التنظيم القضائيمبادئ التنظيم القضائي

مبادئ التنظيم القضائي المغربي

يقوم التنظيم القضائي والقانون القضائي الخاص بشكل عام على جملة من المبادئ الأساسية التي تنبني عليها الفلسفة العامة لاقتضاء الحقوق وحمايتها. وأغلبها مبادئ وقواعد طبيعية و فوق دستورية يقتضيها العدل و الإنصاف، من شأنها أن تمنح ضمانات عامة للأفراد، بشكل يكفل الحق في الولوج إلى ساحة الخصومة القضائية، ويؤمن محاكمة عادلة، ويعزز الحماية من تعسف الدولة و كذا القضاء و أن تخلق من جهة أخرى، الظروف اللازمة لتمكين السلطة القضائية، من القيام بوظيفتها بكل حرية واستقلال ونزاهة وتجرد.
كما أنها تشكل أساسا يعتمده المشرع وينطلق منه، لاستمداد فلسفة و سياسة التشريع، وتقنين النصوص المؤطرة لهذا المجال. و أغلبها صار مقعدا دستوريا وتشريعيا كقواعد عامة تخضع لها النصوص الجزئية في مجالها.
ويمكن تقسيم هذه المبادئ بالرغم من تداخل مضامينها، تقسيما شكليا، إلى صنفين : فنتحدث عن مبادئ مقررة لضمان حسن سير العدالة، وعن مبادئ مقررة لضمان حسن اقتضاء الحقوق. كما يمكن إرجاعها، تجاوزا، إلى مبادئ ذات صبغة نظرية موضوعية وأخرى ذات صبغة شكلية إجرائية. وسنتولى دراستها بشكل وجيز من خلال التقسيم الثنائي الأخير، الذي يرجعها إلى مبادئ نظرية موضوعية، وأخرى شكلية إجرائية.

الفقرة الأولى: المبادئ النظرية الموضوعية.

تندرج تحت هذا المسمى عدة مبادئ ، من المبادئ والقواعد التي يقوم عليها التنظيم القضائي، ويمكن إرجاعها إلى المبادئ التالية:

-1- مبدأ الحق في التقاضي.

-2- مبدأ استقلال القضاء.

-3- مبدأ حياد القاضي.

-4- مبدأ المساواة أمام القضاء.

-5- مبدأ وحدة وازدواجية القضاء.

-6- مبدأ التقاضي بحسن نية.

  • أولا: مبدأ الحق في التقاضي.

يعد هذا المبدأ من الحقوق الضرورية والطبيعية للفرد في مواجهة الدولة ، ويجد سنده في الواجب الذي ترتب على الدولة تجاه الأفراد، بعد استئثارها بمرفق القضاء ووضع يدها عليه بشكل حصري، وطبعه بالطابع السيادي بشكل يمنع على الأفراد اقتضاء حقوقهم بأنفسهم، أو قيام جهة ماداخل الدولة بتولي تلك المهمة قضائيا.

فبعد أن ولى عهد العدالة الخاصة، حيث كان الفرد يقتضي في ظله حقه بوسائله الخاصة، صار لزاما على الدولة أن تنظم هذا المرفق، وأن تيسر للأفراد سبل ولوجه، وتمكنهم من اقتضاء حقوقهم وحمايتها.و قد نص على هذا المبدأ الفصل الثامن من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بالقول: ” لكل شخص الحق في أن يلجأ إلى المحاكم الوطنية …

فبمقتضى هذا المبدأ يتعين على المحكمة، أن تنشئ المحاكم وتعمل على تقريبها من الأفراد، وأن تيسر ولوجها، وتمنع التعقيدات التي تعرقل هذا الولوج أوتحول دونه.

كما يتعين عليها أن تسهل المساطر والإجراءات الكفيلة باقتضاء الحقوق، والابتعاد ما أمكن عن التعقيدات والشكليات التي تتنافى مع مبادئ العدالة والحق في اقتضاء الحقوق.كما يتوجب على القضاء بمقتضى هذا المبدأ، أن يبت في أي نازلة عرضت عليه، وأن يصدر حكمه في أي دعوى رائجة أمامه.

وفي هذا الصدد تنص الفقرة الأولى من المادة الثانية، من قانون المسطرة المدنية على أنه لا يحق للمحكمة الامتناع عن الحكم أو إصدار قرار، ويجب البت بحكم في كل قضية رفعت إلى المحكمة”.

بل إن المشرع اعتبر القاضي بمقتضى الفصل 61 من ذات القانون مرتكبا لجريمة إنكار العدالة التي يعاقب عليها الفصل 240 من القانون الجنائي متى رفض البت في المقالات أو أهمل إصدار الأحكام في القضايا الجاهزة بعد حلول دور تعيينها في الجلسة.

  • ثانيا: مبدأ استقلال القضاء.

يعد مبدأ استقلال القضاء مبدأ طبيعيا ولازما لحسن سير العدالة واقتضاء الحقوق.وقد نصت عليه المادة العاشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بالقول:” لكل إنسان على قدم المساواة التامة مع الآخرين الحق في أن تنظرقضيته أمام محكمة مستقلة نزيهة”.

وتم تقعيد هذا المبدأ في الدستور المغربي ، إعمالا لمبدأ فصل السلط من خلال الفصل 107 بالقول : ” السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية . الملك هو الضامن لاستقلال السلطةالقضائية”.

و يقتضى هذا المبدأ من جهة أن تتمتع السلطة القضائية بالاستقلال التام عن السلطتين التشريعية والتنفيذية بما يضمن عدم تدخل أي من السلطتين في وظيفة القضاء بأي شكل من الأشكال.فلا يخضع القاضي لأوامرها أو تعليماتها، أو توجيهاتها، ضمانا لحياده واستقلاله وتجرده في قضائه.

و في المقابل لا يحق للسلطة القضائية أن تتجاوز صلاحياتها واختصاصاتها، ولا أن تتدخل في اختصاصات السلطة التشريعية، كأن تعدل نصوصا تشريعية أو أن تعطل العمل بها.ولا أن تتدخل في صلاحيات واختصاصات السلطة التنفيذية، أو أن تعمل على عرقلة نشاطاتها دون وجه قانوني.

ومن جهة أخرى يقتضي هذا المبدأ تحصين القاضي من الضغوطات المادية والمعنوية، وعدم السماح بالتأثير عليه بأي شكل من الأشكال، كما تنص على ذلك المادة 105 من الدستور بالقول: ” يمنع كل تدخل في القضايا المعروضة على القضاء، ولا يتلقى القاضي بشأن مهمته القضائية، أي أوامر أوتعليمات ولا يخضع لأي ضغط “.و تحقيقا لهذه الحصانة القضائية فلا يجوز نقل القضاة ولا عزلهم إلا بمقتضى القانون …

و تحقيقا لهذا الاستقلال لا يجوز أيضا، عرقلة أو تعطيل تنفيذ الأحكام التي يصدرها القضاء من حيث المبدأ ، إلا إذا كان الحكم سينتج عنه إضرار بالأمن أو النظام العام.

كما يرتب هذا المبدأ على القاضي واجب التحصين الذاتي والحفاظ على هذا الاستقلال من خلال وجوب بعد القاضي عن مواطن الشبهة و الفساد والخضوع للتأثيرات والإغراءات المادية والمعنوية المنافية لاستقلال القضاء وتجرده تحت طائلة العزل كعقوبة تأديبية فضلا عن العقوبات الزجرية.

  • ثالثا: مبدأ حياد القاضي.

يقتضي هذا المبدأ أن يقف القاضي على مسافة واحدة بين أطراف الدعوى دون تحيز لطرف أو محاباته أو إرشاده أو توجيهه .و يستلزم هذا المبدأ أيضا أن يبت القاضي في النزاع في حدود وثائق الملف ومستندات القضية وما راج أمامه من مناقشات دون الاستناد إلى أدلة خارجية بما في ذلك علمه الشخصي. إذ القاعدة أن القاضي لا يحكم بعلمه، مالم يتعلق الأمر بالعلم العام.

كما يقتضي الحياد ألا تحكم المحكمة إلا في حدود طلبات الأطراف ، وألا تتجاوزها، ولو كانوا مستحقين لأكثر مما طلب ما لم يتعلق الأمر بالمسائل المتعلقة بالنظام العام. و في هذا الصدد تنص المادة 3 من قانون المسطرة المدنية على أنه” يتعين على القاضي أن يبت في حدود طلبات الأطراف ، ولا يسوغ له أن يغير تلقائيا موضوع أو سبب هذه الطلبات، ويبت دائما طبقا للقوانين المطبقة على النازلة ولو لم يطلب الأطراف ذلك بصفة صريحة..

على أن هذا المبدأ ترد عليه بعض الاستثناءات في إطار ما يعرف بالحياد الايجابي للمحكمة من قبيل إنذار الأطراف بإصلاح المسطرة أو استكمال بعض البيانات أو النسخ المتعلقة بالدعوى، كما تنص على ذلك الفقرة الثانية من المادة الأولى، والتي تنص على أنه : ” لا يصح التقاضي إلا ممن له الصفة، والأهلية.والمصلحة، لإثبات حقوقه. يثير القاضي تلقائيا انعدام الصفة أو الأهلية أو المصلحة أو الإذن بالتقاضي إن كان ضروريا ، وينذر الطرف بتصحيح المسطرة داخل أجل يحدده إذا تم تصحيح المسطرة اعتبرت الدعوى كأنها أقيمت بصفة صحيحة وإلا صرح القاضي بعدم قبول الدعوى…

و كذا ما تنص عليه الفقرة الأخيرة من المادة 33 من قانون المسطرة المدنية بالقول :” يطلب القاضي المقرر أو القاضي المكلف بالقضية عند الاقتضاء تحديد البيانات غير التامة أو التي تم إغفاله ، كما يطلب الإدلاء بنسخ المقال الكافية وذلك داخل أجل يحدده ، تحت طائلة الحكم بعدم قبول الطلب ….

و من جهة أخرى يقتضي مبدأ الحياد أن يتنحى القاضي من تلقاء نفسه وألا يتولى البت في النزاع، كلما وجدت حالات التنافي، وأسباب وظروف تؤثر في حياده كقيام علاقة قرابة أو مصاهرة أو صداقة أو عداوة مع أحد الأطراف. تحت طائلة التجريح والمخاصمة وفقا لمقتضيات قانون المسطرة المدنية والمسطرةالجنائية والنصوص ذات الصلة.

  • رابعا: مبدأ المساواة أمام القضاء.

ينصرف هذا المبدأ إلى تأكيد المساواة أمام القضاء بين جميع شرائح المجتمع، دون تمييز على أي أساس كان.و إلى ذلك يشير المصطفى بقوله “إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها…”

ونبه إليه عمر بن الخطاب في رسالته المشهورة في القضاء بقوله ” …. وأس بين الناس في وجهك ومجلسك وقضائك حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولاييئس ضعيف من عدلك… ” وقد نصت عليه المادة العاشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بالقول: ” لكل إنسان على قدم المساواة التامة مع الآخرين الحق في أن تنظر قضيته أمام محكمة مستقلة نزيهة.

“فعلاوة على ضرورة وحدة المحاكم التي يمثل أمامها المتقاضون، يقتضي مبدأ المساواة توحيد القواعد الموضوعية والإجرائية المطبقة عليهم بغض النظرعن طبقاتهم الاجتماعية ودون تمييز لا على أساس اللغة ولا على أساس الجنس أو الجنسية .

غير أن هذا المبدأ ترد عليه بعض الاستثناءات بخصوص بعض القواعد الموضوعية وكذا الإجرائية التي تقتضيها طبيعة القضايا المعروضة على المحاكم كما هو الشأن بالنسبة لمجال الأسرة التي تميز بين المسلم وغيره، والميدان التجاري التي تميز بين التاجر وغيره دون أن يعد هذا ميزا أو تمييزا، أو خرقا سافرا لهذا المبدأ.

كما أن بعض الأشخاص يخصهم القانون في بعض الأحيان بمساطر وإجراءات خاصة بالنظر إلى صفتهم الوظيفية، كرجال القضاء ورجال السلطة وبعض المهنيين.

  • خامسا: مبدأ وحدة وازدواجية القضاء.

ينصرف معنى مبدأ وحدة القضاء إلى ضرورة اعتماد جهة قضائية وحيدة في الجهاز القضائي للدولة، متمثلة في القضاء العادي، يمثل أمامه جميع الأشخاص، أشخاصا طبيعيين كانوا أو اعتباريين، بما في ذلك شخص الدولة.

أما مبدأ ازدواجية القضاء، فيعني إحداث قضاء إداري مستقل، للبت في القضايا التي تكون الدولة طرفا فيها بصفتها صاحبة سلطة وسيادة وامتياز إلى جانب القضاء العادي الذي ينظر في مختلف القضايا ذات الطابع العادي، فنكون بصدد الحديث عن قضاء مزدوج عادي وإداري.

ويعتبر مبدأ وحدة القضاء من المبادئ التي تأخذ بها العديد من التشريعات المقارنة، في حين تعتمد بعض الأنظمة مبدأ ازدواجية القضاء كما هو الحال في فرنسا ومصر، حيث نجد نظاما مزدوجا يقوم على وجود قضاء عادي على مستوى محاكم الموضوع والنقض، وقضاء إداري على مستوى محاكم الموضوع وعلى مستوى النقض يعرف بمجلس الدولة.

أما في المغرب فبعد أن كان مبدأ وحدة القضاء هو السائد، فقد صار منذ إحداث المحاكم الإدارية ومحاكم الاستئناف الإدارية ، يعتمد مبدأ ازدواجية القضاء على مستوى قضاء الموضوع، ومبدأ الوحدة على مستوى محكمة النقض. وهو ما يعرف بالازدواجية على مستوى القاعدة، والوحدة على مستوى القمة.

  • سادسا: مبدأ التقاضي بحسن النية.

يستلزم هذا المبدأ تقيد الأفراد بأخلاقيات التقاضي، وفقا لما تقتضيه قواعد حسن النية أثناء طرق أبواب القضاء، وعدم استعمال حق اللجوء إلى القضاء المكفول قانونا ستارا وراء الدعاوى والشكايات الكيدية، التي تزعزع الاستقرار وتكبد الدولة والأفراد نفقات ومصاريف وضياع جهود وأوقات.

و في هذا الصدد نصت المادة 5 من قانون المسطرة المدنية على أنه” يجب على كل متقاض ممارسة حقوقه بحسن نية “.هذا لأن الحقوق مهما بلغت درجتها فيشترط استعمالها بحسن نية، وعدم التعسف في استعمالها. فكيف باستعمالها بسوء نية ؟

كما يقتضي هذا المبدأ التزام الأطراف بالإسهام في إجراءات التحقيق في الدعاوى وكافة إجراءاتها المسطرية بحسن نية، وإذا كان الأصل في حسن النية أنه مفترض، فإن ثبوت سوء نية المتقاضي، يعرضه لآثار قد تكون جسيمة .

كما هو منصوص عليه في العديد من النصوص التشريعية. ومن ذلك ما نصت عليه المادة 43 من مدونة الأسرة في فقرتها الأخيرة بالقول :” إذا كان سبب عدم توصل الزوجة بالاستدعاء ناتجا عن تقديم الزوج لعنوان غير صحيح أو تحريف في اسم الزوجة بسوء نية، تطبق على الزوج العقوبة المنصوص عليها في الفصل 361 من القانون الجنائي بطلب من الزوجة المتضررة.”.

و كذا ما نص عليه الفصل 165 من قانون المسطرة المدنية بالقول: ” إذا رأت المحكمة أن التعرض أو الاستئناف لم يقصد منهما إلا المماطلة والتسويف وجب عليها أن تحكم على المدين بغرامة مدنية لا تقل عن خمسة 5 في المائة ولا تفوق نسبة خمسة عشر 15 في المائة من مبلغ الدين لفائدة الخزينة”.

الفقرة الثانية: المبادئ الشكلية الإجرائية.

تندرج ضمن هذه الطائفة من المبادئ عدة مبادئ أساسية، يمكن إرجاعها إلى ما يلي:

-1- مبدأ مجانية التقاضي والمساعدة القضائية.

-2- مبدأ الحق في الدفاع.

-3- مبدأ علانية الجلسات وشفوية المرافعات.

-4- مبدأ القضاء الفردي والقضاء الجماعي.

-5- مبدأ تعليل الأحكام.

-6- مبدأ التقاضي على درجتين.

  • أولا: مبدأ مجانية التقاضي والمساعدة القضائية.

تجسيدا لمبدأ كون العدالة تمنح من غير مقابل، وتكريسا لمبدأ التزام الدولة في تصريف العدالة مقابل وضع يدها واستئثارها بمرافقه، تم تقعيد مبدأ مجانية القضاء، ومؤداه في الأصل، أن لا يتقاضي القضاة مرتباتهم من الخصوم، لأن الدولة هي المكلفة بدفعها.

و يشكل هذا المبدأ ضمانة أساسية لاستقلال السلطة القضائية، درءا للتأثير على قرارات القضاة بحسب يسر المتقاضين وعسرهم، حال توقف البت في النزاعات على أداء الأطراف الأجور القضاة. كما يقتضي هذا المبدأ إعفاء الخصوم من أداء نفقات مقابل اقتضاء الحقوق، ولو لفائدة الخزينة العامة.

ومع ذلك فلا تعني المجانية أن المتقاضين لا يتحملون بصفة مطلقة أي أعباء أو مصاريف مالية، إذ إن الرسوم القضائية اللازمة لإجراءات الدعوى تقع على عاتق المتقاضي، وتعتبر في أغلب القضايا من الشروط الشكلية لقبول الدعوى والبت في الطلب.

ومع أن الإلزام بأداء هذه الرسوم قد يبدوا متناقضا مع مبدأ المجانية خاصة في دعاوى التعويض و الأداءات التي تتطلب أداء مبالغ كبيرة قد يعجز الشخص عن توفيرها، وبالتالي يحرم من حقه في الولوج إلى القضاء، إلا أن ذلك قد يكون مستساغا، خاصة وأن هذه الرسوم لا تكون في الغالب مرتفعة في القضايا العادية الأكثر طرحا على القضاء، واعتبارا لكون المطالب بأدائها صاحب مصلحة، ويتحملها في الأخير خاسر الدعوى من حيث المبدأ.

إضافة إلى ما ينتج عن أدائها من تقليل الدعاوى الكيدية، لأن الإعفاء منها قد يشجع على التقاضي بسوء نية، مادام أن المتقاضي يعلم مسبقا أنه غيرملزم بأي أداء ولا متبوعا بأي جزاء.

أما نظام المساعدة القضائية فيعني تخويل المشرع المتقاضين الفقراء والمعوزين، إمكانية الإعفاء من أداء الرسوم القضائية والاستفادة حتى من خدمات تنصيب محام حال عدم القدرة على توفير الأتعاب الخاصة بالدفاع.

والمساعدة القضائية إما أن تكون بقوة القانون، كما هو الحال بالنسبة لقضايا الجنايات والأحداث والقضايا الاجتماعية. وإما أن تكون بناء على طلب المعني بالأمر، يوجه للسيد ممثل النيابة العامة لدى المحكمة التي يروج أمامها النزاع، أو لرئيس المحكمة الإدارية، متى تعلق الأمر بنزاع معروض أمامها، وفقا لمقتضيات مرسوم 1966 المنظم لمسطرة المساعدة القضائية.

ويعاب على مسطرة الاستفادة من المساعدة القضائية اتسامها بالتعقيد والطول ، في الوقت الذي يفترض فيه أن تكون تلقائية أمام العقبات التشريعية والصعوبات الواقعية، التي تحول دون الولوج إلى القضاء وتحقيق مبدأ الحق في التقاضي.

  • ثانيا: مبدأ الحق في الدفاع.

يعد هذا المبدأ من الحقوق الطبيعية المكفولة للفرد، والتي أقرتها المواثيق الدولية والدساتير والتشريعات الوطنية.ويقوم هذا المبدأ على ضرورة تمكين المتقاضي من الترافع وبسط دفوعاته وأوجه دفاعه في الدعاوى المنظورة أمام المحاكم ، مدعيا كان أو مدعى عليه. ويقتضي هذا المبدأ أن تكون المساطر القضائية تواجهية، مما يتعين معه إعلام الشخص بما يروج من دعاوى ضده أمام المحاكم، وإطلاعه على فحوى الادعاء ومستنداته.

كما يقتضي الاستماع إليه وتمكينه من حقه في إثبات ادعائه بالطرق التي يحددها القانون وإطلاعه على حجج الخصم ودفوعاته، وتمكينه من دفع وتفنيد مزاعم خصمه، وكذا الاستعانة بمحامي لمؤازرته والدفاع عن مصالحه.

ومع أن هذا المبدأ هو الأصل و القاعدة، إلا أن بعض الاستثناءات قد ترد عليه، خاصة في بعض القضايا الاستعجالية التي لا تمس جوهر النزاع، والتي لا تحتمل بطبيعة موضوعيها التأخير والبطء الذي تتسم به المساطر التواجهية مما يمكن معه البت في هذه القضايا في غيبة الأطراف، بل ودون استدعائهم. كما هو الحال في المساطر الاستعجالية التي ينظمها قانون المسطرة المدنية وبعض النصوص الخاصة.

  • ثالثا: مبدأ علنية الجلسات وشفوية المرافعات.

يقصد بمبدأ علنية الجلسات ، ضرورة انعقاد جلسات المحاكم في فضاءات مفتوحة أمام الجميع لما في ذلك من ضمانات للمحاكمة العادلة وبعث للثقة في النفوس تجاه القضاء. فلا يجوز أن تتسم جلسات المحاكمة بالسرية، سواء تعلق الأمر بالمناقشات أو بالنطق بالأحكام، إلا استثناء، متى تعلق الأمر بحفظ النظام العام ورعاية الأخلاق الحميدة، أو بنص القانون، كما هو الحال بالنسبة لجلسات الأحداث وبعض قضايا الأسرة.

ويعد هذا المبدأ من المبادئ المقعدة دستوريا من خلال الفصل 125وكذا تشريعيا من خلال العديد من النصوص كالفصل 43 من قانون المسطرة المدنية، الذي جاء فيه :تكون الجلسات علنية إلا إذا قرر القانون خلاف ذلك. لرئيس الجلسة سلطة حفظ النظام بها ويمكنه أن يأمر بأن تكون المناقشة في جلسة سرية، إذا استوجب ذلك النظام العام أو الأخلاق الحميدة …”

على أن الأحكام يتعين أن تصدر وجوبا في جلسة علنية، حتى وإن مرت المناقشات في جلسة سرية، وهو ما نص عليه الفصل 50 من قانون المسطرة المدنية الذي جاء فيه : ” تصدر الأحكام في جلسة علنية… تنص الأحكام على أن المناقشات قد وقعت في جلسة علنية أو سرية وأن الحكم قد صدر في جلسة علنية”.

أما شفوية المرافعات، فهو مبدأ يقضي بأحقية الخصوم في تقديم مقالاتهم ومطالباتهم، وبسط نزاعاتهم ودفوعاتهم وأوجه دفاعهم، مباشرة وبشكل شفوي أمام هيئة الحكم، بشكل يحفظ للقضاء هيبته ووقاره. لأن المرافعة الشفوية وسيلة من الوسائل المهمة التي تخول الاتصال المباشر للقاضي مع المتقاضي، وتسهم في الغالب في تكوين القناعة الكاملة لدى القضاة.

فهي وسيلة لتبسيط اقتضاء الحقوق وسرعة استيفائها. فضلا عن كونها الوسيلة التي يتقنها الجميع من حيث المبدأ، بشكل لا يحتاج معه الفرد لوسيط بينه وبين القاضي بما في ذلك المحامي.

وقد أحاط المشرع هذا المبدأ بقيود تضمن حسن استعماله، خاصة تلك التي تحفظ للقضاء هيبته ووقاره، فقد نص الفصل 50 من المسطرة المدنية على أنه: “… يجب على الخصوم شرح نزاعاتهم باعتدال. فإذا أخلوا بالاحترام الواجب للعدالة، جاز للرئيس أن يحكم عليهم بغرامة لا تتعدى ستين درهما. يجوز للرئيس دائما في حالة اضطراب أو ضوضاء، أن يأمر بطرد الخصم أو وكيله أو أي شخص آخر من الجلسة .

إذا امتنع الأفراد الذين وقع طردهم أو عادوا إلى الجلسة، أمكن للرئيس أن يتخذ الإجراءات طبق مقتضيات المسطرة الجنائية .إذا صدرت أقوال تتضمن سبا أو إهانة خطيرة تجاه القاضي، حرر رئيس الجلسة محضرا يرسل في الحال إلى النيابة العامة لتطبيق المسطرة المتعلقة بالتلبس بالجريمة”.

و يعتبر هذا المبدأ من المبادئ والقواعد التي صيرها المشرع استثناء، وتم إفراغها من محتواها، بحجج واهية تقيد الحق الطبيعي للفرد في اقتضاء حقه شخصيا، كما تنص على ذلك المواثيق الدولية. فقد كان هذا المبدأ هو الأصل في التشريع المغربي بمقتضى الفصل 45 من ظهير 28 سبتمبر 1974 ، قبل أن يتراجع عنه بموجب تعديل 1993، لتصبح المسطرة الكتابية هي الأصل، والمسطرة الشفوية هي الاستثناء ، كما هو الأمر بالنسبة للنزاعات المتعلقة بقضاء القرب والنفقة والطلاق والتطليق والحالة المدنية والقضايا التي تختص فيها المحاكم الابتدائية ابتدائيا وانتهائيا.

  • رابعا: مبدأ القضاء الفردي و القضاء الجماعي.

يقصد بمبدأ القضاء الفردي، تولي قاض منفرد النظر في الدعاوى المعروضة على المحكمة ، بحيث يقوم بجميع الإجراءات الكفيلة بتجهيز الملف ومناقشته والبت فيه .فيتتبع بمفرده كافة أطوار النزاع منذ عرضه في أول جلسة إلى حين البث فيه. أما القضاء الجماعي ، فالمقصود به تولي هيئة جماعية نظر القضايا المعروضة على المحكمة، من خلال هيئة قضائية مشكلة من قضاة متعددين ويتتبعون سائر أطوار القضية، ويشاركون في مناقشتها والتداول بشأن الحكم فيها.

ولكل من النظامين إيجابيات وسلبيات. إذ يمتاز نظام القضاء الفردي بكونه يحمل القاضي على التأني والتروي في دراسة الملف المعروض عليه لشعوره بالمسؤولية الكاملة الملقاة على عاتقه. زيادة على ذلك فهو نظام يمتاز بالسرعة في البت في المنازعات وإصدار الأحكام والتقليل من عدد القضاة، ومن المصاريف والنفقات التي يقتضيها ذلك.

وبالمقابل لا يخلوا المقضاء الفردي من سلبيات تتمثل على سبيل المثال، في غياب التشاور والتداول وتبادل الرأي بشأن القضايا موضوع النزاع. الأمر الذي قد يؤدي إلى وقوع القاضي، خاصة متى كان مبتدئا في بعض الأخطاء التي قد تجعل حكمه مجانبا للصواب، فضلا عن إمكانية التأثير عليه وإغرائه وتوجيه أحكامه .

أما القضاء الجماعي فإنه بسبب ما يتيحه من تداول للآراء وتبادل وجهات النظر بين أعضاء هيئة الحكم، وما يشكله أيضا من ضمانات تبعد القضاة إلى حد بعيد عن التأثير والتأثر بالعوامل الخارجية، نظرا لإحساس كل منهم برقابة زميله، ولصعوبة التأثير على هيئة بأكملها، فإن الأحكام الصادرة عنه غالبا ما تكون أكثر دقة، وأقرب إلى الصواب مقارنة بالقضاء الفردي. ومع هذا فلا يخلوا هذا النظام من عيوب، لعل أبرزها البطء في إصدار الأحكام، وكثرة التكاليف واتكال بعض القضاة على البعض الآخر.

وهذا ما حدا ببعض الدول إلى المزاوجة بين النظامين، فيعمل بعضها بنظام القضاء الفردي في المحاكم الصغرى، وبالنظام الجماعي في المحاكم الكبرى. ويعمل البعض بنظام القضاء الفردي بالنسبة للقضايا البسيطة والنظام الجماعي للقضايا المهمة، فيما يعتمد البعض معيار حجم القضايا في إعمال النظامين داخل المحكمة الواحدة.

أما المشرع المغربي، فقد عرف موقفه تأرجحا في الأخذ بهذا المبدأ في القضايا المدنية كما في القضايا الزجرية ، فتارة يأخذ بمبدأ القضاء الفردي كما هو الحال بعد صدور ظهير 1974، وثارة يجعل القضاء الجماعي هو القاعدة، والفردي استثناء، كما هو الحال في ظل ظهير 10-08-1993، قبل أن يستقر على كون مبدأ القضاء الفردي هو القاعدة، أمام محاكم الدرجة الأولى العادية ، ومبدأ تعدد القضاة استثناء مع ظهيري 11-11-2003 و 17-08-2011.أما المحاكم المتخصصة ومحاكم الاستئناف ومحكمة النقض، فلا يعمل فيها بغير القضاء الجماعي، ما لم يتعلق الأمر بالاختصاصات المسندة لرؤسائها.

  • خامسا: مبدأ تعليل الأحكام.

اعتبارا للمسؤولية الملقاة على عاتق القضاة، وما تكتسبه الأحكام القضائية من حجية، يلزم القاضي بتعليل حكمه وذلك ببيان الأسباب والحيثيات المعتمدة في تكوين قناعاته، والبت في النزاع وفق ما جاء منطوق الحكم.وهذا التعليل، يمكن الطرف المتضرر من الحكم من الوقوف على مكامن القصور في أوجه دفاعه لتداركها بعد الطعن فضلا عن بيان أوجه الطعن كما يخول المحكمة الأعلى درجة إعمال رقابتها على الحكم القضائي تأييدا أو تعديلا أو إلغاء.

وقد نص الدستور المغربي على هذا المبدأ واستلزم ضرورة تعليل الأحكام، من خلال الفصل 125 الذي نص على أنه “تكون الأحكام معللة وتصدر في جلسة علنية وفق الشروط المنصوص عليها في القانون”.ونادرا ما يتم الخروج عن هذه القاعدة، كما هو الحال بالنسبة للمقررات الصادرة بشأن قبول طلب تجريح القضاة، طبقا لمقتضيات المادة 281 من قانون المسطرة الجنائية.

  • سادسا : مبدأ التقاضي على درجتين .

يهدف هذا المبدأ إلى توفير ضمانات للمتقاضين عن طريق تمكين المتضررين من الأحكام الابتدائية، من عرض النزاع من جديد على المحكمة الأعلى درجة ، بعد الطعن في الحكم الابتدائي القابل للاستئناف، وإعادة نشره أمام محكمة الدرجة الثانية التي تبسط رقابتها على الأحكام الصادرة عن المحكمة الأدنى درجة .فضلا عن بسط محاكم القانون لرقابتها على محاكم الموضوع، بما يشكل ضمانة على احترام القانون وحسن تطبيقه.

ورغم الانتقادات الموجهة لهذا المبدأ، وما نسب إليه من عيوب من قبيل إطالة أمد التقاضي وتكثير المصاريف والصوائر، وتأخير تنفيذ الأحكام إلا أن إيجابياته تبقى أكثر من سلبياته، لما يشكله من ضمانة لتحقيق العدالة، ولما يتيحه للمتقاضين من فرص لاستدراك ما قد يشوب الحكم الابتدائي من أخطاء ، قد يسقط فيها القاضي الذي يبقى مجرد إنسان قابل للخطأ والتأثر، فضلا عن استدراك المتقاضين ما قد يكون فاتهم من أوجه الدفاع.

وأغلب التشريعات تعتمد مبدأ التقاضي على درجتين، كما هو الشأن بالنسبة للمشرع المغربي، الذي يجعل منه القاعدة والأصل، ما عدا بعض الحالات الاستثنائية التي لا تقبل فيها المقررات القضائية الطعن كما هو الحال بالنسبة للقرارات الصادرة عن المحكمة الدستورية، والأحكام الصادرة عن قضاء القرب وبعض القضايا التي تختص فيها المحكمة ابتدائيا وانتهائيا، أو في بعض القضايا الخاصة كالأحكام الصادرة بخصوص المخالفات المرتكبة أثناء انعقاد الجلسات.

الدكتورالبشير عدي ✒️

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى