مبدأ التقاضي على درجتين

التقاضي على درجتين :

من المبادئ الأساسية التي تضمن حقوق الدفاع وتحفظ العدالة هي مبدأ التقاضي على درجتين، الذي يعتبر من الأسس الجوهرية لضمان حقوق الأفراد في الوصول إلى محاكمة عادلة. وفيما يتعلق بالقانون المغربي، يمكن التأكيد على أن المشرع المغربي أولى اهتمامًا بالغًا لهذا المبدأ في تشريعاته المختلفة. فقد حرص على ضمان احترام مبدأ التقاضي على درجتين في التنظيم القضائي الصادر في 15 يوليوز 1974 كما أرسى هذا المبدأ بشكل بارز في قانون المسطرة المدنية الذي صدر في 28 شتنبر 1974، وهو الأمر الذي تم تكريسه في القانون الجديد للتنظيم القضائي ولو أن المشرع راعى التوجه الجديد الذي تبنته مسودة مشروع قانون المسطرة المدنية للثامن من يناير 2022.

ويتضح من خلال التنظيم القضائي الجديد، أن المشرع قد حرص على ضمان مبدأ التقاضي على درجتين كإجراء أساسي يهدف إلى تحقيق العدالة وحماية حقوق الأطراف المتنازعة. ورغم هذا الالتزام المبدئي، فإن هناك استثناءات قد ترد على هذا المبدأ، وهي استثناءات تم تحديدها بشكل دقيق في المادة 54 من هذا التنظيم التي جاء فيها ما يلي :

تختص المحاكم الابتدائية بما فيها المصنفة، مع مراعاة مقتضيات المواد من 55 إلى 57 بعده، بالنظر في كل القضايا التي لم يسند الاختصاص بشأنها صراحة إلى جهة قضائية أخرى باعتبارها صاحبة الولاية العامة، وتصدر أحكامها ابتدائيا وانتهائيا أو ابتدائيا مع حفظ حق الاستئناف، طبقا لمقتضيات قانون المسطرة المدنية وقانون المسطرة الجنائية أو نصوص قانونية أخرى، عند الاقتضاء…

وبذلك، يؤكد المشرع المغربي من خلال التشريعات الحديثة على أن للمتقاضين الحق الثابت في رفع قضاياهم والدفاع عنها بكل حرية، سواء من حيث الواقع أو القانون، وبالاستناد إلى جميع الجوانب الشكلية والموضوعية للقضية. ويعتبر مبدأ التقاضي على درجتين من المبادئ الجوهرية التي تضمن للمتقاضين فرصة جديدة للطعن في الأحكام الصادرة ضدهم، مما يعزز من ضماناتهم في الوصول إلى العدالة.

وفي هذا الصدد، ينص التنظيم القضائي على أن الدرجة الأولى من التقاضي تتم أمام محاكم أول درجة، حيث يتم النظر في القضية والفصل فيها وفقًا للإجراءات القانونية المعمول بها. وفي حال لم يكن الحكم الصادر عن محكمة أول درجة نهائيًا، يحق للطرف الذي يشعر بالظلم أو الطعن في الحكم استئنافه أمام محاكم ثاني درجة. هذه المرحلة توفر فرصة جديدة للنظر في القضية من قبل قضاة آخرين، مما يسهم في تحسين فرص تحقيق العدالة بشكل كامل.

لكن، يُستثنى من هذا المبدأ الحالات التي يصدر فيها حكم نهائي غير قابل للاستئناف، وهو ما يعني أن الحكم الصادر في بعض القضايا قد يصبح باتًا ولا يمكن الطعن فيه، وذلك وفقًا للطبيعة الخاصة لتلك القضايا أو وفقًا لما ينص عليه القانون. رغم ذلك، فإن الأصل يبقى هو التمتع بالحق في الاستئناف والتمتع بحماية قانونية كاملة في جميع المراحل القضائية.

ورغم الإصلاحات التي شهدها النظام القضائي المغربي، لم يغير المشرع موقفه من احترام مبدأ التقاضي على درجتين، بل على العكس، عمل على تعزيز هذا المبدأ في سياق التغييرات القانونية التي طرأت على هيكلة المحاكم في المغرب. ففي 10 شتنبر 1993، تم إحداث المحاكم الإدارية، والتي كان الهدف من إنشائها ضمان العدالة الإدارية من خلال توفير محاكم مختصة للفصل في القضايا التي تتعلق بالنزاعات بين الأفراد والإدارة. ثم جاء إحداث المحاكم التجارية في 12 فبراير 1997، والتي كان الهدف منها توفير محاكم مختصة بالفصل في القضايا التجارية وحماية المصالح الاقتصادية والتجارية.

لكن الأهم من ذلك هو أن المشرع حرص على تكريس مبدأ التقاضي على درجتين في هذه المحاكم الجديدة. فقد تم إنشاء محاكم الاستئناف الإدارية ومحاكم الاستئناف التجارية لتكون بمثابة درجات ثانية للفصل في القضايا، وذلك في إطار ضمان الحقوق القانونية للأطراف المتقاضية. بهذه الطريقة، يبرز تمسك النظام القضائي المغربي بمبدأ التقاضي على درجتين كأحد الضمانات الأساسية لحصول المتقاضين على محاكمة عادلة، حيث يُمنح كل طرف الفرصة للطعن في الأحكام الصادرة عن المحاكم الابتدائية أمام محاكم أعلى.

ويقصد بمبدأ التقاضي على درجتين السماح لكل طرف من أن يعرض نزاعه وقضيته أمام محاكم الدرجة الأولى ( المحاكم الابتدائية، والمحاكم الإدارية، والمحاكم التجارية) قبل أن يسلك الطعن بالاستئناف كطريق طعن يعكس إمكانية التقاضي مرة أخرى ولنفس الأسباب ونفس الموضوع ونفس الأطراف أمام محاكم الدرجة الثانية (محاكم الاستئناف ومحاكم الاستئناف التجارية، ومحاكم الاستئناف الإدارية).

ومن النصوص الواردة في قانون المسطرة المدنية المؤيدة للمبدأ موضوع هذه النقطة الفصل 18 الذي جاء فيه أن المحاكم الابتدائية تختص بالنظر في القضايا التي أوكلها إليها المشرع ابتدائيا وانتهائيا أو ابتدائيا مع حفظ حق الاستئناف،

والفصل 19 الذي نص على أنه : تختص المحاكم الابتدائية ابتدائيا مع حفظ حق الاستئناف أمام غرف الاستئنافات بالمحاكم الابتدائية إلى غاية عشرين ألف درهم وابتدائيا مع حفظ حق الاستئناف أمام المحاكم الاستئنافية في جميع الطلبات التي تتجاوز عشرين ألف درهم.

وكما يلاحظ من خلال النصين المشار إليهما، يظهر أن القاعدة المعمول بها في القانون المغربي تتمثل في المحافظة على مبدأ التقاضي على درجتين وعدم سن أحكام مخالفة له إلا استثناء.

وبالفعل ففي جل القضايا، يجوز للمتقاضين ممارسة الاستئناف، أي الانتقال إلى عرض النزاع أمام جهة الدرجة الثانية (غرف الاستئنافات بالمحاكم الابتدائية أو محاكم الاستئناف) باستثناء ما ينص عليه الفصل 21 من قانون المسطرة المدنية بشأن القضايا الاجتماعية التي لم يطلها التعديل بشكل صريح.

أما القضايا التي جعلها المشرع تشذ عن القاعدة المذكورة، فقليلة بالنظر أولا إلى قيمتها الزهيدة التي لا تتجاوز المبلغ القيمي المحدد للقول بإمكانية الاستئناف، وثانيا على اعتبار أن النزاعات التي لا تتجاوز خمسة آلاف درهم لا تقبل أي طعن عاديا كان أو استثنائيا، وهي كما تنص على ذلك المادة 10 من قانون قضاء القرب الصادر في 17 غشت 2011 تدخل في المفهوم الواسع لاختصاص المحاكم الابتدائية.

وعلى مستوى المحاكم التجارية، وإلى حدود سنة 2002، تبنى المشرع المغربي في المادة السادسة لقانون إحداث هذه المحاكم نفس النهج في ما يتعلق بالتميز بين الاحكام التي تخضع للاستئناف، أي التي تعد تطبيقا لمبدأ التقاضي على درجتين، حيث يمكن استئناف القضايا التجارية التي لا تقل قيمتها عن تسعة آلاف درهم. وبين الأحكام الانتهائية التي لا تتجاوز قيمتها المبلغ المذكور.

غير أنه انطلاقا من سنة 2002، أدخل قانون المحاكم التجارية تعديلا مبدئيا مفاده تخويل كل الأحكام الصادرة عن المحاكم التجارية صبغة القابلية للاستئناف. ومن ثم يمكن الإقرار بأن المشرع المغربي تبنى مبدأ التقاضي على درجتين دون استثناء يرد على ذلك خلاف ما عليه الأمر بالنسبة للمحاكم الابتدائية كما مر بنا.

وتأكيدا لتبني نفس المبدأ الواقي لحقوق المتقاضين، كرس قانون المحاكم الإدارية رقم 41-90 الصادر في 10 شتنبر 1993 وبعده قانون محاكم الاستئناف الإدارية رقم 03-80 الصادر في 14 فبراير 2006 نفس المبدأ المشار إليه أعلاه، إذ تكون الأحكام الصادرة في المادة الإدارية قابلة للاستئناف أي أنها تعد مجالا لتطبيق مبدأ التقاضي على درجتين.

Share this content:

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *