تعيين مجموعات عمل متخصصة لدراسة مواضيع معينة.
قواعد السلامة:
لتوفير السلامة داخل أماكن العمل لم يكتف المشرع بتقرير تدابير تسعى إلى تحقيق السلامة، بل نص فضلا عن ذلك على إحداث داخل بعض المقاولات لجان تدعى لجان السلامة وحفظ الصحة.
أولا: تدابير تحقيق السلامة
ضمن المشرع مدونة الشغل مجموعة من التدابير تروم تحقيق السلامة في أماكن العمل نذكر منها: إلزام المشغل بالسهر على نظافة أماكن الشغل وتوفير متطلبات السلامة للحفاظ على صحة الأجراء كأجهزة الوقاية من الحريق، والتدفئة والتهوية والتخفيض من الضجيج والماء الصالح للشرب، وتجهيز الآلات وأجهزة التوصيل، ووسائل التدفئة، والإنارة، والأدوات الخفيفة والثقيلة بوسائل الوقاية، ومنع شراء أو استئجار الآلات أو أجزاء الآلات التي تشكل خطرا على الأجراء التي تتوفر على وسائل للوقاية دون أن تكون هذه الآلات أو أجزاءها مجهزة بها.
ومنع المشغل من السماح لأجرائه باستعمال مستحضرات أو مواد أو أجهزة أو آلات ترى السلطة المختصة أنها قد تضر بالأجراء ؛ وإلزام المشغل إذا كانت تركيبة المنتجات المستعملة تتضمن موادا أو مستحضرات خطيرة بالتأكد من أن غلاف تعبئتها يحمل تحذيرا ينبه إلى خطورة استعمال تلك المواد أو المستحضرات، و إلزام المشغل بإطلاع أجرائه على الأحكام القانونية المتعلقة بالاحتراس من خطر الآلات.
ثانيا: لجان السلامة وحفظ الصحة
في إطار الاهتمام بضمان السلامة داخل أماكن العمل ألزم المشرع المقاولات الصناعية والتجارية ومقاولات الصناعة التقليدية والاستغلالات الفلاحية والغابوية وتوابعها التي تشغل ما لا يقل عن 50 أجيرا بإحداث لجان السلامة وحفظ الصحة داخلها، محددا تركيبها، واختصاصاتها ،وواجباتها.
1- تركيب لجان السلامة وحفظ الصحة: تتكون هذه اللجان طبقا للمادة 337 من مدونة الشغل من المشغل أو من ينوب عنه بصفته رئيسا، ورئيس مصلحة السلامة، وعند عدم وجوده، مهندس أو إطار تقني يعمل بالمقاولة يعينه المشغل، وطبيب الشغل بالمقاولة ،وممثل أو ممثلين نقابين بالمقاولة عند وجودهما، وإلى جانب هؤلاء يمكن للجنة دعوة كل شخص ينتمي للمقاولة للمشاركة في أعمالها إذا كان يتوفر على الخبرة والكفاءة في مجال الصحة والسلامة المهنية كرئيس مصلحة المستخدمين ومدير الإنتاج بالمقاولة.
2- اختصاصات لجان السلامة وحفظ الصحة : حددت المادة 338 من مدونة الشغل لهذه اللجان مجموعة من الاختصاصات نذكر منها: استقصاء المخاطر المهنية التي تتهدد أجراء المقاولة ،والعمل على تطبيق النصوص التشريعية والتنظيمية في مجال السلامة وحفظ الصحة، والسهر على حسن صيانة استعمال الأجهزة المعدة لوقاية الأجراء من المخاطر المهنية، والسهر على الحفاظ على البيئة داخل المقاولة ومحيطها.
3- واجبات لجان السلامة وحفظ الصحة: تتجلى هذه الواجبات في الآتي: الاجتماع على إثر كل حادثة ترتبت أو كان من الممكن أن تترتب عنها عواقب، وإجراء تحقيق عند وقوع حادثة شغل لأحد الأجراء أو إصابته بمرض مهني أو بمرض خطيرة ذي طابع مهني، و وضع تقرير سنوي في نهاية كل سنة شمسية حول تطور المخاطر المهنية بالمقاولة.