قيود حق الملكية
أولا – قيود حق الملكية المقررة لرفع مضار الجوار :
قد ينتج عن استعمال المالك لعقاره ضرر بمن يجاور ذلك العقار، كأن يقيم المالك فوق أرضه معملا يؤذي جيرانه بالدخان ويقلق راحتهم بالضجيج ونحوه، وكأن يفتح في بنائه نوافذ تطل على جيرانه على غير ذلك.
وتعتبر الشريعة الإسلامية سباقة للقوانين المعاصرة في الحديث عن نظرية مضار الجوار التي تعتبر من أهم التطبيقات المرتبطة بالتعسف في استعمال الحق.
وقد اختلفت التشريعات المقارنة في تنظيمها لنظرية مضار الجوار مثلا بالنسبة للقانون المصري والليبي أدرجوا القيود المتعلقة بمضار الجوار ضمن النصوص المخصصة لحق الملكية، بينما سارت القوانين الأخرى كالقانون الفرنسي والسوري إلى إدراجها ضمن النصوص المخصصة للكلام عن حقوق الارتفاق على أساس أن هذه القيود هي من قبيل الارتفاقات القانونية.
وهو التوجه الذي سار فيه ظهير 19 رجب 1333 الملغى معتبرا أن القيود المتعلقة بمضار الجوار هي من قبيل الارتفاقات القانونية حيث نص الفصل 115 منه على أنه: ” يكلف القانون المالكين بالتزامات مختلفة بعضهم تجاه بعض بصرف النظر عن كل اتفاقية. وينظم البعض من هذه الالتزامات بالأعراف المحلية. والإرتفاقات الأخرى تتعلق بالجدار والحفر المشتركة والمطلات على ملك الجار وميزاب السقوف وحق المرور”.
ويرى الأستاذ مأمون الكزبري أن هذه القيود ليست من قبيل الارتفاقات، بل هي تشكل التزامات يخضع لها الملاك المجاورون بصورة متبادلة ومتساوية ينتفي معها وجود عقار خادم وعقار مخدوم كما يقتضيه مفهوم الارتفاق.
وبصدور مدونة الحقوق العينية فقد ميزت في القيود المتعلقة بمضار الجوار بين تلك المتعلقة بالحائط المشترك، والطريق الخاص المشترك فادرجتهم ضمن الأحكام المنظمة لحق الملكية، والقيود المتعلقة بحق المسيل أو الصرف أو فتح المطلات على أرض الجار حيث تم إدراجها ضمن الإرتفاقات القانونية.
وفي حقيقة الأمر فإن هذا التوجه الذي نهجته مدونة الحقوق العينية هو توجه صائب على اعتبار أن بعض القيود المتعلقة بمضار الجوار كالقيود المتعلقة بالمسيل أو الصرف، أو فتح المطلات على أرض الجار هي في حقيقتها من قبيل الإرتفاقات القانونية.
وعليه يمكن تلخيص القيود المتعلقة بمضار الجوار كما هي منظمة في مدونة الحقوق العينية على النحو التالي:
1 – الحائط المشترك ( المواد 28 إلى 31 من مدونة الحقوق العينية) :
– كل حائط يفصل بين عقارين يعد مشتركا بينهما إلى نهاية خط الاشتراك ما لم يقم الدليل على خلاف ذلك.
– يحق لكل شريك في الحائط المشترك أن يقيم بجانبه بناء أو يضع فوقه عوارض أو دعائم ولكن بالقدر الذي لشريكه بشرط ألا يحمله فوق طاقته وذلك مع مراعاة القوانين والأنظمة.
– تقع المصاريف الضرورية لإصلاح وتحديد الحائط المشترك على عاتق جميع الشركاء كل حسب حصته فيه.
– لا يجوز للشريك أن يتصرف في الحائط المشترك بإقامة منشآت أو بناءات إلا بموافقة شريكه وذلك مع مراعاة القوانين والأنظمة.
– يحق لكل شريك أن يعلي الحائط المشترك، غير انه يتحمل وحده نفقات التعلية وصيانة الجزء المعلى على ألا يلحق ذلك ضررا بجاره. وإذا لم يكن الحائط المشترك صالحا لتحمل التعلية فعلى من يرغب فيها من الشركاء أن يعيد بناءه كله على نفقته بشرط أن تقع زيادة سمكه في أرضه.
– لا يجوز للجار أن يجبر جاره على التنازل له عن حصته في الحائط المشترك غير أنه يمكن للجار الذي لم يساهم في نفقات التعلية أن يصبح شريكا في الجزء المعلي إذا دفع نصيبه في نفقات التعلية وفي قيمة الأرض التي تقع عليها زيادة السمك.
2 – الطريق الخاص المشترك ( المواد 32 إلى 36 من مدون الحقوق العينية) :
الطريق الخاص المشترك كالملك المشترك هو لمن لهم حق المرور فيه ولا يجوز لأحد الشركاء أن يحدث فيه شيئا سواء كان مضرا أو غير مضر إلا بإذن باقي شركاته.
– لا يجوز للشركاء في الطريق المشترك أن يطلبوا قسمته ولا أن يتفقوا على بيعه مستقلا وليس لهم أن يسدوا مدخله ما لم يقع الاستغناء عنه. كما لا يجوز لأحدهم التصرف في حصته في الطريق إلا تبعا لتصرفه في العقار المملوك له.
– إذا أغلق احد الشركاء في الطريق المشترك بابه المفتوح عليه فلا يسقط بذلك حقه في المرور فيه ويجوز له ولخلفه من بعده أن يعيد فتحه من جديد.
– لا يسوغ لغير الشركاء في الطريق المشترك فتح أبواب عليه أو المرور فيه، ومع ذلك يجوز للمارة في الطريق العام الدخول إلى الطريق الخاص المشترك عند الضرورة.
– يتحمل الشركاء المصاريف الضرورية لإصلاح وتعمير الطريق المشترك كل منهم بنسبة حصته فيه، وإذا رفض أحد الشركاء المساهمة في هذه المصاريف جاز لباقي الشركاء القيام بإصلاح الطريق ومطالبته قضائيا بأداء ما يجب عليه من هذه المصاريف.
3 – حق المسيل أو الصرف ( المواد 60 إلى 63 من مدونة الحقوق العينية) :
نظم المشرع المغربي الأحكام المتعلقة بحق المسيل أو الصرف في المواد من 60 إلى 63 من مدونة الحقوق العينية ضمن الإرتفاقات القانونية، كما أن هذا الحق نظمه قانون الماء رقم 95-10 من خلال المادة 29 منه والتي جاء فيها : “يمكن لكل مالك يريد القيام بإفراغ المياه المضرة بعقاره الحصول على ممر لهذه المياه عبر أراض وسيطة وفق نفس الشروط المحددة في المادة السابقة.
إلا أنه يمكن لملاك الأراضي التي يتم المرور عبرها الاستفادة من الأشغال المنجزة لهذا الغرض، وذلك لتمرير المياه من أراضيهم شريطة مساهمة مالية في الأشغال المنجزة أو التي بقي إنجازها وكذا صيانة المنشآت التي أصبحت مشتركة”.
ويمكن تلخيص الأحكام المتعلقة بحق المسيل أو الصرف كما هي واردة في مدونة الحقوق العينية فيما يلي:
– تتلقى الأراضي المنخفضة المياه السائلة سيلا طبيعيا من الأراضي التي تعلوها ، ولا يجوز لمالك الأرض المنخفضة أن يقيم سدا لمنع هذا السيل، كما لا يجوز لمالك الأرض العالية أن يقوم بما من شأنه أن يزيد في عبء الارتفاق الواقع على الأرض المنخفضة.
– لكل مالك الحق في استعمال مياه المطر التي تنزل في أرضه والتصرف فيها، وإذا كان استعمال تلك المياه والاتجاه المعطى لها يزيد عبء الإرتفاق الطبيعي لسيل المياه فإن لصاحب الأرض المنخفضة الحق في التعويض، وذلك مع مراعاة القوانين والأنظمة الجاري بها العمل.
– يجب على مالك الأرض إذا أراد إحداث أبنية عليها أن يقيم سطوحها وشرفاتها بشكل يسمح بمسيل مياه الأمطار ونحوها على أرضه لا على أرض جاره.
– لكل مالك عقار يريد تصريف المياه الزائدة عن حاجته أو غير الصالحة أن يحصل على ممر لها بعقار الغير نظير تعويض مناسب يدفع مقدما .
– يشترط تمرير الماء الزائد عن الحاجة في مكان لا يسبب للعقار المرتفق به إلا أقل ضرر كما يشترط تمرير الماء غير الصالح في مواسير بحيث لا تتسبب في أي ضرر للعقار المرتفق به.
وقد نصت الفقرة الأخيرة من المادة 63 من مدونة الحقوق العينية على أنه تسري على حق الصرف مقتضيات المواد من 56 إلى 59 المتعلقة بحق المجرى.
وفي حقيقة الأمر فإن حق المسيل أو الصرف ما هو إلا ارتفاقات ناشئة عن وضعية الأماكن كما كانت منظمة في الفصول من 110 إلى 112 من ظهير 19 رجب الملغى، فالفصل 110 من ظهير 19 رجب تقابله المادة 60 من مدونة الحقوق العينية مع اختلاف في المصطلح حيث استعمل ظهير 19 رجب مصطلح “الأراضي الواطئة” أما مدونة الحقوق العينية فقد استعملت مصطلح “الأراضي المنخفضة”.
كما أن المادة 111 تقابلها المادة 61 من مدونة الحقوق العينية غير أن المادة 61 قيدت سلطة المالك في استعمال مياه المطر والتصرف فيها بمراعاة القوانين والأنظمة الجاري بها العمل، وهو الأمر الذي لم ينص عليه الفصل 111 من ظهير 19 رجب كما أن المادة 62 من مدونة الحقوق العينية يقابلها الفصل 191 من ظهير 19 رجب المتعلق بسيل ميازيب السقوف.
فمدونة الحقوق العينية تعرضت للاحكام المتعلقة بحق المسيل أو الصرف حتى تكون أكثر ضبطا وتنظيما .
4 – غرس الأشجار بالقرب من حدود الجار ( المواد من 72 إلى 74 من مدونة الحقوق العينية) :
إذا كان حق الملكية يوفر لصاحبه سلطة الاستعمال والاستغلال والتصرف ومن ثم يكون له أن يغرس أرضه بما شاء من أغراس وأشجار فإنه يتعين عليه أن يتقيد بقيود تحد من الأضرار التي يمكن أن تلحق جاره من غرس هذه الأغراس والأشجار بالقرب من حدود أرض جاره، ويمكن تحديد هذه القيود انطلاقا من المواد من 72 إلى 74 من مدونة الحقوق العينية فيما يلي:
– على المالك أن لا يغرس أشجار أو شجيرات أو أغراسا على حدود أرضه إلا إذا راعى المسافة المقررة في الأنظمة.
– فإذا لم تكن هناك أنظمة تحدد المسافات، وجب عليه أن يغرسها بعيدا عن الحد الذي يفصل أرضه عن أرض جاره بمسافة لا تقل عن مترين اثنين إذا كانت المغروسات مما يفوق ارتفاعها مترين، وعن نصف متر إذا كانت مما دون ذلك.
– يمكن أن تغرس الأشجار والشجيرات والأغراس على جهتي الحائط الفاصل بين عقارين دون أن يكون من اللازم مراعاة أي مسافة غير أنه لا يجوز أن تعلو قمة الحائط.
– لا يجوز للجار أن يغرس أشجار بجوار بناء جاره إذا كانت هذه الأشجار تمتد جذورها، فإذا غرسها يحق لمالك هذا البناء المطالبة بقلعها.
– إذا امتدت أغصان الأشجار فوق أرض الجار فله أن يطالب بقلعها إلى الحد الذي تستوي فيه مع حدود أرضه وتكون له الثمار التي تسقط منها طبيعيا. كما يجوز لهذا الجار أن يقطعها بنفسه إذا خشي أن يصيبه ضرر من ذلك. ويسري نفس الحكم في حالة امتداد جذور الأشجار إلى أرض الجار
– إذا امتدت أغصان الأشجار أو جذورها على الطريق أو جنباتها جاز لكل ذي مصلحة المطالبة بقطعها.
وما يمكن قوله أن هذه الأحكام المتعلقة بغرس الأشجار بالقرب من حدود الجار أنها لا تختلف عن ما كان مضمنا في ظهير 19 رجب الملغى في الفصول من 133 إلى 135 من هذا الظهير كل ما استجد أن ظهير 19 رجب كان يدرج هذه القيود ضمن الإرتفاقات أما مدونة الحقوق العينية فأدرجتها ضمن التحملات العقارية.
5 – فتح المطلات على الأرض المجاورة ( المواد 66 إلى 68 من مدونة الحقوق العينية) :
تعتبر الشريعة الإسلامية سباقة لتنظيم الأحكام المتعلقة بفتح المطلات على الأرض المجاورة حيث تضمنت أحكام لرفع ما يمكن أن يقع بين الجيران من حزازات تنشأ عن مضار الجوار بسبب المطلات، فمنعت الجار من سد ضياء جاره كما منعته من إحداث نوافذ تطل على الأماكن المخصصة بطبيعتها لأن تكون مقرا للنساء.
وذلك على خلاف المشرع المغربي الذي اكتفى على غرار القانون المدني الفرنسي بإلزام صاحب المطل بالتقيد ببعض المسافات القانونية بالنسبة لأرض الجار، لكن المشرع المغربي زيادة في الحيطة وسع الحالات التي يجب أن تتوفر فيها شروط إضافية في المطلات من حيث بناؤها معتبرا أن ذلك مما يزيد في ضمان رفع الضرر عن الجار.
وقد نظم المشرع المغربي القيود المتعلقة بفتح المطلات على الأرض المجاورة في الفصول من 137 إلى 140 من ظهير 19 رجب الملغى أما مدونة الحقوق العينية فقد نظمتها في المواد من 66 إلى 68 من مدونة الحقوق العينية، وعموما فإنه حتى نقف على الأحكام المتعلقة بالمطلات لابد من التمييز بين فرضيتين:
أ – فرضية الحائط المشترك :
في هذه الحالة فإنه لا يحق للجار أن يحدث في الجدار المشترك أي نافذة أو فتحة بأي كيفية كانت إلا إذا وافق جاره على ذلك، أما إذا رفض هذا الأخير فلا سبيل لفتح المطل أبدا.
ب – فرضية الحائط غير المشترك :
عندما يكون الحائط المراد فتح مطل فيه غير مشترك، أي مملوك بصفة مستقلة لأحد الجيران ففي هذه الحالة فقد ميزت مدونة الحقوق العينية من خلال المادة 68 بين المطلات المقابلة والمطلات المنحرفة:
المطلات المقابلة هي التي تطل على عقار الجار مباشرة وبخط مستقيم، فهذه المطلات لا يمكن فتحها على أرض الجار سواء كانت مسورة أو غير مسورة ما لم يكن بين الحائط الذي يكون فيه المطل وبين تلك الأرض مسافة مترين.
وهذا ما نصت عليه الفقرة الأولى من المادة 68 من مدونة الحقوق العينية حيث جاء فيها ” لا يجوز فتح مطلات أو شرفات أو فتحات أخرى مماثلة مواجهة لملك الجار إلا على مسافة مترين …” وقد كانت هذه المسافة محددة في متر وتسمين سنتيمترا في ظهير 19 رجب الملغى ( الفقرة الأولى من الفصل 139).
المطلات المنحرفة هي التي لا تسمح بالنظر إلى عقار الجار إلا إذا انحنى المطل أو التفت يمينا أو يسارا، وهذه المطلات لا يمكن فتحها إلا على بعد متر تفصل الحائط المفتوح فيه المطل، والأرض المجاورة، وهذا ما نصت عليه المادة 68 من مدونة الحقوق العينية حيث منعت فتح مطلات جانبية أو منحرفة على ملك الجار إلا على بعد متر على خلاف ظهير 19 رجب الذي كان يحدد هذه المسافة في ستين سنتيمترا فقط ( الفقرة الثانية من الفصل 139).
وقد حددت الفقرة الأخيرة من المادة 68 كيفية حساب المسافة ونصت على أنه ” تحسب المسافات المذكورة من ظهر الحائط الذي فتحت فيه المطلات أو من خارج الشرفة، وذلك إلى غاية الخط الفاصل بين الملكين مع مراعاة النصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل”.
وقد أوجد المشرع استثناءات لمبدأ التقيد بالمسافات القانونية وهكذا نصت الفقرة الثانية من المادة 68 من مدونة الحقوق العينية على أنه لا يعمل بالمسافات المنصوص عليها في الفقرة الأولى من المادة 68 على المطلات والشرفات المفتوحة على الطريق العمومية.
6 – إقامة منشات مزعجة أو مضرة بالجيران :
لا يسوغ لمالك العقار أن يستعمله استعمالا مضرا بجاره ضررا بليغا (المادة 21 م نمدونة الحقوق العينية) وبالرجوع إلى الفصل 136 من ظهير 19 رجب 1333 الملغى نجده تضمن بعض الأمثلة عن المنشآت المزعجة أو المضرة بالجيران كحفر بئر أو مرحاض قرب جدار مشترك أو غير مشترك أو بناء مدخنة أو محل للحدادة أو فرنا أو مطبخا أو حظيرة للماشية أو مخزن للملح أو أكداسا من المواد الأكالة.
حيث نص الفصل 136 من ظهير 19 رجب الملغى على أنه على من يريد إنشاء إحدى هذه المنشآت أن يبتعد عن الجدار بالمقدار المقرر بالضوابط والأعراف الخاصة بهذه الأشياء أو أن يقيم المنشآت المقررة بنفس الضوابط والأعراف تفاديا للإضرار بالجار.
ويحق للجيران إذا كانت مثل هذه المنشآت تلحق بهم أضرارا تفوق الحدود المألوفة رغم التقيد بالمسافة القانونية أن يطالبوا قضائيا إما بإزالة هذه المنشآت أو بإدخال ما يلزم عليها من التغيير للقضاء على الأضرار التي يتظلمون منها وذلك عملا بالفصل 91 من قانون الالتزامات والعقود.
ثانيا – قيود حق الملكية المقررة لمنع الإساءة في استعمال الحق :
التعسف في اللغة هو اخذ الشيء على غير طريقته ومثله الاعتساف، وعسفه عسفا أخذه بقوة، وعسف في الأمر، فعله من غير روية ولا تدبر، واصطلاحا اختار البعض تعبير المضارة في استعمال الحق، وفي لغة القانون يعرف بأنه انحراف بالحق عن غايته أو استعمال الحق على وجه غير مشروع.
بموجب هذه النظرية – نظرية عدم التعسف في استعمال الحق- يجب على المالك أن يمارس حقه في الحدود المقررة بمقتضى القانون أو الاتفاق أو الأنظمة الجاري بها العمل، فإذا تعسف في استعمال حقه كان ذلك خطأ موجب لإثارة مسؤوليته.
ولقد كانت الشريعة الإسلامية سباقة إلى إقرار نظرية التعسف في استعمال الحق، وطبقتها على أوسع مدى في حقل الملكية العقارية، فهي لم تحصر إساءة استعمال الحق في الأعمال التي يجريها المالك قصد إيقاع الضرر بالغير، بل اعتبرت من قبيل إساءة الاستعمال للأعمال التي ينشأ عنها ضرر فاحش للجار حتى لو لم تكن مقترنة بأي قصد جرمي.
وقد أقرت معظم التشريعات المقارنة نظرية التعسف في استعمال الحق خاصة في مجال الملكية العقارية، حيث أضفت على حق الملكية صيغة اجتماعية يجب أن يمارس في إطار القيود المقررة عليها.
وهكذا نصت المادة 906 من القانون المدني الألماني على انه “لا يجبر المالك على أن يتحمل في ملكه الغازات والأبخرة والروائح والدخان والهبات والحرارة، والضوضاء والاهتزاز ونحوها إلا إذا كان الضرر الناشئ عنها تافها زهيدا أو إذا كانت ناتجة عن استعمال العقار، استعمالا عاديا حسب عرف المكان”.
وفي فرنسا رغم عدم وجود نص ينظم نظرية التعسف في استعمال الحق إلا أنه تم الاستعانة بالفقه والقضاء لإقرار هذه النظرية، وهكذا ذهب الاجتهاد القضائي الفرنسي إلى تطبيق هذه النظرية خاصة على الملكية العقارية بناء على مقتضيات الفصل 1382 من القانون المدني القائل بوجوب التعويض عن الضرر الناشئ عن فعل الغير.
كما حددت المادة الخامسة من القانون المدني المصري حالات التعسف في استعمال حق الملكية في صور ثلاث إذ تقول: “يكون استعمال الحق غير مشروع في الأحوال الآتية:– إذا لم يقصد به سوى الإضرار بالغير.– إذا كانت المصلحة التي يرمي إلى تحقيقها قليلة الأهمية بحيث لا تتناسب البتة مع مايصيب الغير من ضرر بسببها.– إذا كانت المصلحة التي يرمي إلى تحقيقها غير مشروعة”.
أما بالنسبة للتشريع المغربي فإنه بالرجوع إلى ظهير 19 رجب الملغى نجده لا ينص على هذه النظرية ذلك أن الفصل التاسع منه نص على ما يمنحه حق الملكية لصاحبه من سلطة الاستعمال والاستغلال والتصرف لكن في حدود القوانين والأنظمة، دون الإشارة بشكل صريح إلى هذه النظرية.
ومدونة الحقوق العينية لم تختلف عن ظهير 19 رجب كثيرا فهي لم تنص بشكل واضح وصريح على نظرية التعسف في استعمال الحق إلا أنه مع ذلك يمكن الاستناد إلى بعض النصوص المضمنة بمدونة الحقوق العينية لإقرار هذه النظرية وهكذا فإنه بالرجوع إلى المادتين 14 و 19 نجدهما تنصان على أن لصاحب حق الملكية سلطة استعماله واستغلاله والتصرف فيه لكن في حدود القانون أو الاتفاق أو الأنظمة الجاري بها العمل.
كما تنص المادة 20 من مدونة الحقوق العينية على انه لا يسوغ لمالك العقار أن يتصرف فيه تصرفا ضارا بحقوق الغير المتعلقة بذلك العقار، ونصت المادة 21 على أنه: ” لا يسوغ لمالك العقار أن يستعمله استعمالا مضرا بجاره ضرار بليغا”.
من خلال ما تقدم يمكن أن نقول بأن مدونة الحقوق العينية أقرت نظرية التعسف في استعمال الحق وإن كان ذلك بشكل غير صريح فإذا كان حق الملكية حقا مطلقا فهو مقيد بالقانون والاتفاق والأنظمة الجاري بها العمل، وبعدم الإضرار بحقوق الغير.
وبالرجوع إلى قانون الالتزامات والعقود نجد مجموعة من الفصول التي تقر نظرية التعسف في استعمال الحق ومنها الفصل 94 الذي ينص على انه : “لا محل للمسؤولية المدنية إذا فعل شخص بغير قصد الإضرار ما كان له الحق في فعله.غير انه إذا كان من شأن مباشرة هذا الحق أن تؤدي إلى إلحاق ضرر فادح بالغير وكان من الممكن تجنب هذا الضرر، أو إزالته من غير أذى جسيم لصاحب الحق، فإن المسؤولية المدنية تقوم إذا لم يجر الشخص ما كان يلزمه لمنعه أو إيقافه”.
بناء على هذا الفصل فإن ممارسة الحق في نطاقه ودون قصد الإضرار لا يوجب المسؤولية المدنية، أما إذا توافر قصد الإضرار فذلك تعسف في استعمال الحق يكون سببا لإقرار المسؤولية المدنية ولقيام التعويض، كما أن نفس الفصل يشترط لقيام التعسف أن يسبب صاحب الحق ضررا فادحا للغير عند استعماله لحقه.
كما نص الفصل 77 من قانون الالتزامات والعقود على أن كل عمل يرتكبه الإنسان…. ويكون من شانه أن يحدث ضررا للغير يلزم مرتكبه بتعويض هذا الضرر، وهذه القاعدة هي التي وردت في الفصل 1382 من القانون المدني الفرنسي والتي استند إليها القضاء في فرنسا لإقرار نظرية إساءة استعمال الحق.وبالرجوع إلى الفصل 91 من قانون الالتزامات والعقود نجده يمنح الحق للجار في أن يطلب من أصحاب المحلات المضرة بالصحة أو المقلقة للراحة، إما إزالة هذه المحلات، وإما إجراء ما يلزم فيها من التغيير للقضاء على الأضرار التي يتظلم منها وأوضح أن الترخيص الصادر عن السلطات المختصة لا يحول دون ذلك، لكن الضرر المطلوب إزالته هو الضرر المحقق وليس الضرر الاحتمالي.
ثم إن قراءة الفصل 92 من قانون الالتزامات والعقود بمفهوم المخالفة تبين أن المشرع المغربي منح للجار الحق في إلزام جاره بإزالة الضرر الذي يتجاوز الحد المألوف، أما إذا كان ناشئا عن الالتزامات العادية التي لا يمكن تجنبها، والتي لا تتجاوز الحد المألوف فلا يمكن المطالبة بإزالتها.
انطلاقا من هذه النصوص سواء الواردة في مدونة الحقوق العينية أو قانون الالتزامات والعقود يتبين أن المشرع المغربي اخذ هو الآخر بنظرية التعسف في استعمال الحق وطبقها على الملكية العقارية، على غرار ما ذهبت إليه التشريعات الحديثة، وكذلك الشريعة الإسلامية التي كانت سباقة إلى الأخذ بهذه النظرية.
ثالثا – قيود حق الملكية المقررة للمصلحة العامة :
حرية الفرد في التصرف في ملكه تنتهي عند تعارضها مع المصلحة الجماعية، حيث أن الدولة تتدخل لتوجه الحقوق مضمونا وشكلا في خدمة سياستها الاقتصادية والاجتماعية انطلاقا من مبدأ التضامن الاجتماعي، وترسم المجال الذي يمكن لإرادة صاحب الحق أن تعمل فيه، كما أن القاعدة الكلية تقول بوجوب عمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام.وعليه فالقيود المقررة في سبيل المصلحة العامة متعددة ومتنوعة منها:
1 – القانون المنظم للملك العائلي :
ظهير 24 صفر 1364 موافق 8 فبراير 1945، والذي كان الهدف من صدوره هو تحقيق مصلحة اجتماعية واقتصادية لبعض الفئات من أفراد المجتمع، حيث ألزم هذا القانون الفلاح المغربي بتعيين قطعة زراعية من أرضه تكون كافية لإعالته وعائلته ولا يجوز لمالكها التصرف فيها كما لا يجوز للغير تجريده منها، غير أن هذا القانون تم إلغائه بمقتضى ظهير 18 يوليوز 1995.2
2 – القيود التي تحد من سلطة المالك على علو أرضه :
منها القوانين المنظمة للملاحة الجوية التي تمنح الحق للطائرات والمركبات الهوائية بالطيران فوق الأملاك الخاصة وعدم معارضة المالك لها من المرور في الطبقة الجوية التي تعلو أرضه.
3 – القيود التي تحد من سلطة المالك على أعماق أرضه :
حيث لا يجوز له فتح المقالع أو التحري عن المناجم واستغلالها ومن التنقيب عن التحف والآثار، إلا ضمن شروط معينة، وقد سبق وان بحثنا هذا في إطار نطاق حق الملكية.
4 – القيود المتعلقة بنزع الملكية من أجل المنفعة العامة :
وفق الإجراءات والشروط المضمنة في قانون 6 ماي 1982 المتعلق بنزع الملكية من أجل المنفعة العامة.
5 – القيود الواردة في القانون رقم 12-190 المتعلق بالتعمير أو القانون رقم 25-90 المتعلق بالتجزئات العقارية والمجموعات السكنية وتقسيم العقارات :
ونمثل لبعضها بما يلي:
– نصت المواد 40-41-43 من القانون رقم 12-90 المتعلق بالتعمير على أنه يمنع القيام بالبناء أو إدخال التغييرات على المباني دون الحصول على رخصة بذلك، يسلمها رئيس المجلس الجماعي وذلك بعد التحقق من أن المبنى المزمع إقامته تتوفر فيه الشروط التي تفرضها الأحكام التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل، خصوصا الأحكام الواردة في تصاميم التنطيق وتصاميم التهيئة.
– لا يمكن للمالك أن يحدث تجزئات عقارية إلا بعد الحصول على إذن بذلك من رئيس مجلس الجماعة الحضرية أو القروية بناء على طلب من صاحب الشأن مصحوب بمجموعة من الوثائق المنصوص عليها في المادة 4 من القانون المتعلق بالتجزئات العقارية.
– نصت المادة الخامسة من القانون رقم 25-90 المتعلق بالتجزئات العقارية على أنه لا يمكن قبول طلب إحداث تجزئة عقارية إذا كانت الأرض المراد تجزئتها غير محفظة ولا بصدد التحفيظ، ولا يكون الطلب مقبولا إذا تعلق الأمر بالأرض بصدد التحفيظ إذا كان الأجل المحدد لتقديم التعرضات على التحفيظ قد انصرم دون تقديم أي تعرض على تحفيظ العقار المراد تجزئته.
رابعا – قيود حق الملكية ” القيود الاتفاقية” :
القيود الاتفاقية هي القيود التي تضعها الأطراف المتعاقدة في العقد وذلك بهدف تقييد حقوق المالك ومنعه من التصرف في عقاره، ويطلق الفقهاء على هذا النوع من القيود الاتفاقية “الشروط المصاحبة” ، كأن يبيع شخص عقارا له وينص في عقد البيع على شرط يمنع بموجبه المشتري من التنازل عن العقار لمصلحة الغير، فهل مثل هذه الشروط صحيحة، وهل يجوز تقييد حرية المالك في التصرف في عقاره عن طريق التعاقد ؟
إن القضاء والفقه في فرنسا وفي غياب نص في القانون المدني استقرا على اعتبار مثل هذه الشروط مقبولة، وهو التوجه نفسه الذي أقرته مجموعة من التشريعات الحديثة حيث نصت الفقرة الأولى من المادة 823 من القانون المدني المصري على انه “إذا تضمن العقد أو الوصية شرطا يقضي بمنع التصرف في مال، فلا يصح هذا الشرط ما لم يكن مبنيا على باعث مشروع، ومقصورا على مدة معقولة ….”
وهذه الفقرة هي نفسها الفقرة الأولى من الفصل 778 من القانون المدني السوري، وهو نفسه ما أقره قانون الموجبات والعقود اللبناني من خلال الفصل 227 والفصلان 505 و 506 حيث أقر صراحة القيود الاتفاقية شرط أن يكون في هذه القيود مصلحة لأحد المتعاقدين وأن يكون قيد عدم التصرف مؤقتا ومحددا بمدة.
أما القانون المغربي قبل صدور مدونة الحقوق العينية لم يتعرض للقيود الاتفاقية شأنه في ذلك شأن القانون الفرنسي، فلا وجود لأي نص صريح يجيزها سواء في قانون الالتزامات والعقود أو في ظهير 19 رجب الملغى، غير أن الفقه استند إلى مجموعة من النصوص للقول بأن المشرع المغربي أقر مبدأ صحة القيود الاتفاقية، منها الفصل 492 من قانون الالتزامات والعقود الذي ورد فيه “بمجرد تمام البيع، يسوغ للمشتري تفويت الشيء المبيع وذلك ما لم يتفق العاقدان على خلافه”.انطلاقا من هذا الفصل يتبين أن عقد البيع المتضمن قيدا يمنع المشتري من التصرف في الشيء المبيع، عقدا صحيحا مع صحة القيد.
كما أن هناك نصوص أخرى يستشف منها أن المشرع المغربي أقر مبدأ صحة القيود الاتفاقية كالفصل 285 من مدونة الأسرة الذي ينص على أنه ” يصح تعليق الوصية بالشرط وتقييدها به إن كان الشرط صحيحا، والشرط الصحيح ما كان فيه مصلحة للموصي أو للموصى له لغيرهما ولم يكن مخالفا للمقاصد الشرعية”.
فالشرط الذي يعتبر باطلا هو شرط منع التصرف المؤبد لأن فيه مخالفة للقواعد الشرعية أما شرط عدم التصرف الموقوف على مدة معينة فليس فيه أي مخالفة للقواعد الشرعية ومن تم يقع صحيحا كصحة العقد الذي بني عليه.
وهذا ما يمكن كذلك أن نستنتجه من الفصل 69 من ظهير 12 غشت 1913 المتعلق بالتحفيظ العقاري كما وقع تغييره وتتميمه بالقانون رقم 14-07، حيث أشار صراحة إلى القيد الذي يرد على الحق في التصرف في الحق العيني.
وبصدور مدونة الحقوق العينية يمكن القول أنها وضعت حدا لهذا الغموض التشريعي حول صحة القيود الاتفاقية وسايرت التشريعات الحديثة في إقرار هذه القيود من خلال المادة 14 التي نصت على أنه ” يخول حق الملكية مالك العقار دون غيره سلطة استعماله واستغلاله والتصرف فيه، ولا يقيده في ذلك إلا القانون أو الاتفاق وذلك شرط أن يكون القيد غير مخالف للقانون أو النظام العام وأن يكون مما يحقق المنفعة المشروعة لأحد المتعاقدين أو للغير مع اقتصار القيد على مدة معقولة”.
تم اقتباس هذا المقال من عدة مراجع قانونية، منها:
- مامون الكزبري: التحفيظ العقاري والحقوق العينية الأصلية والتبعية في ضوء التشريع المغربي الجزء الثاني شركة الهلال العربية للطباعة والنشر الرباط، الطبعة الثانية 1987.
- محي الدين إسماعيل علم الدين: الحقوق العينية، دار الجيل للطباعة، 1977.
- عبد الحي حجازي: الوظيفة الاجتماعية للملكية الخاصة.
- محمد الكشبور: نزع الملكية من أجل المنفعة العامة، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الأولى 1989.
- وفاء الأندلسي: التجزئات العقارية ودورها في حل أزمة السكن أطروحة لنيل. الدكتوراه في القانون الخاص، وحدة التكوين والبحث في قانون العقود والعقار، كلية الحقوق جامعة محمد الأول بوجدة، السنة الجامعية 2010/2009.
- عبد الخالق أحمدون: الوجيز في الملكية العقارية والضمانات العينية في ضوء مشروع القانون رقم 19.01 والتشريعات المقارنة الجزء الأول، مطبعة طوب بريس بالرباط، طبعة 2007 .
- إدريس الفاخوري: الحقوق العينية وفق القانون رقم 39.08.
Share this content: