إن إشكالية المديونية وما ينتج عنها من صعوبات اقتصادية ومالية واجتماعية تعترض حياة المقاولة بمفهومها العام والتي قد تؤدي إلى إنهاء حياتها، بإشهار إعسارها أو إفلاسها أو تصفيتها، وهي ظاهرة قديمة قدم الإنسان، فلم يسلم مجتمع عبر العصور من هذه المظاهر، وإن تعددت الأسباب واختلفت الآثار ووسائل التعاطي وإيجاد الحلول الناجعة للوقاية والمعالجة.
فالقانون الروماني عالج مشاكل المديونية أو التوقف عن الدفع أو امتناع المدين عن أداء ما بذمته عند تاريخ الاستحقاق بقسوة بالغة تهدر كرامة الإنسان وحقوقه، فالمدين الذي لا يستطيع الأداء تصبح مشيئته بيد دائنيه، حيث كان من حق الدائن أن يلاحق مدينه، وأن يحبسه، وأن يشهر به وأن يسترقه وأن يقتله، كما كان يحق للدائن أن يبيع المدين العاجز عن سداد الدين عند حلول تاريخ الاستحقاق ثلاث مرات في الأسواق، فإن لم يقع البيع في المرة الثالثة، يجوز للدائن أن يقتله وأن يقطع جسده أشلاء بمقدار الدين وأن يوزع جسده بين الدائنين إن تعددوا، وتعتبر هذه أقسى العقوبات التي عرفتها البشرية بشأن عدم قدرة الشخص على أداء الدين، إلا أن هذه العقوبات الوحشية بدأت تقل نتيجة تطور نظرة المجتمعات للدين وعلاقته بالمدين، ففي القانون الفرنسي القديم اقتصرت العقوبة على أموال المدين وحريته وإن ظلت معالجة عدم القدرة على الأداء معالجة عقابية صرفة، أي أن المفلس كان يعامل على أنه مجرم ، ورغم تقدم الفكر القانوني الإنساني ظل نظام الإفلاس في مجال المعاملات التجارية ؛ ونظام الإعسار في المعاملات المدنية.
فتوقف التاجر عن سداد ديونه المستحقة يبيح للمحكمة أن تشهر إفلاسه، حيث إن إشهار الإفلاس من أعنف الوسائل التي يمكن أن يباشرها الدائن للتنفيذ على أموال المدين.
ولما كان الائتمان عصب التجارة، وما له من أهمية بالغة في حياة المعاملات التجارية، فالتاجرغالبا ما يكون دائنا ومدينا في نفس الوقت، لهذا فالتشريعات تقوم على حماية الدائنين والديون التجارية حفاظا على العلاقات المتشعبة بين التجار دائنين ومدينين في نفس الوقت؛ وما لذلك من تأثير على النظام العام الاقتصادي؛ فنظام الإفلاس كان يرتكز على ثلاثة أسس لتحقيق الأهداف السالفة الذكر.
أولا: بأن لا ينفرد أحد الدائنين دون الباقي بالاستئثار بمال المدين إلا إذا توفر الدائن على حق خاص كالرهن أو الحبس أو الامتياز وبالتالي تكون أموال المدين ضمانة لالتزاماته بدون تمييز بين الدائنين ما لم يتوفر الدائن على حق خاص.
ثانيا: غل يد المدين لكي لا يتصرف في أمواله، فالتاجر لا يملك حق التصرف في أمواله مند إشهار إفلاسه من قبل المحكمة، بل حتى التصرفات التي أبرمها قبل صدور الحكم بالإفلاس وخلال ما يسمى بفترة الربية (Periode suspecte ) تكون تلك التصرفات إما باطلة أو قابلا للإبطال، ويظل الأمر كذلك إلى أن تنتهي بالتصفية أو الصلح .
ثالثا: أن تصفى أموال المدين تصفية جماعية، حيث كانت تعتبر التصفية الجماعية هي جوهر الإفلاس التجاري فكانت تبدأ بغل يد المدين عن التصرف في أمواله (Dessaisissement) لتنتقل حيازة الأموال وحراستها إلى السنديك (Syndic) الذي يمثل كل من الدائنين والمدين وهي ما يمنع في المقابل الدائنين من مباشرة التفليسة أي إجراء فردي (Poursuit individuelle) ضد المدين بهدف التنفيذ على أمواله، فجل الإجراءات سواء بالتصفية أو التنفيذ تكون جماعية ( Poursuite collective) يتخذها السنديك باسم جميع الدائنين، فتصفى أموال المدين وتباع لحساب جميع الدائنين ليوزع الثمن المحصل على الدائنين قسمة الغرماء كل حسب نصيبه بقدر ما أثبته من دين في ذمة المدين، ما لم تنتهي التفليسة بالصلح.
غير أن الآثار القاسية التي كان يخلفها الإفلاس سواء على المدين أو الأجراء أو المنظومة الاقتصادية والاجتماعية ككل، كان عاملا محركا للبحث عن حلول ناجعة لتجاوز صعوبات المقاولة باعتماد آليات قانونية ذاتية وخارجية عن المقاولة ثم آليات قضائية، من خلال التدرج عبر الوقاية الداخلية إلى الخارجية والمصالحة ثم مسطرة الإنقاذ إلى فتح مساطر معالجة صعوبات المقاولة التسوية والتصفية القضائية والتركيز على استمرارية المقاولة بدل التركيز على سداد الدين كواقعة مادية منفردة وإعلان إفلاس التاجر أو المقاولة دون اكتراث أو الأخذ بعين الاعتبار جل الظروف المشكلة لمحيط المقاولة والآثار الاقتصادية والمالية والاجتماعية التي انتجت الصعوبات، هذا بالإضافة إلى التغيرات التي طرأت على مستوى الفكر القانوني الذي أصبح أكثر تشبعا بالنظريات والأهداف الاقتصادية؛ (خاصة مجال قانون الأعمال) منه للمبادئ القانونية والتي تكرست لعقود من الزمن، فبزغت فكرة معالجة صعوبات المقاولة في الفكر القانوني الإنساني، وذلك من خلال المنظمات العالمية الساعية إلى توحيد القانون التجاري ليتم احتضان ذلك من قبل العديد من النظم القانونية كان أبرزها وصاحب السبق الولايات المتحدة الأمريكية، ثم القانون الفرنسي رقم 84-148 الصادر بفاتح مارس لسنة 1984 المتعلق بالوقاية والتسوية الودية لصعوبات المقاولة، وقانون رقم 85-98 الصادر ب 25 يناير 1985 المتعلق بالتسوية والتصفية القضائية وهي النصوص التي تم إدماجها فيما بعد بمدونة التجارة الفرنسية.
أما المشرع المغربي فقد عرف نظام الإفلاس من خلال القانون التجاري المنسوخ لسنة 1913 ( الكتاب الثاني الفصول من 197 إلى 389 وتهم كل من الإفلاس – القسم الأول والتصفية القضائية القسم الثاني، والتفالس القسم الثالث، ورد الاعتبار – القسم الرابع) والذي اقتبست جل مقتضياته من القانون الفرنسي لسنة 1889 ، لينتهي المشرع المغربي مع نظام الإفلاس؛ ويلتحق بركب الدول الساعية إلى انقاذ المقاولات والحلول دون سقوطها في التصفية؛ فتبنى المشرع نظام صعوبات المقاولة من خلال القانون رقم 95-15 الصادر بالجريدة الرسمية عدد 4418 الصادرة بتاريخ 19 جمادى الأولى 1417 (3) أكتوبر (1996) ص 2187 ، ثم القانون 53-95 المتعلق بالمحاكم التجارية الصادر سنة 1997، ثم التعديلات التي طرأت على الكتاب الخامس سنة 2014، ثم صدور القانون 17-73 القاضي بنسخ وتعويض الكتاب الخامس من مدونة التجارة المغربية.
فتبني المشرع المغربي لنظام معالجة صعوبات المقاولة منذ سنة 1996 من خلال الكتاب الخامس من مدونة التجارة (المواد من 545 إلى (732) كان بهدف تحقيق التوازن بين مختلف المصالح التي تدور في فلك المقاولة والتي يمكن أن تتأثر بإعلان تصفية المقاولة، وجعل من واقعة التوقف عن الدفع ليست سببا مباشرا لتفعيل مسطرة التصفية القضائية كما كان عليه الحال في نظام الإفلاس بل تسبقها مساطر الوقاية؛ ثم مسطرة الإنقاذ كمسطرة تجمع بين خصائص المعالجة والوقاية فهي تتوقف على صدور حكم قضائي لفتح مسطرة الإنقاذ وفق منطوق المادة 563 من م ت ؛ بينما لا يجب أن يكون المدين في حالة توقف عن الدفع وفق منطوق المادة 561 من م ت تم مسطرة التسوية القضائية والتي تتوج إما بمخطط الاستمرارية أو التفويت وفق منطوق المادة 575 من م ت ولا يتم اللجوء إلى التصفية إلا في حالة استنفاذ كل الإجراءات وتكون وضعية المقاولة مختلة بشكل لا يمكن إصلاحها وفق منطوق المادة 651 من م ت ، كما تبنى المشرع المغربي مساطر دولية من خلال القسم التاسع وهي مساطر عابرة للحدود لمعالجة صعوبات المقاولة ذات الطابع الدولي وخاصة عندما تطلب دولة أجنبية أو ممثل أجنبي المساعدة داخل المغرب، تهم مسطرة تنظر فيها محكمة أجنبية أو محكمةمغربية وأخرى أجنبية (انظر المواد 769 و 770 من م.ت.