محكمة النقض
وفقًا للمادة 89 من قانون التنظيم القضائي رقم 38.15، “يحدد اختصاص محكمة النقض بمقتضى قانون المسطرة المدنية وقانون المسطرة الجنائية أو نصوص قانونية أخرى عند الاقتضاء” . ومن خلال تحليل هذه المادة، يتضح بجلاء أن العمل يبقى ساريا بالمقتضيات المنصوص عليها في قانون المسطرة المدنية وفي قانون المسطرة الجنائية إلى جانب النصوص القانونية الأخرى ذات الصلة.
وفي هذا السياق، ينص الفصل 353 من قانون المسطرة المدنية على أنه: :
” ثبت محكمة النقض ما لم يصدر نص صريح بخلاف ذلك في:
1- الطعن بالنقض ضد الأحكام الانتهائية الصادرة عن جميع محاكم المملكة باستثناء الطلبات التي تقل قيمتها عن عشرين ألف (20.000) درهم والطلبات المتعلقة باستيفاء واجبات الكراء والتحملات الناتجة عنه أو مراجعة السومة الكرائية.
2- الطعون الرامية إلى إلغاء المقررات الصادرة عن السلطات الإدارية للشطط في استعمال السلطة.
7 – الطعون المقدمة ضد الأعمال والقرارات التي يتجاوز فيها القضاة سلطاتهم.
4- البت في تنازع الاختصاص بين محاكم لا توجد محكمة أعلى درجة مشتركة بينها غير محكمة النقض.
5 – مخاصمة القضاة والمحاكم غير محكمة النقض.
6- الإحالة من أجل التشكك المشروع
7- الإحالة من محكمة إلى أخرى من أجل الأمن العمومي أو لصالح حسن سير العدالة “.
إن أبرز اختصاص يميز محكمة النقض عن غيرها من المحاكم هو النظر في الأحكام الانتهائية الصادرة عن محاكم المملكة. وفي هذا السياق، يجب التمييز بين “الحكم الانتهائي” و”الحكم النهائي”. فالحكم الانتهائي هو الحكم الذي لا يقبل طرق الطعن العادية، مثل الاستئناف، والذي لا يزال الفصلان 18 و 21 يتناولانه بالتنظيم الصريح.
هذه الأحكام لا يمكن استئنافها، إلا أن صاحب المصلحة يظل بإمكانه الطعن فيها بطرق غير عادية، وعلى رأسها الطعن بالنقض أمام محكمة النقض. وقد حرص المشرع من خلال منع الطعن في الأحكام الانتهائية بالاستئناف على تقليل النفقات والتخفيف من العبء الكبير على محاكم الاستئناف، خاصة وأن هذه النزاعات غالبًا ما تكون ذات قيمة مالية صغيرة ولا تستدعي الجهد الكبير الذي يبذله القضاة في النظر فيها.
ويُلاحظ أن المشرع تدخل في ديسمبر 2005 ليؤكد أن الأحكام الصادرة عن جميع محاكم المملكة تخضع للطعن بالنقض. ومع ذلك، فقد وضع بعض الاستثناءات على هذه القاعدة، أبرزها القضايا التي لا تتجاوز قيمتها 20.000 درهم، بالإضافة إلى بعض القضايا الكرائية، حيث لا تخضع هذه الأنواع من القضايا لنفس القواعد المتعلقة بالطعن بالنقض.
أما الأحكام النهائية أو الباتة أو القطعية، فهي الأحكام التي استنفذت جميع طرق الطعن المقررة قانونًا، أو تلك التي رضي الطرف المحكوم عليه بها ولم يمارس الطعون المتاحة قانونًا داخل الآجال المحددة لذلك.
فإذا حكم على أحد المتقاضين ابتدائيًا بأداء دين عليه، ولم يقم بالاستئناف داخل الأجل المحدد قانونًا (وهو ثلاثون يومًا)، فإن الحكم الابتدائي يصبح نهائيًا، ولا يجوز الطعن فيه بعد ذلك. ففي هذه الحالة، يصبح الحكم عنوانًا للحقيقة القانونية ولا يمكن المساس به، ما لم يكن هناك استثناءات محددة نص عليها المشرع.
ويجب أن نشير أيضًا إلى أن محكمة النقض، عندما تنظر في القضايا التي يتم الطعن فيها أمامها، لا تتولى الفصل في الوقائع ولا تقوم بمراجعتها. بل يقتصر دورها على مراقبة محاكم الموضوع (المحاكم الدنيا) من حيث تطبيقها السليم للقواعد القانونية الواجبة، وذلك من خلال التأكد من أن الأحكام الصادرة عنها تتماشى مع مقتضيات القانون فحسب.
ولا يمكن الطعن في الأحكام بالنقض إلا للأسباب التي حددها الفصل 359 من قانون المسطرة المدنية، وهي كالتالي:
“1- خرق القانون الداخلي
2 – خرق قاعدة مسطرية أضر بأحد الاطراف
3- عدم الاختصاص
4- الشطط في استعمال السلطة
5- عدم ارتكاز الحكم على أساس قانوني أو انعدام التعليل “.
وفيما يتعلق بالمادة الإدارية، تقوم محكمة النقض بعدة أدوار، من بينها أنها تعتبر محكمة درجة أولى، حيث تبت ابتدائيًا وانتهائيًا في بعض القضايا، وذلك وفقًا للمادة التاسعة من قانون إحداث المحاكم الإدارية التي تنص على ما يلي:
“استثناء من أحكام المادة السابقة يظل المجلس الأعلى – محكمة النقض – مختصا بالبت ابتدائيا وانتهائيا في طلبات الإلغاء بسبب تجاوز السلطة المتعلقة بـ :
– المقررات التنظيمية والفردية الصادرة عن الوزير الأول.
وقد سبق لمحكمة النقض أن أصدرت قرارين أكدت فيهما على خصوصية تدخلها في الحالتين المشار إليهما أعلاه.
وقد سبق لمحكمة النقض أن أصدرت قرارين أكد من خلالهما على خصوصية تدخله في الحالتين المشار إليهما أعلاه.
بالنسبة للحالة الأولى المتعلقة باختصاص محكمة النقض بالبت في المقررات التنظيمية والفردية التي يصدرها الوزير الأول، فقد قرر المجلس الأعلى في قرار له ما يلي: “للإدارة الحق في إصدار قرار جديد يتوفر على الشروط المتطلبة قانونا محل قرار سابق ألغي من طرف القضاء الإداري، ذلك أنه لا يوجد ما يمنع الإدارة من تلافي الخلل الذي وقع في المقرر الذي ألغاه المجلس الأعلى لعيب في الشكل وإصدار مقرر جديد تتوفر فيه الشروط المحددة قانونا كما هو الوضع في النازلة عندما أصدرت الادارة مرسوما جديدا احترمت فيه الإجراءات القانونية في مجال نزع الملكية للمنفعة العامة”
أما فيما يتعلق بالحالة الثانية التي تتعلق بالقرارات الإدارية التي يتجاوز نطاق تنفيذها اختصاص محكمة إدارية واحدة، فقد جاء في قرار المحكمة المذكورة ما يلي: “احترام مبدأ المساواة بين الموظفين – العمل بمبدأ مساواة الموظفين أمام القانون وأمام الفرص المتاحة لترقيتهم – يفرض على الإدارة أن تستجيب لطلبات الطاعنين الذين يوجون في نفس الوضعية القانونية التي كان عليها أحد زملائهم ورفض إدماجهم في سلم واحد جميعا قرار يتسم بالتجاوز في استعمال السلطة…”
ويبقى التساؤل قائمًا في هذه النقطة حول تشكيلة محكمة النقض عندما تبت كمحكمة أول درجة: هل يتعين عليها احترام مقتضيات تكوين الغرفة المنصوص عليها في الفصل 371 من قانون المسطرة المدنية، أم يمكنها أن تبت بالتشكيلة الجماعية وفقًا لما هو معمول به في المحاكم الابتدائية أو في المحاكم الإدارية (أي بتشكيلة مكونة من ثلاثة قضاة)؟
نعتقد أنه يمكن لمحكمة النقض أن تفصل في الحالتين الواردتين في المادة التاسعة من قانون إحداث المحاكم الإدارية، وهي مكونة من ثلاثة قضاة فقط، وذلك لتجنب الخلط بين دورها كمحكمة نقض تراقب تطبيق القانون دون التعرض للوقائع، ودورها كمحكمة واقع تبت ابتدائيًا وانتهائيًا في الحالتين المذكورتين. ومن الأفضل أن يتدخل المشرع لحسم هذا الإشكال ويحدد بوضوح تركيبة المحكمة التي يجب أن تتألف منها محكمة النقض عند نظرها في القضايا كمحكمة أول درجة.
الوظيفة الأساسية والأبدية لمحكمة النقض :
تنص المادة 84 من قانون التنظيم القضائي 38.15 على ما يلي : ” تسهر محكمة النقض، باعتبارها أعلى هيئة قضائية بالمملكة، على مراقبة التطبيق السليم للقانون وتوحيد الاجتهاد القضائي”.
يبرز المشرع في هذه المادة الدور الأساسي والدائم لمحكمة النقض، باعتبارها أعلى سلطة قضائية تتصدر هرم التنظيم القضائي في المملكة المغربية. ويتجلى هذا الدور في ضمان التطبيق السليم للقانون والعمل على توحيد الاجتهادات القضائية.
أما بالنسبة لمراقبة التطبيق السليم للقانون، فإنه من المعروف أن عمل قضاة محاكم الموضوع يتداخل فيه الواقع مع القانون. وبالتالي، فإن استخلاص الوقائع وتحديد القاعدة القانونية الواجب تطبيقها يعني بالضرورة تمحيص هذه الوقائع بعناية وتطبيق الحكم القانوني المناسب عليها.
هذا القانون يتألف من مجموعة من القواعد التي تتميز بالعموم والتجريد، مما يعني أن الحكم الصادر في النزاع يفترض به أن يربط بين العناصر الواقعية المرتبطة بالقضية المعينة وبين الفرضيات التي تشتمل عليها تلك القواعد. وبالتالي، يجب على الحكم أن يعطي لهذه العناصر الوصف القانوني المناسب ويطبق عليها الأحكام التي تنص عليها تلك الفرضيات.
إن طبيعة العملية التي يقوم بها قضاة محاكم الموضوع عند إصدار الأحكام في القضايا المعروضة عليهم، والتي يتقاطع خلالها الواقع مع مضمون القاعدة القانونية، تجعلها عملية قانونية بامتياز. فهي تنطلق أساسًا من النص القانوني الذي يجب على القاضي فهمه وتفسيره بشكل صحيح، كي يتمكن من تحديد الافتراضات الواقعية التي ينظمها هذا النص. بعد ذلك، يقوم القاضي بمقارنة الواقع المعروض عليه مع الفرض الواقعي الذي تقرره القاعدة القانونية، ليصل إلى تطبيق الحكم المنصوص عليه في القانون إذا توافقت عناصر الواقع مع فرضية القاعدة، أو يبحث عن حكم آخر مناسب إذا لم يتطابق الواقع مع الفرض الواقعي للقاعدة.
ويترتب على ما سبق أن الخطأ في أي من هذه العمليات يُعد من صور مخالفة القانون، سواء كان ذلك ناتجًا عن الخطأ في تطبيقه في حالة لا ينطبق عليها، أو عن الامتناع عن تطبيقه في حالة ينطبق عليه. هذا الخطأ في تطبيق القانون، في حالتيه، هو ما أدى إلى نشوء العديد من النظريات الفقهية المتعلقة بالرقابة على محاكم الموضوع، حيث تباينت الآراء بين اتجاهين: أحدهما يضيق من نطاق هذه الرقابة، والآخر يوسعها.
هذه الرقابة التي يكون الغرض الأساسي من وراء إجرائها، الحرص على التطبيق السليم للقانون، بما يضمن تحقيق المساواة بين جميع المواطنين أمام القانون، ويسهم في استقرار المعاملات وأمن المجتمع من خلال إصدار أحكام قضائية عادلة تأخذ بعين الاعتبار الوقائع بشكل كامل وتطبيق النصوص القانونية المناسبة لحل النزاع المعروض. وبالتالي، تساهم هذه الرقابة في توحيد الاجتهاد القضائي في المحاكم المختلفة فيما يخص المسائل المشابهة المعروضة عليها، سواء كانت أحكامًا وقرارات قضائية صادرة عن محاكم الموضوع أو قرارات صادرة عن محكمة النقض نفسها.
Share this content: