مبدأ القضاء الفردي و القضاء الجماعي
القضاء الفردي والقضاء الجماعي
يعد مبدأ القضاء الفردي وتعدد القضاة من أكثر المبادئ التي عرف فيها المشرع المغربي تأرجحا وتقلبا على مر المراحل التشريعية المختلفة، حيث تتباين المقتضيات القانونية التي تنظمهما بناءً على طبيعة القضايا والاختصاصات المسندة لكل من القضاء الفردي والجماعي.
فتارة يجعل المشرع مبدأ القاضي الفرد هو القاعدة العامة، حيث يبت القاضي بمفرده في مجموعة من القضايا ذات الطبيعة البسيطة، وهو ما يتماشى مع مقتضيات سرعة البت وترشيد الموارد القضائية، كما هو الحال في العديد من القضايا الزجرية والمدنية المنصوص عليها في قوانين المسطرة المدنية والمسطرة الجنائية.
وفي المقابل، نجد أن المشرع في بعض الأحيان يجعل التشكيلة الجماعية للقضاة هي القاعدة العامة، لا سيما في القضايا ذات الطابع الجوهري والمعقد، مثل القضايا التجارية الكبرى، والقضايا الجنائية الخطيرة، وقضايا الأسرة التي تتطلب نوعا من التوازن بين الآراء القانونية المختلفة لضمان تحقيق العدالة.
ففي سنة 1974، ومع دخول التنظيم القضائي حيز التنفيذ، اعتمد المشرع المغربي مبدأ القاضي الفرد كالمبدأ الأصل المتبع في البت في القضايا أمام المحاكم الابتدائية. جاء هذا الاختيار التشريعي استجابةً لعدة اعتبارات، من بينها تبسيط المسطرة القضائية، وتقريب العدالة من المتقاضين، وضمان سرعة البت في النزاعات، لا سيما في القضايا التي لا تستلزم تعقيداً أو تعدداً في الآراء القضائية. وقد كان الهدف من هذا التوجه تحقيق نجاعة أكبر في العمل القضائي وتقليل التكاليف المترتبة عن الإجراءات الجماعية التي تتطلب حضور عدة قضاة وتنسيق آرائهم.
غير أن الانتقادات التي وجهت لمبدأ القاضي الفرد سيما احتمال وقوع القاضي الفرد في الخطأ إلى جانب تشعب بعض الملفات التي تستلزم أكثر من رأي فضلا عن وجود بعض الحالات التي قد يسجل فيها بعض الانحراف أثناء تفسير النصوص القانونية، أدت إلى العدول عن هذا المبدأ واعتماد مبدأ القضاء الجماعي الذي يجعل المحاكم الابتدائية لا تنظر في القضايا إلا بحضور ثلاثة قضاة وكاتب الضبط وممثل النيابة العامة عند الاقتضاء.
وفي 11 نونبر 2003 أصدر المشرع القانون رقم 15-03 الذي عاد إلى القضاء الفردي كقاعدة عامة، فقد نص الفصل 4 من ظهير التنظيم القضائي المعدل على ما يلي ” تعقد المحاكم الابتدائية جلساتها بحضور ثلاثة قضاة بمن فيهم الرئيس، وبمساعدة كاتب الضبط مع مراعاة الاختصاصات المخولة لرئيس المحكمة بمقتضى نصوص خاصة في الدعاوي الآتية:
دعاوي الأحوال الشخصية والميراث باستثناء النفقة. الدعاوي العقارية العينية والمختلطة.. دعاوى نزاعات الشغل….. تعقد هذه المحاكم جلساتها بقاض منفرد ومساعدة كاتب الضبط في باقي القضايا…”.
و سيرا على نفس التوجه، أكد الفصل 4 من القانون 34.10 الصادر في 17 غشت 2011 والمغير والمتمم لظهير 15 يوليوز 1974 على أنه : تعقد المحاكم الابتدائية بما فيها المصنفة جلساتها مع مراعاة المقتضيات المنصوص عليها في الفصل 5 بعده، وكذا الاختصاصات المخولة لرئيس المحكمة بمقتضى نصوص خاصة، بقاض منفرد وبمساعدة كاتب الضبط ما عدا الدعاوى العقارية العينية والمختلطة وقضايا الأسرة والميراث التي يبت فيها بحضور ثلاثة قضاة بمن فيهم الرئيس وبمساعدة كاتب الضبط …”.
انطلاقا من هذا النص يتبين أن التنظيم القضائي بالمغرب عاد إلى مبدأ القاضي الفرد كقاعدة لتشكيلة المحاكم الابتدائية نظرا للمزايا التي سبق ذكرها. أما القضايا التي تم إيرادها في الفصل الرابع أعلاه على سبيل الحصر، فيتبع فيها القضاء الجماعي.
وتكريسا لنفس التوجه العام المشار إليه في الفقرة أعلاه – مع مراعاة الاختلاف القائم بين مقتضيات كل نص من النصوص المذكورة طبعا والتي سنعود لبيانها لاحقا نصت المادة 51 من القانون 38.15 المتعلق بالتنظيم القضائي على ما يلي :
” مع مراعاة الاختصاصات المخولة لرئيس المحكمة الابتدائية بمقتضى قانون المسطرة المدنية وقانون المسطرة الجنائية أو نصوص قانونية خاصة، تعقد المحاكم الابتدائية، بما فيها المصنفة جلساتها بقاض منفرد وبمساعدة كاتب للضبط، عدا عند وجود نص قانوني خاص، أو في الحالات التالية التي يبت فيها بهيئة مؤلفة من ثلاثة قضاة بمن فيهم الرئيس وبمساعدة كاتب للضبط :
القضايا العينية العقارية والمختلطة – قضايا الأحوال الشخصية بما فيها قضايا الأسرة، باستثناء قضايا الطلاق الاتفاقي والنفقة وأجرة الحضانة والحق في زيارة المحضون والرجوع لبيت الزوجية وإعداد بيت الزوجية وقضايا الحالة المدنية – القضايا الجنحية التي تقرر فيها متابعة شخص في حالة اعتقال ولو توبع معه أشخاص في حالة سراح، وتبقى الهيئة الجماعية مختصة بالبت في القضية في حالة منح المحكمة السراح المؤقت للشخص المتابع – القضايا التجارية المسندة إلى القسم المتخصص في القضاء التجاري – القضايا الإدارية المسندة إلى القسم المتخصص في القضاء الإداري …”
ومن النتائج التي تترتب مسطريا على الأخذ بهذه القاعدة أو تلك، أن القاضي الذي يقوم بكافة الإجراءات والتحقيقات التي يستلزمها النزاع وتجهيز الملف تمهيدا للبت فيه، يعرف بالقاضي المكلف بالقضية، وهو الأمر الذي يجعل المشرع في قانون المسطرة المدنية كلما أراد تناول إجراءات الدعوى الخاصة بالمحاكم الابتدائية التمييز بين اصطلاحين القاضي المكلف بالقضية (القضاء الفردي) والقاضي المقرر (القضاء الجماعي). أما القاضي الذي يعهد إليه بتجهيز القضية متى تعلق الأمر بالتشكيلة الجماعية فيعرف بالقاضي المقرر.
وقد يعتقد أن التمييز بين الاصطلاحين المشار إليهما أعلاه لا يعدو كونه مسألة شكلية ولغوية. لكن الحقيقة خلاف ذلك. فالبون القائم بين الاصطلاحين كبير. فإذا كان القاضي المكلف بالقضية لا يقوم بتجهيز الملف فحسب، وإنما يبت أيضا في النزاع بعد حجزه للتأمل، فإن القاضي المقرر في التشكيلة الجماعية يقتصر دوره على القيام بإجراءات التحقيق الخاصة بالدعوى دون إمكانية بته وحده في النزاع، لأن الفصل بحكم يعود إلى الهيأة الجماعية التي تتداول قبل إصدار الحكم.
من ناحية ثانية يقوم القاضي المكلف بالقضية بحجزها للتأمل، وهذا يعني أنه يتأمل الوقائع والمجريات والوسائل التي تضمنتها الدعوى وذلك قبل أن يصدر الحكم المناسب للنزاع، أما القاضي المقرر فينتقل من ذلك القاضي الذي قام بكل الإجراءات التي تطلبتها الدعوى إلى عضو في الهيأة يشارك إلى جانب زملائه في المداولة تمهيدا لإصدار الحكم.
وتجدر الإشارة إلى أن التمييز بين القضاء الفردي وتعدد القضاة لا وجود له بالمحاكم الابتدائية وهي تبت كغرفة استئنافية وبمحاكم الاستئناف وبباقي المحاكم الأخرى شأن المحاكم الإدارية، والمحاكم التجارية، ومحاكم الاستئناف التجارية، ومحاكم الاستئناف الإدارية، لسبب مؤداه أن الأسلوب المعتمد بهذه المحاكم هو مبدأ تعدد القضاة وحده دون غيره .
ومما يمكن تسجيله أن ثمة تقاطعا بين مبدأ القاضي الفرد والمسطرة الشفوية وأحيانا وعدم تنصيب المحامي. وهذا على عكس القضاء الجماعي الذي ينسجم مع المسطرة الكتابية وانتداب محامي للقيام بالإجراءات هذا طبعا مع أن لكل مسألة مبدأها واستثناءاتها.
فقضايا النفقة مثلا تخضع للمسطرة الشفوية كاستثناء على المسطرة الكتابية المنصوص عليها في قانون المسطرة المدنية، وتعفى من تنصيب المحامي ابتدائيا وأمام محكمة الاستئناف، وطبعا تكون التشكيلة في البت فيها فردية. غير أنه كما قلنا ليس بالضرورة أن تتحقق كل هذه الأمور في القضايا التي أوردها الفصل 45 من قانون المسطرة المدنية.
وأيا كان الأمر، فالانسجام الذي قلنا أنه لا يتحقق بطريقة تلقائية وأوتوماتيكية بالنظر إلى عدم مراعاة المشرع لأهميته، يمكن بلوغه بإعادة النظر في عدد من الأحكام الواردة في العديد من القوانين التي لها علاقة بالقانون القضائي الخاص وباستحضار كل القوانين والنصوص التي تنظم مسألة واحدة حتى لا يقع التنازع والتضارب بين مختلف هذه النصوص وبالتالي التأثير على حقوق المتقاضين.
Share this content: