جريمتي القتل والجرح الخطأ
|

جريمتي القتل والجرح الخطأ: عناصر الجريمة والظروف المشددة في التشريع الجنائي

ينص الفصل 432 من القانون الجنائي على أن ” من ارتكب بعدم تبصره أو عدم احتياطه أو عدم انتباهه أو اهماله ، أو عدم مراعاته النظم أو القوانين قتلا غير عمدي أو تسبب فيه عن غير قصد. يعاقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى خمس سنوات وغرامة من مائتين وخمسين إلى ألف درهم”.

ويقضي الفصل 433 بأن “من تسبب بعدم تبصره أو عدم احتياطه أو عدم انتباهه أو اهماله أو عدم مراعاته النظم أو القوانين ، في جرح غير عمدي أو اصابة أو مرض نتج عنه عجز عن الاشغال الشخصية تزيد مدته على ستة أيام ، يعاقب بالحبس من شهر واحد إلى سنتين وغرامة من مائتين إلى خمسمائة درهم، أو بإحدى هاتين العقوبتين”.

يجتمع القتل الخطأ ، والايذاء غير العمدي في أن كلا منهما يتحقق بنشاط ارادي لم يقصد منه الجاني تحقيق النتيجة التي حدثت فعلا ، وأن نشاط الجاني فيها يتصف باهمال ، أو عدم تبصر، أو عدم احتياط أوعدم انتباه ، أو مخالفة للأنظمة أو القوانين، ولذلك فإن أركان الجريمتين واحدة وهي : العنصر المادي، والعنصر المعنوي.

أولا – العنصر المادي في جريمة القتل والجرح الخطأ :

ان جريمتي القتل والجرح الخطأ من جرائم النتيجة ، ولذلك فإن العنصر المادي فيهما يتكون من فعل الجاني، ونتيجة اجرامية ، وعلاقة سببية:

1) فعل الجاني :

فعل الجاني المكون للعنصر المادي في جريمتي القتل والجرح خطأ يدخل فيه كل نشاط إرادي يقوم به الفاعل دون أن يقصد منه قتل الضحية أو ايذاء جسمه فكل ما يشترط فيه اذن أن يكون الفعل اراديا، اما إذا كان غير ارادي فلا تتحقق جريمة القتل أو الايذاء غير العمدي كما إذا كانت هناك قوة قاهرة أو حادث فجائي اضطر الفاعل إلى القيام بالنشاط الذي أدى إلى قتل الضحية أو ايذائه مثل السائق الذي يقود سيارته وفق قوانين السير وضوابطه، يفاجأ بسائق آخر أو راجل متهور فينحرف بسيارته لتفادي الاصطدام مع السائق أو الراجل ويؤدي الحرافه إلى اصابة الراكبين معه في السيارة أو إلى قتل أو جرح شخص آخر.

ومتى كان الفعل إراديا تحققت الجريمة سواء كان الفعل ايجابيا أو سلبيا، لأن النص القانوني يذكر صراحة الاهمال وهو نشاط سلبي أو امتناع، مثل المالك الذي يهمل اصلاح عقاره المتداعي إلى أن انهدم فتسبب في قتل أو جرح ساكنيه أو غيرهم ، وصاحب حيوان خطير كالكلب والثور المتعود على النطح يتركه طليقا في أمكنة يسلكها الناس عادة ، وطبيب يترك المريض وحيدا وهو يعلم أن حالته تعرضه لخطر اصابة أو موت.

كما يستوي أن يكون نشاط الجاني عملا غير اجرامي مثل الصياد الذي يطلق قذيفة بتهور فتصيب انسانا ، وصاحب عقار يحفر فيه خندقا لا يقيم عليه حاجزا أو إضاءة ليلا فيقع فيه الضحية، أو يهدم بناء فيلقي بالانقاض إلى الشارع دون احتياط ويتسبب ذلك في اصابة انسان أو قتله ، واجراء عملية جراحية دون أخذ الاحتياطات التي تفرضها ضوابط المهنة وتقاليدها ، أو اعطاء دواء للمريض دون التأكد من حقيقة مرضه أو من سلامته من أمراض أخرى أو حساسية خاصة لها مفعول مضاد للدواء المعطى.

أو يكون عملا معاقبا عليه جنائيا سواء كان مكونا لجريمة غير عمدية مثل الاحراق غير العمدي (ف 435) أو لجريمة عمدية كمن يطلق حيوانا بقصد سرقته فيلحق الحيوان إصابة بالضحية أو يقتله.

وإذا قصد الجاني ايذاء الضحية فنشأ عن ذلك الموت لم تكن الجريمة قتلا خطأ وانما تعتبر ضربا أو جرحا مفضيا إلى موت (ف 403) فجريمتا القتل الخطأ ، والضرب والجرح المفضي إلى موت يشتركان في أن الجاني فيهما يقوم بعمل ارادي دون أن يستهدف منه ازهاق روح انسان ، ولكنهما يختلفان في أن الجريمة الثانية يتوفر فيها قصد إيذاء الضحية في حين أن الجريمة الأولى (القتل الخطأ) لا تنشأ أبدا عن نشاط قصد به ايذاء جسم الانسان.

2) النتيجة الاجرامية :

النتيجة الاجرامية في القتل الخطأ هي ازهاق روح انسان ، وفي الجرح أو الايذاء الخطأ هي كما تقول الفصل 433 الجرح أو الاصابة أو المرض نتج عنه عجز عن الأشغال الشخصية لمدة تزيد على ستة أيام، وهكذا لا تتحقق جريمة القتل الخطأ إلا إذا مات الضحية فعلا بسبب نشاط الجاني سواء حدث الموت عقب اصابته مباشرة أو حدث بعدها بزمن طويل ما دامت العلاقة السببية ثابتة.

وبالنسبة للايذاء غير العمدي فإن النتيجة المنصوص عليها في الفصل 433 قاصرة على حالات وصف الجريمة بالجنحة فقد نص القانون الجنائي في ف 608 (الفقرة الثالثة) على ما يلي ” من تسبب عن غير قصد بعدم تبصره أو عدم احتياطه أو عدم انتباهه أو باهماله أو بعدم مراعاته للنظم جرحا أو اصابة أو مرضا نتج عنه عجز عن الاشغال الشخصية مدة تعادل أو تقل عن ستة أيام”، وعقوبة الجريمة في هذه الحالة الاعتقال من يوم إلى خمسة عشر يوما وغرامة من عشرين إلى مائتين درهما أو احدى هاتين العقوبتين فقط.

فجريمة الايذاء غير العمدي تتحقق بكل ايذاء يلحق الضحية في جسمه أو صحته وتعتبر الجريمة مخالفة إذا كان العجز الناتج عنها لا يزيد على ستة أيام ، بينما تعتبر جنحة ضبطية إذا تجاوز العجز الناشئ عنها ستة أيام سواء كان مؤقتا أو دائما ، أو فقدا لعضو ، فالمشرع لم يتدرج في العقاب في الايذاء الخطأ كما فعل في الايذاء العمدي.

والعجز عن الاشغال يقصد به هنا نفس المفهوم في جرائم الايذاء العمدية وهو عدم القدرة على الاعمال البدنية العادية للفرد كالحركة والسير وممارسة العمل اليومي العادي .

3) العلاقة السببية :

لكي يتحقق الركن المادي لجريمتي القتل والايذاء خطأ يتعين أن يكون نشاط الجاني هو الذي أحدث النتيجة الاجرامية، والعلاقة السببية في هاتين الجريمتين تخضع لنفس الاحكام التي تطبق على العلاقة السببية في جرائم النتيجة عموما ، فإذا استقل نشاط الفاعل باحداث موت الضحية أو عجزه كان الأمر واضحا مثل السائق الذي يسير بسرعة غير قانونية أو على يسار الطريق فيصدم راجلا أو راكب سيارة أخرى لم يرتكب كل منها أي خطأ .

اما إذا تدخلت أسباب اجنبية مع فعل الجاني وكان لها دور في تحقق النتيجة ، فيثور الخلاف الفقهي في شأن الحل الذي ينبغي أن يأخذ به القاضي طبقا للنظريات المعروفة في تعدد الأسباب وتداخلها في إحداث النتيجة الاجرامية.

ومادام القانون الجنائي لم يتعرض لهذه الحالة ، فإن الأمر يرجع إلى القاضي الذي يستخلص العلاقة السببية من الوقائع المعروضة عليه وملابساتها فلا ينبغي تقييده مسبقا بمعايير أو نظريات كالسبب الملائم أو الأسباب المتوقعة وغير المتوقعة وانما يتعين أن يكون حرا في استخلاص العلاقة السببية التي هي مرتبطة بالاسناد المعنوي للجريمة إلى الفاعل .

واقتناعه بهذا الاسناد يتوقف على ملابسات كل قضية وظروفها ، نعم يجب على القاضي أن يشرح في حكمه هذه الظروف والملابسات التي أقنعته بوجود أو عدم وجود الاسناد المعنوي والعلاقة السببية ، حتى يتأتى لقاضي النقض التأكد من التطبيق السليم للقانون.

هذا وتنبغي الاشارة إلى أنه إذا حدثت النتيجة الاجرامية (الموت أو العجز) بسبب نشاط فاعلين أو أكثر، فإن ادانة أحدهم لا يقطع العلاقة السببية بالنسبة للآخرين فمتى ثبت أن نشاط كل منهم له دور في تحقيق النتيجة إلا ويتعين اعتبار كل واحد منهم كما لو ارتكب الجريمة بمفرده.

فإذا صدم سائقان مثلا ضحية ، وثبتت العلاقة السببية بين خطأ كل منهما وواقعة الاصطدام ، كان كل واحد منهما مرتكبا لجريمة القتل الخطأ أو الجرح الخطأ حسب الضرر اللاحق بالضحية ، ذلك أن الجرائم غير العمدية عموما ليس فيها مساهمة أو مشاركة ، وكل من ثبتت العلاقة السببية بين نشاطه والنتيجة الاجرامية اعتبر كما لو ارتكب الجريمة منفردا .

وسبق أن أشرنا في جريمة القتل العمد إلى أن قاضي الموضوع ترجع إليه صلاحية اثبات أو نفي الوقائع المكونة للعلاقة السببية أو القاطعة لها مع التزامه بشرح تلك الوقائع في الحكم حتى يتألى لقاضي النقض أن يراقب مدى سلامة الاستنتاج الذي انتهى اليه من اثبات أو نفي العلاقة السببية التي ناقشها الخصوم. على أنه يلاحظ بعض التضارب في المعايير التي تستند إليها محكمة النقض لرقابة محكمة الموضوع في اثباتها أو نفيها للعلاقة السببية.

ثانيا – العنصر المعنوي لجريمة القتل والجرح الخطأ :

العنصر المعنوي في جريمتي القتل والجرح غير العمديين هو الخطأ الذي عبر عنه الفصل 432 و 433 بعدم التبصر، وعدم الاحتياط ، وعدم الانتباه، والاهمال، وعدم مراعاة النظم أو القوانين. فما هو الخطأ الذي يشكل العنصر المعنوي في الجريمتين ؟ وهل يتحقق في مخالفة النظم والقوانين ؟

1) ما هو الخطأ الذي يشكل العنصر المعنوي في الجريمتين ؟

لقد كثرت التعاريف الفقهية للخطأ عموما في الميدانين المدني والجنائي معا وتجتمع تلك التعاريف بصفة عامة في تفسير الخطأ بأنه الانحراف عن سلوك الرجل العادي المتبصر الموجود في نفس ظروف مرتكب الخطأ، والذي يهمنا الآن هو الخطأ في جريمتي القتل والايذاء غير العمديين على الخصوص .

يعتبر خطأ في هاتين الجريمتين كل عمل أو امتناع إرادي لم يقصد به الفاعل قتل إنسان أو ايذاءه، ومع ذلك ترتب عنه الموت أو الإيذاء نتيجة عدم تبصره أو عدم احتياطه… أي إن الفاعل عندما قام بالعمل الايجابي أو الامتناع كان من جهة لا يتوقع نهائيا حدوث الموت أو الإيذاء بسبب تصرفه أو كان يتوقعه على وجه الاحتمال ويمضي في تنفيذ الفعل عن تهور وطيش أو بناء على اعتقاده أنه قادر على تفادي النتيجة المحتملة.

ومن جهة ثانية يجب أن يكون قيامه بالفعل في كلا الحالين متسما بعدم التبصر أو عدم الاحتياط أو عدم الانتباه أو الاهمال ، ففي حالة توقع امكانية حدوث النتيجة يكون عدم التبصر أو عدم الاحتياط ظاهرا باقدامه على تنفيذ الفعل وهو يتوقع منه امكانية حدوث موت انسان أو ايذائه.

وفي حالة عدم توقعه النتيجة يجب أن يثبت اتصاف تصرف الفاعل بالاهمال أو عدم التبصر … وتتحقق هذه الصفة في التصرف إذا كان الرجل العادي المتبصر اليقظ الموجود في نفس ظروف الفاعل لا يقوم به، لأنه بتبصره ويقظته يدرك ما فيه من خطورة ويتوقع منه امكانية حدوث الوفاة أو الإيذاء .

وقد سبق أن رأينا أن الفعل المادي أو الامتناع الذي يتكون منه العنصر المادي في جريمتي القتل والايذاء غير العمديين ، قد يكون في حد ذاته جريمة وقد لا يكون جريمة، فإذا كان تصرف الفاعل جريمة لم تكن النيابة في حاجة إلى اثبات الاعمال أو عدم التبصر، لأن الجريمة تصرف خاطئ بطبيعته، وذلك مثل السائق الذي يتسبب في قتل أو جرح بسرعة غير قانونية أو بالسير على يسار الطريق مثلا ، والطبيب الذي يقوم بعملية اجهاض فتتسبب في وفاة المرأة ، وصاحب العقار الذي يقوم بآشغال البناء أو الحفر ويهمل الاحتياطات المفروضة تحت طائلة العقوبات الجنائية كالسياج والانارة ليلا وعدم ترك مواد تعرقل السير في الطريق العام فيتسبب اهماله هذا في موت انسان أو إصابته بجروح.

اما إذا كان التصرف ذاته لا يكون جريمة فيتعين على النيابة العامة أن تثبت ان الرجل اليقظ المتبصر لا يقوم به وذلك مثل اهمال المالك اصلاح بنائه إلى أن انهار فتسبب في قتل أو جرح ، وقيام طبيب بعملية جراحية دون الاحتياطات التي يراعيها الطبيب المتبصر الحذر في تلك العملية ، أو دون التقيد بالأصول العلمية المفروضة طبيا في انجاز العملية ذاتها.

يتبين من هذا أن الاهمال أو عدم التبصر … في تصرف الجاني يتحقق إما بتوقع الفاعل نفسه امكانية تسببه في موت أو ايذاء ، وإما باتصاف التصرف ذاته بصفة جريمة معاقب عليها جنائيا ، وإما باثبات النيابة العامة ان الشخص المتبصر المتصف باليقظة والحذر الضروريين لا يقوم به في الظروف المحيطة بالفاعل، ويقاس تصرف المتهم بسلوك الشخص المتبصر المحتاط من سواد الناس أو من فئته إذا كان المتهم ينتمي إلى فئة خاصة.

وهكذا ، يقاس اهمال المالك مثلا لاصلاح بنائه أو حراسة حيوانه واطلاق عيار ناري من سلاح بسلوك الرجل العادي من الناس بينما يقاس تصرف الطبيب أو طبيب الاسنان والمهندس المعماري ، أو مهندس الاشغال العمومية ، بسلوك من ينتمي إلى فئته في المهنة والتخصص.

هذا وعبارات عدم التبصر، وعدم الاحتياط وعدم الانتباه الواردة في ف 432 و 433 متداخلة الدلالة ، يتعذر الفصل بين مفاهيمها وان حاول بعض الشراح ذلك وقد أوردها المشرع لتشمل سائر صور الانحراف عن سلوك الشخص الحريص على الاحتياط والتبصر في تصرفاته ، أي لسائر الصور التطبيقية للخطأ .

2) هل يتحقق الخطأ في مخالفة النظم والقوانين ؟

تنبغي الاشارة أولا إلى أن المقصود بالنظم والقوانين النصوص التشريعية وما دونها من قرارات ولوائح وأوامر صادرة من السلطة العامة، سواء كانت هذه القرارات والأوامر تنظيمية أو فردية كالقرار الصادر بسحب رخصة من المتهم أو بمنعه من مزاولة مهنة أو نشاط معين… فخالف القرار وقام بالنشاط الممنوع منه فتسبب في قتل أو جرح غير عمدي.

كما يستوي أن يكون الأمر مكتوبا أو شفويا صادرا من جهاز اداري أو من أحد الأفراد الذين يخولهم القانون اصدار تلك الأوامر ، مثل شرطي المرور الذي يأمر في نطاق اختصاصه سائقا بالتوقف لمرور سيارة أخرى ، أو بعدم سلوك طريق معين تستعمله في تلك اللحظة سيارات خاصة أو لوجود خطر فيه على سلامة السير، فإذا خالف السائق الأمر الصادر اليه وتسبب في قتل أو جرح نتيجة تلك المخالفة اعتبر مسؤولا جنائيا ولو لم يثبت ضده أي خطأ آخر غير مخالفة أمر شرطي المرور.

ومن ناحية ثانية فإن النظم تشمل كذلك الأنظمة الداخلية للمؤسسات الخاصة والموضوعة من أجل المحافظة على سلامة الأشخاص وصحتهم، فالمتهم الذي يعمل في شركة أو جمعية مثلا إذا خالف أحد أنظمة المؤسسة التي يعمل فيها، وتسبب بتلك المخالفة في موت أو جرح يكون مسؤولا جنائيا، ولو لم يثبت ضده أي خطأ آخر كما إذا منع التدخين في مخازن المؤسسة وخالف المتهم ذلك فتسبب في حريق أدى إلى موت شخص أو جرحه، أو تفرض ضوابط خاصة لتشغيل الآلات أو نقل السلع داخل المؤسسة فلا يحترم المخالف تلك الضوابط ويتسبب في موت أو جرح.

ونشير أخيرا إلى أن النظام أو القانون الذي وقعت مخالفته، إذا كان شرعيا فلا اشكال اما إذا كان غير شرعي أي مخالفاً لنص تشريعي أعلى منه أو تجاوز فيه من أصدره حدود اختصاصه، فإن مجرد مخالفته لا يبرر المسؤولية الجنائية عما حدث من موت أو جرح مادام لم يثبت ضد الفاعل أي خطأ آخر.

هذا عن مفهوم الأنظمة والقوانين وشرعيتها، أما بالنسبة لاشتراط تحقق الخطأ في مخالفتها، فإن الفقه انقسم إلى اتجاهين اثنين:

الاتجاه الأول يقول إن مجرد ارتكاب الفاعل لعمل مخالف للقانون أو للأنظمة يجعله مسؤولا عما يترتب عن ذلك العمل من نتائج بصرف النظر عما إذا كان ارتكاب الفعل ذاته يحمل مسؤولية اخلاقية للفاعل أم لا .

ويذهب رأي ثان إلى أن مجرد مخالفة القوانين أو الأنظمة غير كاف للمسؤولية عن النتائج المترتبة عن الفعل أو الترك، وانما يتعين أن يتوفر في سلوك الفاعل العنصر المعنوي للخطأ أي عدم التبصر أو عدم الاحتياط أو عدم الانتباه أو الاهمال، وذلك بأن يكون متوقعا لامكانية حصول النتيجة أو على الأقل كان عليه أن يتوقعها لو استعمل التبصر والاحتياط الضروريين .

ويظهر أثر الخلاف بين الرأيين في القوانين والأنظمة التي لا تشكل مخالفتها خطأ أو ذنبا اخلاقيا، وفي الجرائم القانونية التي لا يشترط للعقاب عليها توفر القصد الجنائي أو الخطأ أي الأعمال أو عدم التبصر … كما هو الشأن بالنسبة لأغلبية المخالفات، مثلا أن يحدث عطب مفاجئ في عداد ضبط سرعة السيارة فيظهر للسائق أنه يسير على 50 كيلومترا (سرعة قانونية) بينما هو في الواقع يسير بسرعة 60 كيلومترا (سرعة غير قانونية) فيتسبب في حادثة وفاة أو جرح بسبب هذه السرعة.

وكذلك لو نسي أو غلط السائق في تغيير الانارة أثناء تقابله مع سيارة أخرى، فأدت الانارة القوية إلى تعريض السيارة المقابلة لحادثة نشأ عنها موت أو جرح، في هذه الأمثلة يعتبر السائق مخالفا للقانون بالسرعة المفرطة والانارة غير القانونية وان لم يكن مخطئا بالمفهوم العام الاخلاقي للخطأ .

فطبقا للرأي الأول يكون السائق مسؤولا جنائيا عن القتل أو الجرح غير العمدي الناتج عن مخالفته للقانون وان لم يتوفر في هذه المخالفة العنصر المعنوي للخطأ، في حين لا يكون مسؤولا وفقا للرأي الثاني الذي يشترط في مخالفة القانون توفرها على عدم التبصر والاهمال ، والسائق الذي يدلس عليه العداد أو ينسى أو يغلط في تغيير الانارة لا يعتبر مهملا أو عديم التبصر بالمفهوم الاخلاقي لهذين المصطلحين.

ويبدو أن الخلاف بين الرأيين ناشئ من الخلط بين القوانين والأنظمة والجرائم القانونية التنظيمية من جهة وبين القوانين والأنظمة والجرائم القانونية ذات الخطر من جهة ثانية، فبالنسبة للنوع الأول لا تكفي مخالفة القانون للمسؤولية عن القتل أو الجرح غير العمدي الذي رافق تلك المخالفة .

فمن أمثلة مخالفة القوانين التنظيمية غير الجنائية أن يمنع القانون الطبيب الذي يحمل صفة موظف عمومي من العمل خارج وظيفته، فإذا خالف الطبيب واجرى عملية جراحية في مصحة خاصة نتج عنها وفاة المريض، فإنه يتعذر متابعة الطبيب بالقتل الخطأ لمجرد انه خالف قانون الوظيفة العمومية دون أن يثبت عليه تقصير أو اهمال أو عدم احتياط في العملية التي قام بها .

ومن الجرائم القانونية التنظيمية عدم حمل السائق لأوراقه معه أثناء قيادة السيارة وانعدام التأمين وعدم اداء الضريبة أو وضع قسيمة الأداء على الزجاج الأمامي للسيارة فإذا كان السائق وقت الحادثة التي نتج عنها موت أو جرح مرتكبا لاحدى هذه المخالفات لم يكن ذلك كافيا لمساءلته عن الموت أو الجرح الذي حدث، لأن المخالفة التي ارتكبها تنظيمية لم يعاقب عليها المشرع لتفادي خطر ضد الأشخاص وسلامتهم فتنعدم بذلك العلاقة السببية بين المخالفة المرتكبة والنتيجة التي حدثت.

وعلى العكس من ذلك إذا كان القانون أو الفعل الاجرامي ذا خطر، بمعنى أن القانون أو النظام منع الفعل لما فيه من خطر على السلامة العامة كما في منع التدخين وضوابط تشغيل وتعهد الآلات في مؤسسة مثلا والسرعة المفرطة وانعدام الانارة القانونية ، والسير على يسار الطريق وعدم احترام الأسبقية فارتكاب السائق لاحدى هذه المخالفات كاف لمساءلته عن الموت أو الجرح الناتج عنها .

والمخالف لقانون أو نظام غير جنائي وضع لتفادي خطر، أو لنص جنائي يعاقب على جريمة ذات خطر يكون دائما مرتكبا للخطأ بمفهومه العام ، أو لاهمال أو عدم تبصر أو عدم احتياط أو عدم انتباه، لأن ما تمثله المخالفة من خطر يفرض على الفرد الاحتياط والتبصر حتى لا يرتكب الفعل الممنوع عن خطأ أو غلط، كما أنه إذا ارتكب عن قصد يكون مخطئا توقع نتائجه الخطيرة أم لا، إذ كان عليه أن يتوقع النتائج المحتملة السلوكه.

يتيين مما سبق أن مخالفة الأنظمة والقوانين لا تكون سببا للمسؤولية عن الموت أو الجرح من غير قصد إلا إذا توفر في هذه المخالفة العنصر المعنوي للخطأ وهذا العنصر يتوفر دائما في مخالفة القوانين والأنظمة المقررة للمحافظة على السلامة العامة ، وكذلك في ارتكاب الجرائم القانونية ذات الخطر.

وعلى العكس من ذلك مخالفة القوانين التنظيمية وارتكاب الجرائم القانونية التي يعاقب عليها المشرع بقصد فرض أوامر القانون وحماية الأوضاع القانونية المستجدة دون أن يكون سبب التجريم فيها خطر ما على سلامة الأفراد وصحتهم ، فان مخالفتها المجردة لا تبرر العقاب على ما يرافقها من موت انسان أو ايذائه وانما يتعين أن يثبت ضد المخالف اهمال أو عدم تبصر أو عدم احتياط كانت له علاقة مباشرة بالموت أو الايذاء الذي حدث.

3) اثبات العنصر المعنوي في جريمتي القتل والجرح غير العمديين :

رأينا أن العنصر المعنوي في هاتين الجريمتين هو الخطأ الذي يتحقق بقيام الجاني بالعمل أو الامتناع الذي ترتب عنه الموت أو الجرح ، وهو يتوقع حدوث هذه النتيجة من سلوكه أو كان عليه أن يتوقعها لو استعمل الحيطة واليقظة التي يتقيد بها الشخص العادي الموجود في نفس الظروف.

وطبقا للقواعد العامة فإن النيابة العامة هي المكلفة باثبات توافر عناصر الجريمة جميعها بما فيها العنصر المعنوي ، ولكن كما أشرنا من قبل فإن الجاني إذا كان يتوقع النتيجة ، أو كان الفعل الذي قام به من جرائم الخطر ، لم تكن النيابة في حاجة إلى اثبات مستقل للعنصر المعنوي للخطأ، لأن توقع النتيجة أو ارتكاب جريمة خطر يثبتان بالتبعية وجود العنصر المعنوي لجريمتي القتل والجرح غير العمديين.

وفي غير هاتين الحالتين يتعين على النيابة القيام بالاثبات المطلوب على أنه في الواقع العملي لا يقف المتهم موقفا سلبيا ، وانما يسعى بدوره لتأكيد براءته عن طريق نفي الخطأ عن سلوكه، ومما يدلي به كل من النيابة والمتهم تستخلص المحكمة وجود أو انتفاء العنصر المعنوي للجريمة موضوع المتابعة.

ثالثا – ظروف التشديد في جريمتي القتل والجرح الخطأ :

ان جريمتي القتل والايذاء غير العمديين باعتبارهما جريمتي خطأ لا تتحقق فيهما المساهمة والمشاركة كما لا تتحقق فيهما الظروف المشددة العادية في جرائم الاعتداء على الأشخاص من سبق إصرار وترصد ، وعلاقة القرابة بين الجاني والمجني عليه وكذا ظرفا الارتباط والاقتران الخاصان بالقتل العمد .

ومع ذلك فانهما يخضعان لظرفي تشديد خاصين بهما، إذ نص الفصل 434 من ق. ج على أنه ” تضاعف العقوبات المقررة في الفصلين السابقين إذا كان الجاني قد ارتكب الجنحة وهو في حالة سكر أو كان قد حاول التخلص من المسؤولية الجنائية أو المدنية التي قد يتعرض لها ، وذلك بفراره عقب وقوع الحادث أو بتغيير حالة مكان الجريمة أو بأية وسيلة أخرى”.

وهذان الظرفان ينطبقان كثيرا في حوادث السير وقد قصد بهما محاربة حالات التهور التي يعمد فيها السائق إلى قيادة السيارة رغم اختلال ادراكه بالكحول التي تناولها ، أو الفرار أو اخفاء أو تغيير الآثار التي تخلفها الحادثة بنقل الضحية، أو تغيير وضع السيارة أو الدراجة بعد الحادثة أو اخفاء آثار الفرامل أو غير ذلك من الوسائل التي يستهدف بها الجاني التخلص من المسؤولية الجنائية أو المدنية .


  • تم اقتباس هذا المقال من كتاب أحمد الخمليشي، القانون الجنائي الخاص، الجزء الثاني.

Share this content:

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *