جريمة مغادرة أحد الأبوين بيت الأسرة
|

جريمة مغادرة أحد الأبوين بيت الأسرة: عناصرها وعقوباتها في القانون المغربي

يقضي الفصل 479 من القانون الجنائي فيما يخص ترك بيت الزوجية بأنه ” يعاقب بالحبس من شهر إلى سنة وبالغرامة من 200 إلى 2.000 درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط :

1 – الأب أو الأم اذا ما ترك أحدهما بيت الأسرة دون موجب قاهر لمدة تزيد على شهرين وتملص من كل أو بعض واجباته المعنوية والمادية الناشئة عن الولاية الأبوية أو الوصاية أو الحضانة.

ولا ينقطع أجل الشهرين إلا بالرجوع الى بيت الأسرة رجوعا ينم عن ارادة استئناف الحياة العائلية بصورة نهائية .

2 – الزوج الذي يترك عمدا، لأكثر من شهرين ودون موجب قاهر زوجته وهو يعلم أنها حامل “.

أولا – عناصر جريمة مغادرة بيت الأسرة :

بمقتضى النص السالف الذكر تكون عناصر الجريمة هي : فعل مادي، صفة الأب أو الأم أو الزوج، ووجود طفل قاصر أو حمل، وقصد إجرامي:

1) فعل مادي :

يتكون الركن المادي للجريمة المنصوص عليها في الفصل 479 من هجر بيت الأسرة، دون عذر، مدة تزيد على شهرين:

أ – بيت الأسرة :

بيت الأسرة هو مكان استقرار الزوجين وأولادهما، وطبقا لأحكام مدونة الأسرة يستقل الزوج باختيار هذا البيت، والزوجة والأطفال ملزمون باتباعه والاستقرار معه في أي مكان يختاره، وكل ما يمكن للزوجة هو أن ترفع الأمر إلى القضاء اذا كان في المسكن الذي اختاره الزوج إضرار بها .

وبناء على ذلك فإن الزوج ( الأب ) لا يطبق عليه النص إلا في الحالة التي لا يختار فيها مسكنا جديدا للأسرة أي في الحالة التي يهجر فيها المنزل الذي كان فيه مع الزوجة والأولاد، ويمتنع من دعوتهم إلى الالتحاق به في المسكن الذي انتقل اليه، وهي بالتأكيد وضعية نادرة في الحياة العملية، خصوصا مع صلاحياته المطلقة في إعلان الطلاق.

وبيت الأسرة يرتبط وجوده باستمرار العلاقة الزوجية في القانون المغربي، وإن كانت الحماية الجنائية للتعايش فيه قاصرة على فترة وجود أطفال قاصرين .

ب – الهجر :

إن الهجر الذي عبر عنه النص بالترك يقصد به الابتعاد المادي المتواصل عن منزل استقرار الأسرة والتخلي عن شؤونه وعن الالتزامات التيي فرضها القانون لفائدة الساكنين فيه .

وليس من عناصر الهجر بعد المسافة، فقد يبقى المهاجر قريبا من منزل الأسرة كالانتقال إلى منزل مجاور أو في طبقة أخرى من نفس العمارة، فالعبرة بمغادرة المنزل ماديا وتقرير التخلي عن أهله وسير شؤونه، فمتى تحقق ذلك وجد الهجر أو الترك لبيت الأسرة، ولا أهمية بعد ذلك لما اذا كان المهاجر قد استقر في منزل آخر قريب أو بعيد، أو بقي متنقلا دون قرار، أو جهل مكان وجوده.

على أن التخلي عن شؤون البيت والتزاماته، لا يشترط أن يكون كليا كما هو صريح النص فيكفي أن يتحقق التملص الجزئي من الواجبات المادية والمعنوية للأب أو الأم .

وهكذا يعتبر الاهمال قائما ولو استمر الأب مثلا في الانفاق على الزوجة وأطفالها. والحقيقة أن الابتعاد المادي والمتواصل عن البيت يستتبع حتما التملص من بعض الالتزامات المادية والمعنوية، ويتعذر بل يستحيل القيام بكل هذه الالتزامات مع هجر مسكن الأسرة، سواء ازاء الزوج الآخر، أو ازاء الأطفال. ولذلك فإن اثبات الواقعة المادية للهجر، يشكل في نفس الوقت اثباتا للتملص من الالتزامات الأسرية.

والهاجر يعتبر أب الأسرة أو أم الأسرة، ولفظ الأسرة يشمل الأطفال والزوج الآخر. لذلك نعتقد أن الجريمة تتحقق ولو كان التملص أخل أساسا بحقوق الزوج الآخر، مثل الذي يلحق ولده بإحدى الداخليات ويهجر البيت مخلا بحقوق الزوجة الأم المستقرة فيه، ومثل ذلك أن يكون الولد نزيل مستشفى .

فالهدف من التجريم كما هو واضح الزام الأبوين بعد ازدياد الأبناء بالاستقرار في مسكن الأسرة للتعاون على تربيتهم والعناية بشؤونهم الأمر الذي يتطلب الحفاظ على حقوق الطرف الآخر كذلك ما دام عضوا في الأسرة يساهم في رعايتها والعناية ببقية أفرادها .

ج – دون عذر :

جريمة إهمال الأسرة لا تتحقق إلا اذا كان الابتعاد عن بيت الأسرة بدون عذر واذا كان النص العربي للفصل 479 يقول ” دون موجب قاهر” فإن العبارة لا تبدو دقيقة، إذ ليس من الضروري أن يكون سبب الابتعاد قاهرا، وإنما يكفي أن يكون مشروعا أو كما يقول النص الفرنسي للمادة 479 ” دون سبب خطير” sans motif grave. اذا كان السبب غير ارادي فلا إشكال مثل المرض والاعتقال وما اليهما.

أما اذا كان السبب اراديا، فإن تقدير ما اذا كان يعتبر عذرا مقبولا أم لا، يرجع إلى المحكمة بعد استقصائها ظروفه وملابساته وسماع بيانات المعنيين بالأمر، مثل السفر للعمل، أو الدراسة أو تدريب مهني أو ممارسة تجارة، أو العناية بولد أو أم أو أب مريض مرضا مزمنا، وليس معه من يعتني به.

ومما تستعين به المحكمة في تقديرها مدى حرص المدعى عليه بالاهمال على قيامه بالتزاماته ازاء بيت الأسرة، وكذلك علاقات الزوجين قبل مغادرة البيت .

د – مدة الهجر :

اشترط النص استمرار الهجر فترة تزيد على شهرين، فمغادرة بيت الأسرة لفترة أقل من هذه لا يطبق عليه الفصل 479 ولو كان الهدف منها التخلص من الالتزامات الأسرية، على أن المشرع أضاف أن أجل الشهرين لا ينقطع إلا بالرجوع إلى البيت رجوعا ينم عن ارادة استئناف الحياة العائلية بصورة نهائية.

ولذلك فإن الرجوع الذي يقصد به مجرد التحايل على القانون وابطال ما مضى من فترة الاهمال لا يعتد به ولا ينقطع به سریان احتساب مدة الهجر، وتتأكد المحكمة من حقيقة القصد بالرجوع عن طريق الفترة التي استغرقها هذا الرجوع، ووضعية الحياة الزوجية خلاله .

2) صفة الأب أو الأم أو الزوج :

إن الذي يرتكب جريمة إهمال الأسرة المنصوص عليها في الفصل 479 هم الأب والأم، أو الزوج الذي يترك زوجته حاملا، وعليه فإن ترك أحد الزوجين للآخر لا يعتبر جريمة، وإنما يتعين أن يكون بينهما طفل واحد على الأقل، أو تكون الزوجة حاملا.

3) وجود طفل أو حمل :

إن الفصل 479 يعاقب على الاخلال بالتزامات الولاية الأبوية والحضانة وهذا يتطلب وجود طفل أو أطفال قاصرين ما يزال المهمل ملزما بالقيام بواجب الولاية والحضانة ازاءهم.

4) قصد إجرامي :

إهمال الأسرة جريمة عمدية، فيجب على النيابة العامة أن تثبت توفر القصد الاجرامي فيها، هذا القصد الذي يتحقق باتجاه نية تارك بيت الأسرة الى الاخلال بالتزاماته المادية والمعنوية أو ببعضها إزاء هذا البيت وأهله .

يتم الاستدلال على وجود القصد الجنائي عن طريق اثبات واقعة الابتعاد عن البيت مع انعدام العذر المقبول لهذا الابتعاد اضافة الى ما يمكن أن يوجد من قرائن أخرى مستخلصة من تصرفات الهاجر وعلاقته بالزوج الآخر قبل وأثناء الهجر.

وعلى كل يمكن للمتابع أن يدحض وجود القصد الجنائي لديه باثبات المبرر المشروع لابتعاده عن بيت الأسرة مع مواصلة القيام بالتزاماته الأسروية بقدر الامكان رغم بعده عن البيت .

ثانيا – تقدير الأحكام الواردة في الفصل 479 :

سبقت الاشارة إلى أن الفصل 479 نقل حرفيا عن م 357 – 1 من القانون الجنائي الفرنسي، وأن هذا النقل مع اختلاف قانون الأحوال الشخصية المغربي عن نظيره الفرنسي، يجعل تجريم إهمال الأسرة بهذا الشكل محل مناقشة :

1) إن الأب هو وحده الذي تقع عليه التزامات الولاية الأبوية، أما الأم فلا يخولها القانون هذه الولاية، والاخلال بالتزامات الولاية الأبوية هو أساس التجريم، ولذلك اقتصر عليها القانون الفرنسي في م 357 ج ف.

واذا كان على الأم واجب الحضانة فإنها تمارس هذه الحضانة لمصلحة الأب الذي ينسب اليه الولد ومقابل انفاقه عليها، ويمكن أن تتنازل عنها بعد انتهاء العلاقة الزوجية.

إذن ألا يمكن القول بأن متابعة « الأم » جنائيا في القانون المغربي يبدو أساسها أكثر وضوحا في الاخلال بالتزاماتها ازاء زوجها، وليس في الاخلال بالتزامات الولاية الأبوية ؟ واذا كان الأمر كذلك فما الفرق بين وجود الأطفال وعدم وجودهم؟

2) إن الصلاحيات المطلقة التي يتمتع بها الزوج المغربي في اختيار منزل استقرار الأسرة، وتغييره، وفي توقيع الطلاق يجعل تطبيق الفصل 479 في الواقع العملي يكاد يكون قاصرا على المرأة دون الرجل، والمرأة تلتجىء الى مغادرة البيت الزوجي لأحد السببين لا يبدو لهما ثالث، وهما الفرار من الضرر الذي يلحقه بها الزوج والذي عجزت عن اثباته أمام القضاء لاستصدار حكم بالتطليق، والرغبة في انهاء العلاقة الزوجية لأسباب أخرى شخصية أو ترجع الى الحياة الزوجية ولكن لا تصل إلى الضرر المبرر للتطليق.

وفي كلا الحالتين هل المتابعة الجنائية هي الوسيلة الناجحة لاصلاح ما حدث ؟ للأسف لا تتوفر احصائيات عن مصير العلاقة الزوجية والوئام الأسروي في القضايا التي أدينت فيها المرأة بسبب امتناعها عن الرجوع الى بيت الزوجية، ومع ذلك يمكن أن نؤكد أن توقيع العقوبة الجنائية من النادر أن يعيد الوئام الى العلاقة الزوجية ويساعد على اسئناف الحياة الأسروية في وئام واطمئنان.

ومن أجل هذا نميل الى حل آخر غير الحل المستورد في الفصل 479، فمن ناحية ينبغي أن تعتمد المحكمة في دعاوى التطليق بسبب الضرر، وسائل اثبات أكثر جدية وواقعية، وفي مقدمتها البحث الميداني، بدل اللفيفيات التي يحسن اختلاقها الملدون الراغبون في تضليل العدالة، ومن ناحية ثانية يبدو من الأهمية بمكان التعرف أولا على أسباب الخلاف الناشئ بين الزوجين والذي أدى الى مغادرة أحدهما بيت الأسرة .

وبالتأكيد، أن أفضل وسيلة لذلك هي الحكمان الوارد النص عليهما في القرآن واللذان هما بمثابة محكمة عائلية أو شعبية لا تتقيد بشكليات القانون وتعقيداته التي تتميز بها المحكمة الرسمية، ويمكن اضافة أي تنظيم إلى الأحكام الفقهية في مؤسسة الحكمين، فالمهم هو ايجاد وسيلة قادرة على استقصاء حقيقة العلاقة القائمة بين الزوجين وهل في الامكان استمرارها أولا.

وفي الحالة الثانية يجب انهاؤها سواء كان سبب الخلاف خطأ مشتركا أو خطأ الزوج وحده أو خطأ الزوجة وحدها، نعم مع الزام المخطىء بأداء تعويض مناسب للطرف الآخر وتحمل التزامات أخرى كنفقة الأبناء مع الحرمان من حضانتهم .وفي هذا يقول ابن العربي المعافري :

فإن قيل اذا ظهر الظلم من الزوج أو الزوجة، فظهور الظلم لا ينافي النكاح، بل يؤخذ من الظالم حتى المظلوم ويبقى العقد، قلنا هذا نظر قاصر يتصور في عقود الأموال، فأما عقود الأبدان فلا تتم إلا بالاتفاق والتألف وحسن التعاشر، فاذا فقد ذلك لم يكن لبقاء العقد وجه وكانت المصلحة في الفرقة وبأي وجه رأياها (أي الحكمان) من المشاركة أو أخذ شيء من الزوج أو الزوجة.


  • تم اقتباس هذا المقال من كتاب أحمد الخمليشي، القانون الجنائي الخاص، الجزء الثاني.

Share this content:

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *