استهل المشرع المغربي، قانون المسطرة الجنائية بإقرار مبدأين هامين هما قرينة البراءة، وتفسير الشك لفائدة المتهم. وقد جاءت عبارات المشرع قوية وصارمة، في إرادة منه للتعبير على أن إقراره للمبدأين ليس لمجرد تزيين واجهة قانون المسطرة الجنائية، وإنما لوضع الإطار العام لتطبيق القواعد الإجرائية للمحاكمة الجنائية.
البراءة هي الأصل
عرفت قرينة البراءة كمبدأ باهت في الممارسة القضائية بالمغرب بسبب عدم اعتمادها من قبل المشرع في نص صريح ولذلك فإن قليلا من المحاكم كانت تؤسس أحكامها على تطبيق هذا المبدا. والواقع أن كثيرا من التشريعات لا تنص على هذا المبدأ صراحة في قوانينها الزجرية، وإنما تحاول أن تعطيه أثراً في تطبيق الإجراءات المسطرية، باعتباره مبدأ أساسيا في المحاكمة الجنائية، وقيمة من القيم الثابتة في كل القوانين المتحضرة.
ولعل المشرع المغربي قد أحسن صنعا بإقراره لهذا المبدأ في نص صريح. وهو بذلك يفي بالتزامات بلدنا الدولية من جهة، ويرسخ ثقافة حقوق الإنسان في العمل القضائي من جهة أخرى. وقرينة البراءة مبدأ عرفته الإنسانية منذ عهود النور. وفي وقت سابق نص إعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي نادت به الثورة الفرنسية سنة 1789 في المادة التاسعة أن كل إنسان تفترض براءته إلى أن يحكم بإدانته……
وفي االعهد الحالي تراكمت الدعوات العالمية لإقرار هذا المبدأ ،وهكذا نصت المادة 11 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ( 10 دجنبر 1948) أن كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئا إلى أن تثبت إدانته قانونا بمحاكمة علنية تؤمن له فيها الضمانات الضرورية للدفاع عنه. ثم جاءت الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان ( سنة 1958 ) لتؤكد هذا المبدأ في المادة 6 معتبرة أن كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئا إلى أن تثبت إدانته قانونا “. ثم أجمع المجتمع الدولي على تبني مبدأ قرينة البراءة في المادة 14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية ( 16 دجنبر 1966 ) التي نصت أن ” لكل فرد متهم بتهم جنائية الحق في أن يعتبر بريئا ما لم تثبت إدانته طبقا للقانون.
وإذا كان الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن قد استعمل تعبير : كل إنسان، فإن الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية قد استعملت تعبير “المتهم”. ولعل الوضعية التاريخية لحقوق الإنسان كانت وراء اختيار واضعي هذه النصوص للمصطلحين المذكورين.
فقد كان هم واضعي إعلان حقوق الإنسان والمواطن هو ترسيخ ثقافة براءة الإنسان في وقت لم تكن فيه حقوق الكائن البشري تساوي شيئا، وكانت حياة الإنسان تسلب وحريته تضيع دون مبرر ولا سبب، ولا شك أن الوضع قد تحسن بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث صارت التعسفات تمارس على المتهمين، أو لنقل أنه أصبح من الضروري إلباس تهمة للشخص من أجل هدر حقوقه، وفي أحسن الأحوال فقد أصبح الشخص المشتبه بارتكاب جريمة مؤهلا لكل أصناف سوء المعاملة لاعتباره لا يستحق معاملة إنسانية.
ولذلك فإن هذه الطائفة من البشر هي التي أصبحت في حاجة إلى حماية حقوقها المتأصلة من جذور الإنسان، وعلى الأقل إلى أن تنتهي مرحلة الاتهام بإقرار التهمة وإدانة الشخص المتهم. ولذلك وجدنا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948، والاتفاقية الأوربية لحقوق الانسان سنة 1958 ثم العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية سنة 1966 تنص على افتراض البراءة بالنسبة للمتهم، وأما باقي الأشخاص غير المتهمين فإنهم حتما أبرياء بالفطرة، وأن براءتهم لا حاجة لإثباتها في نص.
وأما قانون المسطرة الجنائية المغربي، فقد اعتمد في المادة الأولى افتراض البراءة بالنسبة لكل منهم أو مشتبه فيه، وإذا كان المتهم هو الشخص الذي وجه إليه اتهام رسمي بارتكاب فعل يحرمه القانون، فإن المشتبه فيه هو الشخص الذي يكون محل شبهة بارتكاب جريمة، ويكون من جراء ذلك خاضعا لبحث تجريه السلطات المختصة من المرحلة السابقة عن توجيه الاتهام(مرحلة البحث التمهيدي).
وإذا كان منطلق افتراض البراءة هو بداية الاشتباه أو توجيه التهمة، فإن هذه القرينة تظل ملازمة للشخص خلال مراحل محاكمته، ومنذ اللحظة الأولى للبحث التمهيدي، مرورا بمرحلة النيابة العامة، فالتحقيق الإعدادي، والمحاكمة بدرجاتها إلى أن يصبح الحكم بالإدانة حائزا لقوة الشيء المقضي به. ولم يكتف المشرع المغربي بافتراض براءة المشتبه فيه أو المتهم لحين حيازة الحكم القاضي بإدانته على قوة الشيء المقضي به، وإنما اشترط أن تتم الإدانة بناء على محاكمة عادلة تتوفر فيها الضمانات القانونية.
وإذا كان البعض يعتبر المحاكمة شاملة لإجراءات البحث التمهيدي الذي تنجزه الشرطة القضائية، ومرحلة التحقيق الإعدادي الذي يقوم به قاضي التحقيق، فإن المحاكمة هي ما يهم نظر المحكمة في القضية، أو ما عبر عنه مشرع المسطرة الجنائية في الكتاب الثاني بالحكم في الجرائم، تمييزاً لهذه المرحلة عن المرحلة التي تسبقها وسماها قانون المسطرة الجنائية في الكتاب الأول التحري عن الجرائم ومعاينتها، وضمنها الحديث عن السلطات المكلفة بالتحري عن الجرائم، وهي الشرطة القضائية والنيابة العامة وقاضي التحقيق.
ولعل هذا المعنى هو الذي يستمد من المادة 14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، التي تعتبر الدستور العالمي لقواعد المحاكمة العادلة. ومما جاء فيها أن لكل شخص عند النظر في أي تهمة ضده… الحق في محاكمة عادلة وعلنية بواسطة محكمة مختصة ومستقلة وحيادية قائمة استناداً للقانون”. وهذا أمر منسجم مع المنطق لأنه إذا كانت مرحلة المحاكمة عادلة ومنصفة وأتاحت لأطرافها كافة الضمانات القانونية، فإنها ولا شك ستفسح المجال لمناقشة كل الأدلة المحصل عليها في مرحلة البحث التمهيدي أو التحقيق الإعدادي، بما يحقق كلظروف العدل للمحاكمة.
والضمانات القانونية للمحاكمة هي جزء من قرينة البراءة. ولذلك فإن قرينة البراءة ليست صورة تزين قانون المسطرة الجنائية، ولكنها الإطار الذي يضم الإجراءات المسطرية المرتبطة بهذه القرينة، لأن اعتبار الشخص بريئا يعني أنه يجب أن تتم معاملته خلال سائر مراحل البحث والتحقيق والمحاكمة على هذا الأساس، وتمتيعه بكافة الضمانات المنبثقة من مفهوم هذا المبدأ.
ولكن لا يجب أن يغيب عن الذهن أن هذا الشخص مشتبه فيه أو متهم بارتكاب جريمة، أي باقتراف عمل كدر صفو المجتمع وشكل تعديا على النظام العام، ولذلك فإنه يجب أن يخضع للمساءلة عما ارتكبه. وقبل مرحلة المساءلة التي تبدأ عادة مع مرحلة الاتهام، فإن المجتمع لا بد أن يتوفر على قدر من المساحة اللازمة لتحرك أجهزته الجنائية للبحث والتحري بشأن الجريمة وجمع الأدلة عنها والتحقق من وقوعها، والتعرف على مرتكبها.
ولذلك فإن تحرك الأجهزة الجنائية لا يمكن أن يتم دون مساس ببعض حقوق الشخص المشتبه فيه أو المتهم، أي حقوق شخص بريء. وهذه معادلة صعبة التقويم. ولذلك فإن قرينة البراءة تسمح للمجتمع بتجاوز الخطوط المرسومة للفرد في التمتع بكامل حقوقه وحرياته، لفائدة الجماعة التي تضررت من الجريمة. وقد يمس الإجراء المتخذ خلال البحث الجنائي حريات وحقوق أساسية للفرد المفترضة براءته، ومع ذلك، فإن الأمر يظل مسموحا به في دولة الحق والقانون، لأنه يتم في إطار القانون وتحت مراقبة السلطة القضائية.
ومن الحريات والحقوق الأساسية التي يمكن المساس بها دون أن يعتبر ذلك نيلا من قرينة البراءة، الحرية الشخصية التي يتم تقييدها والحد منها عن طريق التوقيف أو الاعتقال أو الحراسة النظرية، أو التفتيش الجسماني، وحرمة المنزل الذي يمكن دخوله بحثا عن أدوات إثبات جريمة وحرمة المراسلات التي يمكن انتهاكها لفائدة البحث الجنائي الجاري بشأن جرائم خطيرة وحرية التنقل والتجول التي تفيد نتيجة لإغلاق الحدود وسحب جواز السفر أو تحديد مكان للإقامة. كما يطال المنع حقوقا، كحق الاتصال بالغير خلال فترة الاعتقال أو الحراسة النظرية وحق سحب شيكات أو حق قيادة سيارة ….
ولكن مفهوم قرينة البراءة ينبغي أن يتجلى في عدم تقرير هذه الإجراءات التي تحد من الحقوق أو تقلص من الحريات إلا لضرورة البحث أو التحقيق أو المتابعة. ولذلك فإن المشرع نص صراحة على أن الاعتقال الاحتياطي والمراقبة القضائية تدبيران استثنائيان، ويتعين على القضاء مراعاة حالة الاستثناء في تقريرهما. كما أن المشرع أحاط الحراسة النظرية وتفتيش المنازل والتقاط المكالمات بتدابير صارمة وحدد لها شكليات وحدود واضحة، وجعلها تحت المراقبة المباشرة للسلطات القضائيةالمختلفة.
ولذلك يمكن القول أن كل تدبير ينص عليه قانون المسطرة الجنائية تلازمه إجراءات يقررها القانون للحد منه أو تقنينه إعمالا لقرينة البراءة، وفى هذا الأمر تختلف التشريعات تبعا لظروف البلدان السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية. وتتاح الحقوق بالمقدار الذي تسمح به السياسة الجنائية لكل بلد.
وعلى سبيل المثال فإن كثيرا من الدول راجعت تشريعاتها تحت وطأة موجة الأعمال الإرهابية التي عرفها العالم خلال السنين القريبة الأخيرة لإعطاء مزيد من الصلاحيات لسلطات البحث الجنائي، والتقليص من الحريات الشخصية والضمانات الممنوحة للمشتبه فيهم أو المتهمين. ونعتقد أن قرينة البراءة ستبقى دائما في شد وجدب مع ظروف الجريمة، وكلما طغت الجريمة وتجاوز تهديدها الحدود المألوفة في المجتمعات كلما هب المشرع، وقبله العمل القضائي إلى تضييق إطار قرينة البراءة عن طريق الاجتهاد أو القانون.
ولكن أكبر بعد لقرينة البراءة هو بعدها المتعلق بإثبات الجريمة، حيث يعتبر كل متهم بريئا إلى أن تتم إدانته، ولا تأتي الإدانة إلا عن طريق تقديم وسائل إثبات مقنعة تتم مناقشتها علنيا وشفهيا من طرف المحكمة. وقد وسع قانون المسطرة الجنائية المغربي من هذا البعد واعتمد المقاييس التالية:
- جعل عبء الإثبات على الطرف الذي يقيم الدعوى العمومية، مما يجعل المتهم لا يتحمل عبء إثبات براءته
- إعطاء صلاحية تقييم وسائل الإثبات للقاضي وفقا لاقتناعه الوجداني الصميم. وإلزامه بتبرير قناعته.
- عرض ومناقشة وسائل الإثبات شفهيا وحضوريا بالجلسة.
- عدم إعطاء محاضر الشرطة القضائية أية حجية في الجنايات.
- إعطاء هذه المحاضر حجية نسبية فقط بالنسبة للجنح والمخالفات، قابلة لإثبات العكس بأي وسيلة من وسائل الإثبات باستثناء البعض منها التي ينبغي الطعن فيها بالزور.
- عدم الاعتداد بالاعتراف المنتزع بالعنف أو الإكراه ومعاقبة مرتكب العنف أو الإكراهة.
- إخضاع الاعتراف نفسه للسلطة التقديرية للقاضي، ولذلك فإن تلك اللازمة التي كانت تتصدر الأحكام بالإدانة من أن ” الاعتراف سيد الأدلة”، أصبحت في نظر القانون عارية من الصحة ما لم يقتنع القاضي بالاعتراف ويعلل اقتناعه به؛
- عدم استنتاج الدليل من الرسائل المتبادلة بين المتهم ومحاميه.
- بالإضافة إلى تنظيم الخبرة وشهادة الشهود كوسائل إثبات.
ولذلك فإن هذا البعد من قرينة البراءة ما يزال هو المميز لها، لأن العبرة بالخواتم، وأحسن الأحوال هي التي يتم فيها الاعتراف للمتهم ببراءته في نهاية المحاكمة. غير أن الأبعاد الأخرى لقرينة البراءة في مصاحبتها للإجراءات المختلفة، لا ينبغي أن تغيب عن الممارسين، فلا يتناسوا أن الشخص الخاضع للبحث أو التحقيق أو المحاكمة هو شخص برئ ينبغي تمتيعه بكل حقوقه ولا يسلب منها إلا القدر الضروري اللازم لإنجاز البحث أو التحقيق أو المحاكمة.
تفسير الشك لفائدة المتهم
لم تكتف المادة الأولى من قانون المسطرة الجنائية بإقرار قرينة البراءة، ولكنها أكدت على مبدأ راسخ في القانون الجنائي مفاده أن الشك يفسر لفائدة المتهم. وقاعدة تفسير الشك لفائدة المتهم من القواعد الحقوقية الراسخة في الفقه القانوني، يراد بها أنه كلما وجد شك إلا تعين اعتباره في صالح المتهم. ومؤدى ذلك أنه لا يمكن إدانة متهم إلا بناء على أدلة ثابتة وحجج دامغة، وأنه كلما خامر القضاة شك، إلا كانوا مدعووين للتصريح ببراءة المتهم.
وإذا كانت المحكمة يمكنها أن تعلل حكمها بالبراءة على أساس وجود شك يخامر قناعة قضائها، فإنه ليس من المناسب بتاتا أن يشار في منطوق الحكم إلى تعبير ” البراءة لفائدة الشك “. لأن البراءة هي الأصل، والمتهم برئ لحين إدانته بناء على محاكمة عادلة تتوفر فيها كل الضمانات القانونية، ومن بينها تأسيس الحكم بالإدانة على وسائل إثبات لا لبس فيها. ولذلك فإن البراءة واحدة، وليس هناك براءة لفائدة الشك وبراءة لفائدة اليقين. وكيفما كان التعليل الذي تعلل به المحكمة حكمها، فإن منطوقها يجب أن يكون خاليا من كل شيء يضر بقرينة البراءة،
ومن ذلك وصف الحكم في منطوقه بالبراءة لفائدة الشك ” مما يجعل المعنى بالأمر في نظر الرأي العام مشتبها فيه رغم أن القضاء لم يدنه. بينما هو برئ في الأصل، وأن براءته ينبغي أن تستمر لأن الجهة المكلفة بإثبات ارتكابه للجريمة لم تستطع الإدلاء بوسائل إثبات كافية لإقناع القضاء بإدانته، وأن قناعة المحكمة لم تكن صافية، وهي لا يمكنها إدانته بناء على الشك. ولذلك فإنها ابقت على أصل الأشياء وهو البراءة.