تعريف الدستور وتحديد أنواعه ومضامينه
أولا – تعريف الدستور :
قبل استعراض تعريف الدستور وتحديد المعايير المتبعة في ذلك، نشير أولا إلى أن كلمة” الدستور” ليست عربية الأصل، وإنما هي كلمة فارسية مركبة من “دست” وتعني القاعدة، ومن كلمة “ور” بمعنى صاحب، فيكون معناها صاحب القاعدة، كما تعني في مجموعها أيضا القاعدة يعمل بمقتضاها، أو الدفتر الذي تجمع فيه قوانين الملك وضوابطه.
وتعني كلمة دستور Constitution في اللغة الفرنسية التأسيس أو التكوين Etablissement أو النظام Institution ، ولا يخرج المعنى المقصود بكلمة دستور في اللغة العربية عن ذلك، رغم أن الكلمة ليست عربية الأصل ، وإنما هي كلمة فارسية الأصل، ويرجح أن تكون قد دخلت إلى اللغة العربية عن طريق اللغة التركية، وللدستور مدلولان أو مفهومان، قانوني وسياسي ، ويعتمد في تعريفه على معيارين أساسين شكلي ومادي أو موضوعي .
1 – المفهومان السياسي والقانوني للدستور :
أ – المفهوم السياسي للدستور :
يسمى أيضا بالمفهوم الإيديولوجي، وفي إطاره يجسد الدستور الشرعية الديمقراطية التي هي تعبير عن الإرادة العامة، ويصهر المجتمع السياسي، كما يضمن وحدته وديمومته ، ويستمد هذا المفهوم جذوره من المادة 16 من الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن لسنة 1789 ، والتي تنص على أن كل مجتمع لا يضمن الحقوق ولا يقر فصل السلط ليس له دستور وطبقا لهذا الإعلان الصادر عقب الثورة الفرنسية، فإن الدستور يرتبط في المفهوم الإيديولوجي للثورة، بالنظام السياسي الذي يضمن الحريات الفردية ويقيد سلطة الحاكمين، والدستور طبقا لهذا المفهوم أيضا هو القناة التي تمر منها السلطة من مالكيها، أي الدولة، إلى خدامها، أي الحاكمين .
وقد انتقد هذا المفهوم الذي أعطي للدستور وذلك لكونه يفضل نوعا معينا من الأنظمة السياسية وهوالنظام الليبرالي على غيره، كما انتقد لكونه يشكل مفهوما سياسيا أكثر منه قانونيا لأنه حتى الدول المستبدة والدكتاتورية يمكن أن تتوفر على دستور، ولهذا تم هجر هذا المفهوم لصالح مفهوم قانوني أكثر تجردا ، وتم الاحتفاظ في إطار المفهوم السياسي فقط بمصطلح النظام الدستوري الذي يعني حكما مقيد الصلاحيات.
ب – المفهوم القانوني للدستور :
يعتبر الدستور في المفهوم القانوني، مجموعة من القواعد القانونية التي تحدد طبيعة النظام السياسي في الدولة و والتي تحدد شكلها ( بسيطة أم مركبة) وشكل الحكم فيها ( ملكي أو جمهوري) ونوع النظام السياسي (رئاسي أم برلماني) كما أنها تحدد كيفية توزيع الاختصاصات بين السلطة التشريعية والتنفيذية، وطرق الوصول الى الحكم ( الانتخاب، الوراثة، التعيين) والحريات العامة المكفولة للمواطنين ( حرية التعبير، حق الانتخاب) وعلاقة الدولة بالدين (دولة لها دين رسمي أو دولة علمانية تفصل الدين عن الدولة).
فالدستور طبقا لهذا المفهوم يتولى تنظيم السلطات العامة في الدولة ويحدد اختصاصاتها والعلاقات التي تربط فيما بينها، كما يتولى تحديد حقوق وحريات المواطنات والمواطنين وواجباتهم.
ويعد المفهوم القانوني للدستور أكثر اتساعا وشمولا من سابقه، حيث أن الدستور طبقا لهذا المفهوم القانوني يشمل مجموع القواعد التي تنظم الدولة بخطوطها الرئيسية وحياة الجماعة البشرية ، لهذا ففي المفهوم القانوني الواسع والحديث، فإن القواعد القانونية الأساسية المشكلة للدستور لا تنحصر في الوثيقة الدستورية المدونة بل إنها توجد في الأعراف الدستورية والقوانين التنظيمية والقوانين الداخلية للبرلمانات والممارسات الدستورية التي تغني الدستور وتفسره أو تعد جزءا لا يتجزأ منه.
2 – المفهوم الشكلي والمادي للدستور :
كلمة دستور تفيد البناء والتأسيس، أي التنظيم القانوني الأساسي، كما يطلق على الدستور قانون القوانين تمييزا له عن التشريعات والقوانين العادية التي تصدرها السلطة التشريعية في مجالات الحياة اليومية العادية المتجددة، وتعريف الدستور وتحديد محتواه، اعتمد الفقهاء معايير مختلفة، فمنهم من اعتمد المعيار الشكلي في تعريف الدستور ، ومنهم من اعتمد المعيار الموضوعي أوالمادي.
أ – التعريف الشكلي للدستور :
يعتمد أنصار التعريف الشكلي للدستور، على معيار شكل الوثيقة الدستورية، بمعنى شكلها الخارجي مع ما يتضمنه بداخله من مقتضيات وأحكام ولهذا يعرفون الدستور بأنه مجموعة القواعد القانونية التي تتولى وضعها هيئة خاصة تسمى السلطة المؤسسة يختلف تكوينها باختلاف الدساتير، وتتبع في سنها وتعديلها وإلغائها إجراءات خاصة تختلف عن الإجراءات المتبعة في وضع وإلغاء القوانين العادية وعلى هذا الأساس أيضا يعتبر القانون الدستوري بأنه الدستور المطبق فعلا في وقت معين وفي بلد معين، والمنصوص عليه في وثيقة رسمية تسمى” الدستور “.
وإذا كان المعيار الشكلي يحصر مفهوم الدستور ومضمونه فيما تحتويه الوثيقة الدستورية فقط مع ما يترتب عن ذلك من سمو وعلو مقتضيات الدستور على غيرها من المقتضيات القانونية الأخرى فإن هذا المعيار وجهت له عدة انتقادات، منها:
-أن هذا التعريف حصر القانون الدستوري في القواعد الواردة في الوثيقة الدستورية المكتوبة، يؤدي إلى القول بأن قبل حركة تدوين الدساتير لم تكن هناك قواعد دستورية وهذا يؤدي إلى انكار صفة القواعد الدستورية عن الدول ذات الدساتير المكتوبة المرنة التي تجيز للسلطة التشريعية فيها تعديل نصوص الدستور وفق إجراءات سن وتعديل القوانين العادية.
-ان هذا التعريف وسع من مفهوم الدستور، حيث أضفى الطبيعة الدستورية على مجموعة من القواعد القانونية الواردة في الدستور وإن كانت لا ترتبط بممارسة الحكم في الدولة أو بالعلاقة بين السلط وبحقوق الأفراد وحرياتهم مثل القواعد المتعلقة بذبح الحيوانات (المنصوص عليها في الدستورالسويسري.)
-إن اعتماد المعيار الشكلي في تعريف الدستور، ينفي إمكانية وجود دساتير في الدول ذات الدساتير العرفية، لأن غياب الوثيقة المكتوبة لا يعني إنعدام الدستور، كما أن وجودها لا يعني أنها شاملة لكلما يتعلق بتنظيم السلطاتة.
– إن اعتماد هذا المعيار يؤدي إلى نفي وجود دساتير في الدول ذات الدساتير المرنة التي لا يشترط ضرورة اتباع إجراءات خاصة لتعديلها، وهذا الأمر غير صحيح.
كل هذه الانتقادات تجعل التعريف الشكلي للدستور غارق في الشكلية مما يتعذر معه تطبيقه من الوجهتين القانونية والسياسية، وبالتالي ضرورة الأخذ بتعريف أكثر شمولية مما دعى إليه أنصار هذا التعريف.
ب – التعريف المادي للدستور :
يركز أنصار المعيار المادي في تعريف الدستور، على مضمون أو محتوى أو جوهر أو مادة القواعد التي يتناولها، فالشكل ليس هو المحدد للقانون الدستوري وإنما هو الموضوع والجوهر فالموضوعات المتعلقة بنظام الحكم تعتبر دستورية ومن اختصاص القانون الدستوري سواء وردت في الوثيقة أم لم ترد فيها.
وعلى هذا الأساس، فالدستور يشمل كل القواعد القانونية التي لها طبيعة دستورية سواء وردت في صلب الوثيقة الدستورية، أو في قوانين تنظيمية أو عادية، أو تقررت أحكامها بمقتضى عرف دستوري.
ويمكن تعريف الدستور من الجانب المادي ( الموضوعي)، بأنه ” مجموعة القواعد القانونية المتعلقة بتنظيم الدولة ومباشرة السلطة السياسية وممارستها وكيفية إنتقالها” ، فالدستور من الناحية الموضوعية يتعلق بالجوهر أكثر من إهتمامه بمضمونه وشكله، وقد يتعدى نطاقه إلى مواضيع غير واردة فيه.
وتبعا لهذا المعيار أيضا يمكن تعريف الدستور بأنه مجموع القواعد التي تنظم شكل الدولة ونظام الحكم وطبيعة العلاقة بين السلطات واختصاصاتها والقواعد التي تضمن حقوق الأفراد وحرياتهم بصرف النظر عن تضمينها في وثيقة أم غيرها”.
وطبقا للمعيار الموضوعي في تعريف الدستور، يمكن القول بأن جميع الدول تتوفر على دستور، لأن غياب الدستور المكتوب لا يعني انعدام أو غياب الدستور بالكل.
ومن إيجابيات هذا التعريف، هو أنه يعتبر كل القواعد المتعلقة بنظام الحكم في الدولة أو بالسلطات العامة فيها أو بحقوق الأفراد وحرياتهم، قواعد دستورية بغض النظر عن ورودها في الدستور أم لا، ومن جهة أخرى فإن هذا التعريف ينفي الطبيعة الدستورية عن مجموعة من القواعد على الرغم من ورودها في الدستور، ولا يعتبرها من مواضيع القانون الدستوري.
ثانيا – أنواع الدساتير :
يتم التمييز بين أنواع الدساتير إما من حيث الشكل أي مصدر القواعد الدستورية وإما من حيث طريقة وكيفية تعديلها، فإذا كان هذا المصدر هو النصوص المكتوبة وصف الدستور بانه دستور مكتوب وإذا كان مصدرها هو العرف وصف الدستور بأنه دستور عرفي.
1 – الدساتير المدونة والدساتير العرفية :
يرجع أساس التمييز بين الدستور المدون والدستور العرفي، الى مصدر القواعد القانونية الواردة في الدستور، فإذا كان هذا المصدر مكتوبا نكون أمام دستور مكتوب ، وإذا كان المصدر غير مكتوب أو غير مدون نكون أمام دستور عرفي.
أ – الدساتير المدونة :
الدساتير المدونة أو المكتوبة هي تلك التي يضع أحكامها المشرع الدستوري، وتسجل أحكامها وقواعدها في وثيقة رسمية واحدة أو في عدة وثائق ، ويعتبر دستور الولايات المتحدة الأمريكية الصادر سنة 1776 أول دستور مكتوب في العالم، يليه دستور الثورة الفرنسية الصادر سنة 1791 ، وبعد ذلك عمت فكرة الدساتير المكتوبة جل دول العالم، ويرجع السبب في انتشار الدساتير المكتوبة إلى انتشار الفكر الديمقراطي والحركات التحريرية وتقرير مبدأ السيادة الشعبية بهدف الحد من السلطات المطلقة للملوك.
ومن أهم إيجابيات تدوين الدساتير، سهولة الرجوع إلى أحكامها ومقتضياتها، زيادة على تحقيق الثبات والاستقرار لمقتضيات الدستور، وجعل هذه المقتضيات تتمتع بقيمة قانونية تسمو وتعلو على سائر القواعد القانونية الأخرى في الدولة، ويعد الدستور المكتوب أيضا من أهم ضمانات حماية حقوق الأفراد وحرياتهم، كما يعد من أهم معايير الدولة القانونية مع الأخذ طبعا بعين الاعتبار الطريقة وضعه.
وتدوين الدساتير، يضفي على أحكامها أيضا نوعا كبيرا من الوضوح والثبات، ويجعلها في مأمن من تدخل المشرع العادي الذي لا يمكنه المساس بمقتضياتها، حيث أن كل تعديل أو مراجعة لمقتضيات الدساتير المدونة يجب أن يتم بمقتضى الطريقة والإجراءات الخاصة المنصوص عليها في هذه الدساتير.
غير أن تدوين الدستور لا يعني عدم إمكانية وجود قواعد عرفية دستورية إلى جانب الدستور المكتوب، حيث يلعب العرف الدستوري دورا كبيرا إلى جانب الدستور المكتوب في جل الأنظمة الدستورية المعاصرة.
ب – الدساتير العرفية:
الدستور العرفي هو ذلك الذي يستمد أحكامه من غير طريق التشريع، أي ذلك الذي تتكون أحكامه وقواعده عن طريق العرف الذي ينشأ تلقائيا دون تدخل من المشرع الوضعي من أجل معالجة أمور ومسائل تتعلق بنظام الحكم في الدولة.
يجب عدم الخلط بين مفهومي العرف الدستوري والدستور العرفي، فالدستور العرفي هو مجموعة من القواعد والأحكام الدستورية التي توجد في إطار دولة لا تتوفر على دستور مكتوب كالدستور الإنجليزي مثلا.
أما العرف الدستوري فيراد به مجموع القواعد الدستورية العرفية التي توجد إلى جانب القواعد الدستورية المكتوبة في إطار دولة لها دستور مكتوب ويجب أن تتوفر في العرف الدستوري مجموعة من الشروط والأركان أهمها الركن المادي بما يقتضيه من شروط مثل التكرار والعمومية والثبات والمدة الوضوح،
ثم الركن المعنوي الذي يعني الإيمان بإلزامية العرف الدستوري وبترتيب الجزاء عن كل مخالفة لمقتضياته وقد يكون العرف الدستوري، إما عرفا مفسرا، أو مكملا، أو منشئا أومعدلا، وهناك نقاش قانوني وفقهي كبير بخصوص العرف الدستوري.
ويعد الدستور الإنجليزي أبرز مثال للدستور العرفي، غير أن وجود دستور عرفي في إطار دولة ما لا يحول دون إمكانية وجود بعض القواعد والأحكام الدستورية المكتوبة والمقننة بمقتضى قوانين دستورية مكتوبة كما لا يحول الدستور العرفي دون إمكانية تدوين وكتابة مجموعة من القواعد العرفية الدستورية، هذا مع العلم بأن تدوين تلك القواعد لا يسبغ عليها صفة الدستور المكتوب.
ويعتبر هذا التقسيم بين أنواع الدساتير المبني على شكلها أو مصدرها، تقسيما نسبيا، غير مطلق مبني على الأغلب الأعم من القواعد الدستورية في بلد من البلدان فمن ناحية، إن وصف دستور دولة ما بأنه” عرفي” لا يمنع من وجود بعض القواعد الدستورية المدونة في وثيقة مكتوبة واحدة أو وثائق متعددة كما أن الدستور ” المكتوب” لا يتناقض مع وجود قواعد دستورية نشأت عن العرف إلى جانب النصوص المكتوبة، تسد ثغراتها وتضيف إلى أحكامها.
ويؤكد الفقه على دور العرف في دول الدساتير المكتوبة حيث أنه “أي العرف” من شأنه أن يخفف من جمود الدستور ويجعله متلائما مع ما يحدث من تطورات اجتماعية وسياسية واقتصادية ، ولهذا فهذا التقسيم في واقع الأمر وحقيقة الحال قد فقد أهميته نتيجة أخذ جل الدول بفكرة الدساتير المكتوبة، تكاد تكون إنجلترا هي المثل الوحيد للدستور غير المدون، هذا مع العلم بأنها تتوفر على مجموعة من القواعد الدستورية المكتوبة.
2 – الدساتير المرنة والدساتير الجامدة :
يتأسس هذا التقسيم على أساس طريقة أو أسلوب تعديل الدساتير، فإذا كانت تتطلب إجراءات خاصة لتعديلها، فهي تعد دساتير جامدة، وإذا كانت لم تتطلب أية إجراءات خاصة في ذلك فهي دساتير مرنة، وتتجلى قيمة وأهمية هذا التقسيم في مجال الرقابة على دستورية القوانين.
أ – الدساتير المرنة :
يعرف الدستور المرن بأنه ذلك الدستور الذي يمكن تعديله ومراجعته دون اتباع إجراءات خاصة مختلفة عن تلك التي تتبع في حالة القوانين العادية، وبعبارة أخرى الدستور المرن هو ذلك الدستور الذي يمكن للبرلمان تعديله بنفس الإجراءات التي يعدل بها التشريعات العادية التي يصدرها ، وكنتيجة لذلك فقواعد الدستور توجد في نفس المرتبة القانونية إلى جانب القانون العادي فلا فرق بينهما من حيث القيمة القانونية.
ويعتبر الدستور الإنجليزي من أهم أمثلة الدساتير المرنة في العصر الحديث، حيث أن البرلمان الإنجليزي يستطيع أن يغير قواعد الدستور بنفس الطريقة التي يعدل بها القوانين العادية، غير أن ما يجب الانتباه إليه هو أنه ليس هناك أي تلازم حتمي بين الدساتير العرفية والدساتير المرنة، فليست كل الدساتير العرفية، دساتير مرنة.
كما أن التفريق والتمييز بين الدساتير الجامدة (الصلبة) والدساتير المرنة ، يستتبع التذكير بأن التمييز بين القوانين العادية والقوانين الدستورية، لا يتحقق إلا بالنسبة للدساتير الصلبة، أما في الدول ذات الدساتير المرنة فإن هذه التفرقة ليست لها أية قيمة قانونية، كما أن هذا التفريق لا يتخذ أساسا له موضوع أو محتوى القاعدة القانونية، بل الشكل الذي وضعت به والذي ستعدل على أساسه.
وبصفة عامة فالدول ذات الدساتير المرنة هي التي لا تقيم أي ترتيب هرمي وتسلسلي بين القواعد القانونية الدستورية والقواعد القانونية العادية، بل تجعلهما في نفس المرتبة ويتمتعان بنفس القيمة القانونية، ويعدلان بنفس الإجراءات والشروط، وفي إطار هذه الدول لا تطرح مسألة مراقبة مدى دستورية القوانين.
ب – الدساتير الجامدة :
تسمى أيضا بالدساتير الصلبة، ويقصد بها الدساتير التي لا يمكن تعديل مقتضياتها باتباع نفس الإجراءات التي تعدل بها القوانين العادية، وإنما تتطلب ضرورة اتباع إجراءات خاصة منصوص عليه في الدستور ذاته، وتختلف عن تلك المتبعة لتعديل القوانين العادية ويترتب عن ذلك أن القوانين العادية لا يمكنها أن تعدل مقتضيات الدستور.
وتتجلى أهمية إتباع مسطرة خاصة في تعديل هذه الدساتير، في الرفع من شأن الدساتير الصلبة و صيانة مضمونها والمحافظة على مبدأ تدرج القوانين Hierarchie des Lois لأن في هذه الدول لا يتم اعتماد واحترام الترتيب الهرمي للقواعد القانونية المعمول به حاليا في أغلب الأنظمة الدستورية المعاصرة، والذي يجعل القواعد تتسلسل من حيث قيمتها ومرتبتها القانونية على الشكل الآتي: أولا “الدستور” ، ثانيا “القوانين التنظيمي” ، وثالثا “القوانين العادية” ، ورابعا “المراسيم” و خامسا “القرارات”.
ويترتب على اعتماد هذا الترتيب الهرمي إعمال مبدأ الرقابة على دستورية القوانين الذي يعد من المقومات الأساسية للدساتير المكتوبة والصلبة، وتتجسد هذه الأهمية أيضا في استحالة خرق المشرع العادي للدستور، عبر مراجعته أو تعديله بقانون عادي … بسبب سمو القاعدة الدستورية على القاعدة القانونية، وبحكم أن الشرعية الدستورية تقتضي أن يعدل ويراجع الدستور الصلب وفق المسطرة التي يوضع بها أصلا.
وتعد الدساتير الجامدة، أسمى قانون في الدولة، وهي فوق الجميع، ويجب على الجميع حكاما ومحكومين الالتزام بمقتضياتها وهي أيضا من أهم ضمانات حقوق الأفراد وحرياتهم، ومن أهم دعائم ومقومات دولة القانون. L’Etat de Droit ، ومن أمثلة الدساتير الجامدة دستور المملكة المغربية والدستور الحالي للجمهورية الفرنسية، ودستور الولايات المتحدة الأمريكية، وأمام كثرة إيجابيات ومزايا هذا النوع من الدساتير فقد رجحه أغلبية فقهاء القانون الدستوري على غيره من الدساتير ولهذا اخذت به معظم الدول المعاصرة.
ثالثا – محتويات الدستور :
على الرغم من اختلاف الدساتير من دولة لأخرى، وداخل نفس الدولة باختلاف الحقب والظروف التاريخية، فإن جل دساتير دول العالم تتضمن تباعا مجموعة من الأبواب والأقسام والتي تتمحور غالبا حول مواضيع مختلفة، كتنظيم ممارسة السلطة، والتعبير عن فكرة القانون الموجهة للدولة، والنص على حقوق الأفراد وحرياتهم ، كما قد تتضمن هذه الدساتير مجموعة من الأحكام والمقتضيات التي لا علاقة لها بتنظيم الحكم في الدولة.
1 – المقتضيات الخاصة بممارسة السلطة وبالقانون وحقوق الانسان في الدولة :
ترد هذه المقتضيات في كل الدساتير بدون استثناء، حيث أن جميع الدساتير تتضمن مجموعة من الأحكام المتعلقة بممارسة السلطة في الدولة ، كما تتضمن النص على مجموعة من الأفكار والمقتضيات التي تحدد التوجهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدولة، هذا إضافة إلى مجموعة من الأحكام والنصوص الأخرى المرتبطة بحقوق الإنسان والحريات العامة.
أ – تنظيم ممارسة السلطة :
تشكل المقتضيات والأحكام المرتبطة بتنظيم ممارسة السلطة داخل الدولة، النواة الأساسية للدستور وقد كان وضع هذه الأحكام والمقتضيات من أهم الأهداف التي كانت وراء وضع الدساتير.فالدستور هو الذي يتولى تحديد السلطات داخل الدولة، والأعضاء أو الجهات المنوط بهم ممارسة هذه السلطات كما يتولى الدستور تحديد اختصاصات كل سلطة على حدة، وضبط وتنظيم العلاقات بين هذه السلط.
وبالرجوع إلى دستور المملكة المغربية على سبيل المثال، نجده يخصص الباب الثالث للمؤسسة الملكية، والباب الرابع للسلطة التشريعية (البرلمان)، والباب الخامس للسلطة التنفيذية ( الحكومة) والباب السادس لعلاقات السلط بعضها ببعض، والباب السابع للسلطة القضائية، والباب الثامن للمحكمة الدستورية، والباب التاسع للجهات والجماعات الترابية الأخرى….
و ما دام الدستور هو وثيقة مقتضبة، فإنه يحيل فيما يخص التفاصيل على القوانين التنظيمية لتتميمه كما أنه يحيل فيما يتعلق بنظام البرلمان على القانون الداخلي للبرلمان الذي يضعه بنفسه ، وبمعنى آخر فإن الدستور على الرغم من تضمينه لمجموعة من المقتضيات المنظمة لممارسة السلطة في الدولة، فإن ذلك التنظيم لا يمكن أن يكون شموليا نظرا لاستحالة تضمين الدستور المكتوب جميع القواعد الخاصة بنظام الحكم،
وهنا يأتي دور العرف الدستوري الذي يوجد إلى جانب الدستور المكتوب، كما يأتي دور المشرع العادي لتكملة النقص الوارد في الدستور، إما من تلقاء نفسه، وإما بتكليف من المشرع الدستوري.
ب – التعبير عن فكرة القانون الموجهة للدولة :
الدستور هو الذي يحدد الأفكار السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل وحتى الدينية، التي تؤطر النظام السياسي بأسره . حيث غالبا ما نجد في جل الدساتير بعض الأفكار التي تحدد الاتجاه القانوني والإيديولوجي الذي تعمل في إطاره مؤسسات الدولة، وتظهر هذه الأفكار بشكل جلي، وبطريقة مفصلة في دساتير الدول الاشتراكية والدول الحديثة العهد بالاستقلال،
وأيضا في دساتير الدول الغربية ولكن بشكل أقل، وهذا ما دفع بالأستاذ موريس دو فرجيه M . Duverger ، إلى اعتبار الدساتير التي تفصل بشكل دقيق في الفلسفة والإيديولوجية المتبناة من طرف الدول، بمثابة برامج انتخابية، ولهذا فهي دساتير برامج على خلاف دساتير الدول الغريبة خاصة منها الصادرة في القرن العشرين التي تعد دساتير قوانين.
ولما كان التنظيم السياسي في الدولة ليس غاية في ذاته، وإنما هو وسيلة لتحقيق هدف معين، فإن الدساتير تبعا لذلك لا تكتفي بتعيين الهيئات الحاكمة أو تحديد اختصاصاتها، وإنما تحدد الهدف الذي من أجله تم تنظيم تلك الهيئات الحكومية، والطرق التي يجب أن يسلكها نشاط تلك السلطات.
ورغم ورود مثل هذه الأفكار في إطار الدستور، إلا أنها لا تعد حسب أغلبية الفقهاء من صميم الموضوعات الدستورية، وهي لا تعتبر من مواضيع القانون الدستوري، وإنما تهم مختلف فروع القانون، ويبقى الهدف من إيرادها في الدستور هو تمتيعها بقيمة قانونية عالية، وجعلها في منآى عن تدخل المشرع العادي، وتحديد الأهداف والقيم العامة التي تعمل سلطات الدول من أجل تحقيقها وتستأنس بها في سائر أعمالها وتصرفاتها.
ج – حقوق الإنسان :
لقد دأب المشرع الدستوري في أغلب الدساتير على المستوى الدولي على النص في صلب الوثيقة الدستورية على مجموعة من الحقوق والحريات الفردية والجماعية، وعلى مجموعة من الواجبات أيضا، والهدف من ذلك هو تعريف الشعب والحكام بحقوق الأفراد وحرياتهم، وجعلها قيدا على الحكام في ممارسة سلطاتهم واختصاصاتهم.
ويعد ضمان حقوق الإنسان والحريات العامة من أهم مقومات دولة الحق والقانون، وهو معيار لتمييز الدول الديمقراطية عن غيرها من الدول الدكتاتورية.
وقد عرفت هذه الحقوق والحريات تطورات هامة، خاصة بعد صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العاشر من دجنبر 1948 ، وصدور العهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية سنة 1966 كما أصبحت هذه الحقوق والحريات تحظى بمكانة هامة في جل الدساتير المعاصرة.
وبالرجوع إلى دستور المملكة المغربية لسنة 2011 على سبيل المثال، نجد المشرع الدستوري ينص في تصدير الدستور على أن ” المملكة المغربية، العضو النشيط في المنظمات الدولية، تتعهد بالتزام ما تقتضيه مواثيقها من مبادئ و حقوق واجبات، وتؤكد تشبثها بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا كما تؤكد عزمها على مواصلة العمل للمحافظة على السلم والأمن في العالم.”
كما جاء في تصدير الدستور المغربي التأكيد على التزام المغرب بالعمل على حماية منظومتي حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني والنهوض بهما، والإسهام في تطويرهما مع مراعاة الطابع الكوني لتلك الحقوق، وعدم قابليتها للتجزيء.
وحظر ومكافحة كل أشكال التمييز بسبب الجنس أو اللون أو المعتقد أو الثقافة أو الانتماء الاجتماعي أو الجهوي أو اللغة أو الإعاقة أو أي وضع شخصي مهما كان. وجعل الاتفاقيات الدولية، كما صادق عليه المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو، فور نشرها على التشريعات الوطنية، والعمل على ملائمة هذه التشريعات، مع ما تتطلبه تلك المصادقة.
وإلى جانب تلك المقتضيات، فقد تضمن دستور 2011، في بابه الثاني بابا خاصا بالحقوق والحريات الأساسية (الباب الثاني) ، كما تضمن العديد من الأحكام المرتبطة بحقوق الإنسان في الكثير من الأبواب والفصول الدستورية الأخرى .وبصفة عامة فالدستور خاصة إذا كان قد وضع بطريقة ديمقراطية يعد من أهم ضمانات حقوق الإنسان، ويعتبر ذلك من أهم المقومات والركائز التي تقوم عليها دولة الحق والقانون.
نشير إلى أن دستور 2011 حسم النقاش بخصوص القيمة القانونية لديباجة الدستور، وذلك حينما نص بشكل صريح على أن تصدير الدستور يشكل جزءا لا يتجزأ من الدستور.
2 – القواعد التي لا علاقة لها بتنظيم الحكم :
إلى جانب القواعد المتصلة بنظام الحكم في الدولة، والتي تشكل صلب وجوهر مادة القانون الدستوري، فإن العديد من الدساتير تتضمن مجموعة من القواعد والمقتضيات التي لا علاقة لها بتاتا بتنظيم السلطات العامة في الدولة، مثل القواعد التي تعالج أمورا تدخل في إطار أحد فروع القانون العادي كالقانون الإداري مثلا، أو القانون الجنائي، أو القانون المدني،
وكمثال على ذلك ما تنص عليه المادة 59 من النظام الأساسي للحكم في المملكة العربية السعودية، من أن يبين النظام أحكام الخدمة المدنية، بما في ذلك المرتبات والمكافات والتعويضات والمزايا والمعاشات التقاعدية”،وماتنص عليه أيضا المادة 38 من نفس النظام، من أن العقوبة شخصية، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على نص شرعي أو نص نظامي، ولا عقاب إلا على الأعمال اللاحقة للعمل بالنص النظامي”.
وكمثال على ذلك أيضا ما تضمنته المادة 55 مكرر من دستور الاتحاد السويسري، والمتعلقة بالمذياع والتلفاز، والتي جاء في فقرتها الثانية بأنه …” يجب أن يسهم المذياع والتلفاز في التطور الثقافي والترفيه على المستمعين والمشاهدين وفي التشكل الحر للآراء ويجب أن تأخذ وسائل الاتصال هذه في اعتبارها خصوصيات الدولة واحتياجات المقاطعات، ويجب أن تقدم الأحداث بشكل وقائع وأن تعطي انطباعا غير منحاز لوجهات النظر المتعددة. “….
فكل هذه القواعد والمقتضيات على الرغم من أهميتها، لا علاقة لها بتنظيم السلطات العامة في الدولة .ويبقى هدف المشرع الدستوري من إدماجها في صلب الوثيقة الدستورية، هو جعلها في نفس مرتبة وقيمة القواعد الدستورية، وجعلها بعيدة عن متناول المشرع العادي.وهذه القواعد والأحكام لا تدرس في إطار مادة القانون الدستوري، وإنما تدرس في إطار مجموعة أخرى من فروع القانون بنوعيه العام والخاص
مراجع معتمدة :
مصطفى قلوش: المبادئ العامة للقانون الدستوري، الطبعة الرابعة 1995.
إسماعيل الغزال: القانون الدستوري والنظم السياسية، الطبعة الرابعة.
علي الحنودي: النظرية العامة في القانون الدستوري.
محمد رفعت عبد الوهاب وحسين عثمان محمد عثمان، النظم السياسية والقانون الدستوري.
عبد الحميد متولي: القانون الدستوري والأنظمة السياسية، الطبعة السادسة.
Share this content: