الصلح: المرجعية القانونية والجرائم التي يُطبق عليها
أولا // المرجعية القانونية لمسطرة الصلح :
اعتمدت العديد من التشريعات المقارنة مسطرة الصلح قبل المشرع المغربي منها التشريعات البلجيكية والأمريكية والمصرية والفرنسية. وهكذا عمد المشرع المصري، بمقتضى التعديل المدخل على قانون الإجراءات الجزائية لسنة 1998 على اعتماد مسطرة الصلح في الجنح والمخالفات المعاقب عليها بالغرامة فقط، أما في فرنسا، فقد تم تبني مسطرة الصلح وفق القانون الصادر في 23 يونيو 1999، حيث نصت المادة 41 في فقرتها الخامسة على ذلك.”
<< s’il lui apparaît qu’une telle mesure est susceptible d’assurer la réparation du dommage causé à la victime, de mettre fin au trouble résultant de l’infraction ou de contribuer au reclassement de l’auteur des faits, le procureur de le République peut, préalablement à sa décision sur l’action publique, directement ou par délégation:
5°- Faire procéder, avec l’accord des parties, a une mission de médiation entre l’auteur des faits et la victime… »
ويمكن القول أن المادة 41 من قانون المسطرة الجنائية المغربي مستلهمة بشكل كبير من أحكام المادة 41 من قانون المسطرة الجنائية الفرنسية. سواء من حيث الطابع الاختياري الذي يميز مسطرة الصلح، أو الدور الممنوح للنيابة العامة في تفعيلها، أو مصادقة المحكمة النهائية على مقررات الصلح، مع استثناء هام يتمثل في النص الفرنسي الذي يتيح لطرف أجنبي صلاحية مباشرة مسطرة الصلح، وهو ما لم يتم تبنيه في المادة 41 من قانون المسطرة الجنائية المغربي.. وهو ما لم تأخذ به المادة 41 قانون المسطرة الجنائية مغربي موضوع الدراسة.
وعموماً، تُعتبر مسطرة الصلح إحدى الآليات البديلة المستوحاة من الوساطة، التي أصبحت تحتل مكانة بارزة ومتزايدة الأهمية في تسوية النزاعات بشكل ودي وسريع.
توجد اليوم رؤية عالمية جديدة تهدف إلى تعزيز آليات بديلة لحل النزاعات خارج الإطار التقليدي للقضاء والمحاماة، مما يساهم في تخفيف العبء عن المحاكم وتحقيق العدالة بسرعة وكفاءة. وقد أثبتت هذه الميكانيزمات فعاليتها في العديد من الدول. وفي هذا السياق، دعا المؤتمر العاشر للأمم المتحدة المنعقد بفيينا سنة 2000 إلى اعتماد آليات العدالة التصالحية بين الأطراف. كما أن العديد من التشريعات المقارنة، التي أُشير إلى بعضها سابقاً، قامت بإدماج هذه المسطرة في قوانينها. فمنها من منح النيابة العامة صلاحية الإشراف على هذه الآليات، ومنها من أسندها إلى القضاء، في حين اختارت دول أخرى إسنادها إلى أطراف محايدين يتم اختيارهم وفق مساطر خاصة.”
ثانيا // الجرائم المشمولة بالصلح :
تقضي المادة 41 من قانون المسطرة الجنائية بإمكانية إجراء صلح على يد وكيل الملك قبل إقامة الدعوى العمومية، كلما تعلق الأمر بجنحة من الجنح المعاقب عليها بسنتين حبساً أو أقل أو بغرامة مالية لا يتجاوز حدها الأقصى 5000 درهم. ورغم أن النص لا يشير للحالة التي تكون فيها الجنحة معاقبا عليها بالحبس والغرامة معاً في حديهما المذكورين، فنرى أنها تكون قابلة لتطبيق مسطرة الصلح.
تتميز الجرائم المشمولة بأحكام المادة 41 من قانون المسطرة الجنائية في الغالب بطابعها البسيط وارتباطها الوثيق بالجوانب الاجتماعية والعائلية. وتشير الإحصائيات إلى أن هذه القضايا، مثل الضرب الخفيف، وإهمال الأسرة، والسرقة البسيطة، تحتل مكانة بارزة بين القضايا المعروضة حالياً أمام المحاكم.
و يتم الصلح إما باقتراح من الأطراف أو باقتراح من وكيل الملك:
1- إجراء الصلح باقتراح من الأطراف :
يمكن للمتضرر أو المشتكى به أن يطلب من وكيل الملك تضمين الصلح الحاصل بينهما في محضر. وفي حالة موافقة وكيل الملك وتراضي الطرفين، يحرر وكيل الملك محضراً بحضورهما وحضور دفاعهما، ما لم يتنازلا أو يتنازل أحدهما عن ذلك. ويتضمن المحضر ما اتفق عليه الطرفان.
كما يتضمن هذا المحضر إشعار وكيل الملك للطرفين أو لدفاعهما بتاريخ جلسة غرفة المشورة، ويوقعه وكيل الملك والطرفان ويحال محضر الصلح على رئيس المحكمة الابتدائية ليقوم هو أو من ينوب عنه بالتصديق عليه بحضور ممثل النيابة العامة والطرفين أو دفاعهما بغرفة المشورة، بمقتضى أمر قضائي لا يقبل أي طعن.
ويتضمن الأمر القضائي ما اتفق عليه الطرفان، وعند الاقتضاء ما يلي: أداء غرامة لا تتجاوز نصف الحد الأقصى للغرامة المقرر قانونا ؛ وتحديد أجل لتنفيذ الصلح. كما يتضمن هذا المحضر إشعار وكيل الملك للطرفين أو لدفاعهما بتاريخ جلسة غرفة المشورة، ويوقعه وكيل الملك والطرفان.
ويحال محضر الصلح على رئيس المحكمة الابتدائية ليقوم هو أو من ينوب عنه بالتصديق عليه بحضور ممثل النيابة العامة والطرفين أو دفاعهما بغرفة المشورة، بمقتضى أمر قضائي لا يقبل أي طعن.
2 – إجراء الصلح باقتراح من وكيل الملك :
إذا لم يحضر المتضرر أمام وكيل الملك، وتبين من وثائق الملف وجود تنازل مكتوب صادر عنه، أو في حالة عدم وجود مشتك، يمكن لوكيل الملك أن يقترح على المشتكى به أو المشتبه فيه صلحا يتمثل في أداء نصف الحد الأقصى للغرامة المقررة للجريمة، أو إصلاح الضرر الناتج عن أفعاله.
وفي حالة الموافقة يحرر وكيل الملك محضرا يتضمن ما تم الاتفاق عليه وإشعار المعني بالأمر أو دفاعه بتاريخ جلسة غرفة المشورة. ويوقع وكيل الملك والمعني بالأمر على المحضر الذي يحال على رئيس المحكمة الابتدائية للتصديق عليه، وفق الإجراءات المشار إليها أعلاه.
وتوقف مسطرة الصلح والأمر الذي يتخذه رئيس المحكمة في الحالتين المشار إليهما، إقامة الدعوى العمومية. ويمكن لوكيل الملك إقامة الدعوى العمومية في حالة عدم المصادقة على محضر الصلح، أو في حالة عدم تنفيذ الالتزامات التي صادق عليها رئيس المحكمة داخل الأجل المحدد، أو إذا ظهرت عناصر جديدة تمس الدعوى العمومية، ما لم تكن هذه الأخيرة قد تقادمت.
و هذه الإمكانية الجديدة أحدثها القانون لأول مرة بالتشريع الجنائي المغربي للحد من تراكم القضايا البسيطة الذي تعرفه المحاكم، وتخفيف المعاناة عن الضحايا من جراء انتظار البت النهائي في القضايا الذي قد يستغرق أحيانا وقتا طويلا. ويوفر الصلح حوافز لكل أطراف الخصومة الجنائية:
– فالمجتمع يساهم في سواد الود بين أفراده، مما يجنب العدالة الجنائية مشقة الانشغال بالبت في قضايا تكون بسيطة في البداية، فتترتب عنها مشاكل مستعصية كلما تعلق الأمر بخلافات بين الأقارب أو الجيران نتيجة لعوامل مختلفة كالثأر أو الانتقام مثلا.
– والضحية يستعيد اعتباره كعضو مؤثر في سير الخصومة الجنائية إذ لولا موافقته لما تم الصلح، الذي يؤدي إلى جبر خاطره، وتمكينه من حقوقه في وقت قياسي والمشتكى به يتجنب متاعب المحاكمة وتهديد الحكم وما يترتب عنه من آثار كالعقوبة وتضمين الحكم بالسجل العدلي.
ولذلك فإن دور وكيل الملك في إنجاح هذه المسطرة يعتبر دورا مؤثرا في إعادة الألفة لأفراد المجتمع ورأب الصدع الذي قد يحدث بين أفراده لأسباب تعتبر بسيطة.
ويمكن القول أن نجاح النيابة العامة في مهامها يقاس بمدى نجاحها في التعامل مع هذه المسطرة الجديدة وما تحققه من نسبة للتصالح.
ذلك أن المشرع الجنائي في العالم، أصبح يميل في السنوات الأخيرة نحو حل النزاعات الجنائية عبر وسائل بديلة لا تعتمد أسلوب الردع العقابي التقليدي، وإنما تستهدف إصلاح الضرر في إطار تحقيق نوع من التكافل الاجتماعي المبني على إحياء فضيلة الخير التي تختزنها النفس البشرية.
وتعتمد عدة تشريعات مساطر بديلة للمحاكمة الجنائية مثل الصلح والوساطة. وأحياناً يتم إخراج هذه المساطر البديلة من النظام القضائي التقليدي، وتناط بأفراد من المجتمع المدني لا يحترفون مهنة القضاء، وإنما هم وسطاء يعملون بخبرتهم وبما لديهم من سمعة في وسطهم الاجتماعي، على تقريب وجهات النظر بين الفرقاء، ويقودون مفاوضات تكون أحيانا شاقة للوصول إلى حلول ترضى كافة الأطراف،
فيقبلون بها عن طيب خاطر أو عن اقتناع بأنها أحسن الحلول الممكن الوصول إليها في وقت قياسي، مما يساعد على إنهاء النزاعات واقتلاع أسبابها من الجذور، خلافا للأحكام القضائية التي قليلا ما تقنع الطرف الخاسر، والذي قد يبقى في نفسه شيء من إرادة إثبات التفوق أو من الميول إلى الانتقام، مما يجعله يفكر في دعاوى أخرى على هامش النزاع الأصلي لتحقيق انتصارات يحلم بها في دخيلته.
Share this content: