المقصود بالعقود التجارية: شرح فقهي وموقف القضاء منها
يعرف جانب من الفقهاء العقد بأنه اتفاق بين إرادتين أو أكثر إما بقصد إنشاء علاقة قانونية وإما بقصد تعديل أو إنهاء علاقة موجودة من قبل.
ويعتبر العقد من أهم المصادر الإرادية للاتزام، سواء على المستوى الوطني أو الدولي، وتبرز أهمية التعاقد في الحياة العملية إذا لاحظنا أن الشخص خلال نشاطه اليومي يقوم بإبرام أكثر من عقد لتلبية حاجياته اليومية ابتداء من شراء طعامه وشرابه وركوب مواصلاته وبناء مسكنه، أما إذا كان يمارس نشاطا تجاريا مثلا فإنه يشعر بأهمية العقد باعتباره الوسيلة الأساسية في تحقيق أهدافه التجارية، حيث يبرم العديد من العقود مع الاغيار.
ويسمى هذا النوع من العقود “بالعقود التجارية”، وهو عبارة عن مصطلح أطلقه الفقه عليها لتمييزها عن العقود المدنية والعقود الادارية، وتعتبر العقود التجارية عموما إما عقود مستمرة أو عقود فورية، أما الأولى فهي عبارة عن عمليات تجارية تتكون و تنفذ وتنقضي بمعزل عن العقود اللاحقة ولعل أهم هذه العقود هي عقود البيع التجاري، والثانية هي عبارة عن عمليات تجارية تتصف بالانتظام والاستمرار، يحكمها عقد إطار يظم مجموعة من الأحكام تهدف أساسا إلى تنظيم العلاقة التجارية وذلك بتحديد شروط وحيثيات تنفيذ عقود لاحقة بين الأطراف.
لكن متى يعتبر العقد تجاريا ؟ بالرجوع الى مواد وفصول القانون التجاري نجد أن المشرع المغربي لم يعط ولم يحدد ما المقصود بالعقود التجارية و هو بذلك يكون قد حذا حذو أغلب التشريعات الأجنبية والمقارنة التي أحجمت عن تعريف العقد التجاري واكتفى فقط بتعداد وتنظيم مجموعة من العقود المنصبة على الأصل التجاري في الباب الثاني ثم في بعض العقود الأخرى في الكتاب الرابع.
أولا – التعريف الفقهي للعقود التجارية:
بالرغم من أن مصطلح العقود التجارية شائع الاستعمال لا من حيث التطبيق في الميدان التجاري و لا من حيث القوانين الوضعية التي اهتمت بتنظيم هذه العقود أو بعضها على الأقل، فإن معظم الفقه الذي اهتم بموضوع العقود التجارية أظهر صعوبة تحديد هذا المفهوم واعتبره يفتقر إلى الدقة طالما أن العقد المسمى يكون إما مدنيا أو تجاريا بحسب الأشخاص الذين أبرموه او بحسب الغرض منه.
وهذا ما أكده الفقيه الفرنسي « Ripert » الذي يرى أن عبارة العقود التجارية تفتقر إلى الدقة، على اعتبار أن العقود التي ينظمها القانون المدني قد تكون إما عقودا تجارية إذا اندرجت في عداد الأنشطة التجارية أو الأعمال التجارية بين التجار، و إما عقودا مختلطة إذا نشأت بين تاجر و غير تاجر، وبعبارة أخرى إن العقود المدنية في أصلها قد تفقد هذه الصفة إذا قام بها تاجر وتعلقت بأنشطته التجارية.
وفي نفس السياق لم يعطي الفقيه هيمار أية أهمية للتمييز بين العقود المدنية والعقود التجارية، موضحا بأن عقد البيع يتميز بمميزاته القانونية سواء أبرم بين تجار أو بين أشخاص عاديين وأن المعيار لمعرفة طبيعة العقد التجاري هو البحث عن حرفة أطراف العقد، فكل عقد أبرمه تاجر من أجل حاجيات تجارته فهو عقد تجاري، و يترتب عن هذه الصفة تطبيق القواعد القانونية المتعلقة بالأعمال التجارية، وخاصة فيما يتعلق بالاختصاص القضائي والإثبات.
هذا و قد ذهب الفقه المصري في نفس الاتجاه حيث أكد أن العقود التجارية هي عقود مدنية، ولكنها تتخذ الصفة التجارية عندما يكون موضوعها أحد الأعمال التجارية الواردة في القانون التجاري أو إذا صدرت ممن له صفة التاجر، و الحجات تتعلق بتجارته تطبيقا لنظرية الأعمال التجارية بالتبعية.
ومنهم الدكتور إبراهيم علي جمال الدين عوض الذي عرف العقد التجاري بالعقد الذي ينشئ في ذمة أحد المتعاقدين أو كليهما التزاما تجاريا، مبرزا أن العبرة في تجارية العمل هي ما حددته نص المادة الثانية من القانون التجارية، أما فيما يخص الفقه اللبناني فقد أكد أن العقد قد يكتسب الصفة التجارية بتطبيق أحد المعايير المقرر للعمل التجاري، ومن ثم يعتبر العقد تجاريا بنص القانون إذا اندرج في تعداد المادتين 6 و 7 من التقنين التجاري اللبناني للأعمال والمشروعات التجارية.
و طبقا لنظرية الأعمال التجارية بالتبعية فإن العقد يعتبر تجاريا إذا أبرمه تاجر لحاجات تجارية، وقد يكون العقد عملا مختلطا أي تجاريا بالنسبة لطرف ومدنيا بالنسبة للآخر على النحو المعمول في نظرية الأعمال التجارية، هذا و لم يأتي الفقه المغربي بجديد في مسألة تعريف العقود التجارية، فقد عرف الأستاذ بوعبيد عباس العقد التجاري قائلا إن ” العقد التجاري هو الذي يكون موضوعه أحد الأعمال التجارية الأصلية أو بالتبعية متى اتخذت الشكل القانوني لعقد، ولا يهم بعد ذلك إن كان العقد منظما بمقتضى القانون التجاري أو القانون المدني أو الأعراف”.
كما أن الأستاذ أحمد شكري السباعي أكد “ارتباط صفة العقد بصفة القائم به و بالنشاط الذي يمارسه امر واقع، فهناك العقود التجارية التي ذكرها المشرع في مدونة التجارة، وفي المدونات الأخرى البحرية والجوية و غيرهما وقد تكون مختلطة والعقود بالتبعية، و العقود المختلطة التي تنشأ بين تاجر وغير تاجر، و العقود المدنية و العقود المدنية بالتبعية، و لكل من هذه العقود نظرياته وقواعده المتعلقة بالاختصاص والجوهر و الشكل… “.
والمستفاد من مختلف هذه التعريفات الفقهية أن إسباغ الصفة التجارية على العقد تستمد من نظرية الأعمال التجارية، فالعقد يعتبر تجاريا كلما كان محله أحد الأعمال التجارية المنصوص عليها في المادة السادسة و السابعة من مدونة التجارة، أو بالرجوع إلى صفة الشخص الذي أبرمه فإن كان هذا الشخص تاجرا وأبرم العقد لشؤون تجارته فإن العقد يكون تجاريا والظاهر من ذلك أن المعيار المعتمد هو الاستناد إلى النظريتين الشخصية والموضوعية في تمييز العمل التجاري عن العمل المدني.
ثانيا – موقف القضاء من العقود التجارية :
لقد حددت المادة الخامسة من قانون رقم 53.95 المحدث للمحاكم التجارية القضايا التي تختص بالنظر فيها المحاكم التجارية، ومن بينها الدعوى المتعلقة بالعقود التجارية، لكن يبقى من اختصاص القاضي التجاري تحديد الطبيعة التجارية للعقد قبل النظر في الدعوى المرتبطة بهذا العقد.
وإذا كانت هذه المسألة لا تطرح بالنسبة للعقود المنصوص عليها من خلال مدونة التجارة والقوانين الأخرى، فإن الأمر يختلف بالنسبة للعقود التي أفرزها النشاط الاقتصادي و لم تحظى بأي تنظيم لا في نص عام و لا في نص خاص، هذا بالإضافة إلى أن عدد هذه الأخيرة كبير جدا بالمقارنة مع العقود الواردة في النصوص التشريعية.
وبالتالي سيكون مصير تحديد طبيعة العقود التجارية غير المنظمة قانونا بيد القضاء التجاري، الذي سيأخذ بمبدأ المماثلة في تحديد الأنشطة التجارية الجديدة، فالمحاكم التجارية إذن مدعوة لتحديد طبيعة العقود موضوع المنازعات المعروضة عليها حتى تتأكد من مناط اختصاصها، فاختصاصها إذن مرهون بوجود منازعة متعلقة بعقد تجاري.
وبرجوعنا إلى مجموعة من الأحكام والقرارات الصادرة عن المحاكم التجارية، يتضح أن هناك معيارين يعتمد عليهم القاضي التجاري لتكيف اتفاقات الأطراف :
1) المعيار الأول :
يتمثل في ضرورة البحث عن صفة أطراف العقد، بحيث كلما كان أحدهما أو كلاهما تاجرين فإن العقد سيتخذ الصبغة التجارية، وفي هذا الاطار أكدت المحكمة التجارية بمراكش ” بأن صفة طرفي النزاع كتاجرين، يضفي على العقد المبرم بينهما بشأن كراء محل … صفة عقد تجاري تختص المحكمة التجارية بالنظر في النزاعات المترتبة عن تنفيذه…”.
كما أن محكمة الاستئناف التجارية بالدار البيضاء أخذت بهذا المعيار لتحديد طبيعة العقد في أكثر من قرار، و هكذا جاء في أحد قرراتها على أنه ” اعتبارا لما ذكر يكون من الثابت في النازلة أن طرفي العقد معا يكتسبان الصفة التجارية والعقد المبرم بينهما عقد تجاري و بالتالي فالاختصاص بالبت في النزاع الناتج عن العقد المذكور ينعقد للمحكمة التجارية”.
كما أكدت في قرار آخر بأنه ” حيث يتجلى من وثائق الملف ودفوعات الأطراف أنه ليس هناك منازعة في صفتهما كتاجرين، وحيث إن عقد الكراء المبرم بينهما يتعلق باستغلال محل تجاري يشغله المستأنف عليهما لبيع المواد الغدائية وبالتالي فهو عقد تجاري”.
وفي نفس السياق ذهبت محكمة الاستئناف التجارية بفاس إلى أن ” المحاكم التجارية ينعقد لها الاختصاص طبقا للمادة الخامسة من القانون المحدث لها إذا كانت المنازعات بين تاجرين، أما إذا كان الطرف المدعى عليه غير تاجر فإنه لا تصح مقاضاته إلا أمام المحاكم العادية”.
2) المعيار الثاني :
يرتكز هذا المعيار على موضوع العقد، فإذا كان موضوعه أحد الأنشطة التجارية الواردة في مدونة التجارة فإنه يكون تجاريا بغض النظر عن صفة طرفيه، ولذلك فإن كل عقد يكون موضوعه أحد الأنشطة التجارية سيوصف بالتجاري بغض النظر عن تنظيم هذا العقد في مدونة التجارة.
وفي هذا الإطار أصدرت المحاكم التجارية مجموعة من الأحكام والقرارات يتضح من خلال مضمونها أنها اعتمدت على طبيعة محل العقد في تحديدها لمفهوم العقد التجاري، ومن بين هذه المقررات ما جاء في القرار الصادرة عن محكمة الاستئناف بفاس “طبقا لمقتضيات الباب السابع من مدونة التجارة، تعد من العقود التجارية الحسابات البنكية المفتوحة للزبائن، وكذا عقد القرض المبرم مع البنك بمناسبتها بغض النظر عن صفة المتعاقد هل هو تاجر ام لا، وبالتالي فإن المحاكم التجارية مختصة طبقا لقانون إحداثها”.
كما قررت محكمة الاستئناف بالدار البيضاء بأن “عقد القرض البنكي عقد تجاري بغض النظر عن طرفيه ” و قد ذهبت نفس المحكمة إلى أن ” القروض التي تمنحها مؤسسة الائتمان في نطاق نشاطها المعتاد أنها أعمالا تجارية، وبالتالي فإن جميع الدعاوى المتعلقة بها والناتجة عنها والمترتبة عن المساطر التي تتفرع عنها يرجع فيها إلى المحاكم التجارية”.
وأصدرت محكمة الاستئناف التجارية بفاس قرار بعدم الاختصاص عندما قالت ” إذا كانت العقود العدلية تعد أوراقا رسمية في مفهوم الفصل 418 من قانون الالتزامات و العقود وكان رئيس المحكمة التجارية مختصا بالنظر في مقالات الأمر بالأداء المبينة على السندات الرسمية، فإن ذلك مشروط بأن يكون العمل تجاريا بالنسبة للمتعاقدين معا. وحيث تبين من خلال فحص الوثائق المرفقة بالمقال أن أحد الأطراف و هو المستأنف عليه لا يعتبر تاجرا لأن مهنته عامل، ويبقى الاختصاص غير منعقد لرئيس المحكمة التجارية وإنما لرئيس المحكمة الإبتدائية”.
تم الاستفادة من عدة مراجع لإعداد هذا المقال، منها:
- محمد الشواي: محاضرات في العقود التجارية.
- إبراهيم سيد أحمد: العقود والشركات التجارية، ط8، 1999 دار الجامعة الجديدة للنشر الاسكندرية.
- محمد السيد الفقي: العقود التجارية، منشورات الحلبي الحقوقية، الطبعة الأولى 2011.
- علي حسن يونس: العقود التجارية، 1963 دار الفكر العربي.
- بحار عبد الرحيم: الاجراءات التحفظية في مادة العقود التجارية، منشورات جمعية نشر المعلومات القانونية والقضائية سلسلة الدراسات والأبحاث العدد 8 فبراير 2009.
Share this content: