الجهات المكلفة بالتحقيق
|

التحقيق الإعدادي: الجهات المكلفة بالتحقيق، وإجراءات المطالبة به.

يقدم المقال نظرة شاملة على الجهات المكلفة بالتحقيق، وكذا إجراءات المطالبة به.

التحقيق الإعدادي يمثل الشق الثاني من مرحلة ما قبل المحاكمة ويعرف بكونه” مجموعة من الإجراءات والتحريات القضائية الهادفة إلى كشف الحقيقة، وتحصيل الأدلة، وتمحصيها قبل عرض المتهم على هيئة الحكم”. وعرف أيضا بأنه ” مجموعة من التحريات التي تستهدف جمع الحجج من طرف سلطة مختصة يحق لها في نهاية الأمر، أن تقرر ما إذا كان مناسبا، أو غير مناسب إحالة القضية على المحكمة”.

لذلك، اعتبرت هذه المرحلة من أهم مراحل الدعوى الجنائية، فهو يقف وسطا بين إجراءين هامين هما: البحث التمهيدي الذي تقوم به الشرطة القضائية والبحث النهائي الذي تقوم به المحكمة. والهدف منه هو التثبت من جمع الأدلة، والتحقيق فيها بغية الوصول إلى الحقيقة الواقعية، والقانونية في شأنها، وتقدير قيمة تلك الأدلة لمعرفة ما إذا كانت غير كافية للاستمرار في المتابعة، أو كانت كافية، وبالتالي إحالتها على الجهة المختصة لإصدار حكم في القضية إما بالبراءة، أو الإدانة، أوالإعفاء.

ويتميز بعدة خصائص، ولعل أبرزها أنه ذو طبيعة قضائية وتفتيشية، أما الطبيعة القضائية فتعني أن قاضي التحقيق حكم، وليس خصما، وبالتالي فإنه من الواجب عليه أن يجمع الحجج بحياد تام دون محاباة أو تحامل على المتهم، سواء أكانت لفائدته أم ضده، وتتجلى الطبيعة القضائية للتحقيق أيضا في أنه ينجز تحت مراقبة سلطة أعلى وهي الغرفة الجنحية وإمكانية استئناف أهم قراراته أمامها، أما السمة التفتيشية فتعني أن التحقيق الإعدادي تغلب عليه السرية، والكتابة.

ولعل أول ضمانات التحقيق الإعدادي أنه تختص به جهة مختصة لها خبرة كبيرة واستقلال فعلي يكفل للمتهم تحقيق دفاعه. وهذا ما حاول قانون المسطرة الجنائية الجديد المغربي تجسيده، حينما أوكل إلى قاضي التحقيق مهمة إجراء التحقيق الإعدادي في القضايا المنسوبة للمتهمين.

أولا – الجهات المكلفة بالتحقيق :

1) قاضي التحقيق:

منذ صدور قانون المسطرة الجنائية الجديد الذي دخل حيز التنفيذ في فاتح أكتوبر 2003 ، تم إحداث مؤسسة قاضي التحقيق بالمحاكم الابتدائية، بعد أن كان التحقيق مقتصرا على قضاة التحقيق بمحاكم الاستئناف. ويمكن تعريف قاضي التحقيق بأنه ” الجهة التي أوكل إليها القانون القيام بالتحقيق الإعدادي من خلال جمع الأدلة عن الجرائم والبحث عن مرتكبيها واتخاذ القرارات على ضوئها” ومن تم، فإن المهام المتعددة التي أسندها المشرع إليه جعلته صاحب أدوار مختلفة ومتداخلة:

– فهو ضابط سام للشرطة القضائية من حيث جمع الأدلة عن الجرائم والبحث عن مرتكبيها مباشرة أو بواسطة إنابة قضائية، والوقوف على الجريمة المتلبس بها طبقا للمادة 75 من قانون المسطرة الجنائية.

– وهو جهة اتهام من حيث مهامه الشبيهة بمهام النيابة العامة، كإصدارالأوامر الماسة بالحرية، وبالحق في التنقل، والاعتقال الاحتياطي والتقاط المكالمات الهاتفية، وتفقد المؤسسات السجنية، وتسخير القوة العمومية.

– وهو جهة قضائية من حيث إصدار القرارات، وإجبارية تعليل بعضها ومن حيث قابلية هذه القرارات للطعن، وكذا من حيث قوة الإثبات التي أعطاها القانون للاعتراف الذي يتم أمامه، وللتصريحات التي يفضي بها الشهود إليه.

2) الغرفة الجنحية بمحكمة الاستئناف :

يمكن تعريف الغرفة الجنجية بمحكمة الاستئناف بأنها “هيئة قضائية جماعية تتكون من الرئيس الأول، أو من ينوب عنه، ومن مستشارين اثنين، وعضو ممثل النيابة العامة الذي هو الوكيل العام للملك، أو أحد نوابه، ومن كاتب للضبط”. وتتصل الغرفة الجنحية بمحكمة الاستئناف بالتحقيق الإعدادي في كونها الجهة المختصة بالنظر في بطلان إجراءات التحقيق، والاستئنافات المرفوعة ضد أوامر قاضي التحقيق، وبالتالي يمكن اعتبارها درجة ثانية من درجات التحقيق الإعدادي.

ولقد نصت المادة 231 من قانون المسطرة الجنائية على ما يلي ” تنظر الغرفة الجنحية بمحكمة الاستئناف، وهي مكونة من الرئيس الأول أو من ينوب عنه، ومن مستشارين اثنين بحضور ممثل النيابة العامة وكاتب الضبط:

– أولا : في طلبات الإفراج المؤقت المقدمة إليها مباشرة طبقا لمقتضيات الفقرتين الرابعة والخامسة من المادة 179 ، وفي تدبير الوضع تحت المراقبة القضائية المتخذة طبقا للمادة 160.

– ثانيا : في طلبات بطلان إجراءات التحقيق المنصوص عليها في المواد 210 إلى 213 .

– ثالثا : في الاستئنافات المرفوعة ضد أوامر قاضي التحقيق طبقا للمادة 222 وما يليها.

– رابعا : في كل إخلال منسوب لضابط من ضباط الشرطة القضائية خلال مزاولته لمهامه طبقا لما هو منصوص عليه في المواد من 29 إلى 35 من هذا القانون”.

وقد نصت المادة 238 أيضا من قانون المسطرة الجنائية على ما يلي ” يمكن للغرفة الجنحية، إما بطلب من الوكيل العام للملك، أو بطلب من أحد الأطراف، أو تلقائيا أن تأمر بإجراء أي تحقيق تكميلي تراه مفيدا، ويقوم بإجرائه أحد أعضائها، أو قاضي تحقيق تنتدبه الغرفة لهذه الغاية …”.

3) الغرفة الجنحية بمحكمة النقض :

لقد أسند المشرع عملية التحقيق استثناء لجهة قضائية، وهي الغرفة الجنحية بمحكمة النقض بمقتضى نص خاص، وللأسباب ودوافع استثنائية حددتها نصوص قانونية.

وإلى ذلك اشارت المادة 265 من قانون المسطرة الجنائية على ما يلي ” إذا كان الفعل منسوبا إلى مستشار لجلالة الملك، أو عضو من أعضاء الحكومة، أو كاتب دولة ، أو نائب كاتب دولة مع مراعاة مقتضيات الباب الثامن من الدستور، أو قاض بالمجلس الأعلى، أو بالمجلس الأعلى للحسابات، أو عضو في المجلس الدستوري، أو إلى والي، أو عامل أورئيس أول لمحكمة استئناف عادية، أو متخصصة أو وكيل عام للملك لديها، فإن الغرفة الجنائية بمحكمة النقض تأمر عند الاقتضاء بناء على ملتمسات الوكيل العام للملك بنفس المحكمة بان يجري التحقيق في القضية عضو أو عدة أعضاء من هيئتها.

يجري التحقيق حسب الكيفية المنصوص عليها في القسم الثالث من الكتاب الأول المتعلق بالتحقيق الإعدادي. بعد إنهاء التحقيق يصدر قاضي أو قضاة التحقيق حسب الأحوال، أمرا قضائيا بعدم المتابعة أو بالإحالة إلى الغرفة الجنائية التي بتت في القضية. ولا تقبل اية مطالبة بالحق المدني أمام محكمة النقض ” .

ومن تم، فإن الغرفة الجنائية بمحكمة النقض هي المختصة بالتحقيق في الأفعال المنسوبة لبعض كبار الموظفين الذين تم ذكرهم على سبيل الحصر في المادة 265 المشار إليها أعلاه.

ولعل السبب في تطبيق هذه الأحكام المتعلقة بوجود مسطرة استثنائية هو تحصين هذه الفئة من الدعاوى الكيدية التي قد يقيمها الأطراف نظرا للإجراءات المتخذة ضدهم، والتي تدخل في صميم أعمال ضباط الشرطة القضائية، إلا أن هذا الاستثناء على مستوى الأشخاص الخاضعين لإجراءات التحقيق الذي تباشره الغرفة الجنائية بمحكمة النقض لا يؤثر على طبيعتها القانونية، بل يتم وفق الأحكام المنصوص عليها في المواد 83 الى 250 من قانون المسطرة الجنائية.

4) ضباط الشرطة القضائية وقضاة الحكم (الإنابة القضائية) :

لقد منح المشرع لقاض التحقيق حق انتداب أي قاضي آخر للقيام بأحد إجراءات التحقيق من قضاة الحكم، أو ضابط من ضباط الشرطة القضائية ليقوم مقامه بعمل من أعمال التحقيق، بحيث يكون لهذا الأخير نفس سلطاته، وصلاحياته في حدود الإجراءات المحددة في الإنابة القضائية، ويعد كل إجراء يتم إنجازه خارج حدود الإنابة القضائية باطلا، لصدوره من شخص غير مؤهل قانونا لإنجازه.

وتتضح أهمية الإنابة القضائية في تسهيل عمل قاضي التحقيق خصوصا عندما يتعلق الأمر بالاستماع إلى شخص يتواجد خارج دائرة نفوذه الترابي، وإلى ذلك أشارت المادة 189 من ق. م. ج. على ما يلي “يمكن لقاض التحقيق أن يطلب بواسطة إنابة قضائية من أي قاض آخر للتحقيق، أو أي قاض أو أي ضابط من ضباط الشرطة القضائية الموجودة في نفس دائرة محكمته القيام بإجراء ما يراه لازما من أعمال التحقيق في الأماكن الخاضعة لنفوذ كل واحد منهم…”.

ومن تم، فإن المشرع أدخل جهات أخرى غير أصلية للقيام بإجراءات التحقيق الإعدادي، وتتمثل في قضاة الحكم، وضباط الشرطة القضائية، وذلك في إطار ما يسمى “بالإنابة القضائية” ليحلوا محل قاضي التحقيق في بعض الاختصاصات التي حددتها هذه الإنابة .

إذ أن القاعدة الأصلية أن قاضي التحقيق هو الجهة المكلف بإجراءات التحقيق، ولذلك لا يجوز أن يتخلى عن أعمال التحقيق كلها، لأن في ذلك تنازل عن اختصاصه وهذا لم يسمح به المشرع، ومن تم فإنه يجب أن تكون هذه الإنابة مقتصرة على إجراءات محددة وألا تكون عامة.

ثانيا – المطالبة بإجراء التحقيق :

تتم المطالبة بإجراء التحقيق، إما من طرف النيابة العامة، أو من طرف المتضرر، وذلك في الجرائم التي يكون التحقيق في بعضها إلزاميا، واختياريا في بعضها الآخر.

1) المطالبة بالتحقيق من طرف النيابة العامة :

لقد ميز المشرع المغربي بين الأحداث والرشداء، كما ميز بين الجنايات والجنح.

أ – الجرائم القابلة للتحقيق :

إن التحقيق يكون إلزاميا في الجنايات المرتكبة من طرف الأحداث، كيفما كانت العقوبة المقررة لها، فكلما تعلق الأمر بجناية ارتكبها حدث يقل سنه عن 18 سنة شمسية كاملة، يتعين على الوكيل العام للملك ، أن يتقدم بملتمس بإجراء تحقيق بشأنها إذا قرر متابعة الحدث.

وكذلك بالنسبة للجنايات المعاقب عليها بالإعدام، أو بالسجن المؤبد، أو التي يصل الحد الأقصى للعقوبة المقررة لها ثلاثين سنة. و الجنح بمقتضى نص كما هو الشأن بالنسبة لحوادث السير المميتة، وكما هو الشأن أيضا بالنسبة للجرائم التي يمكن تكييفها، إما جنايات أو جنح عملا بمقتضيات المواد من 264 إلى 268 من ق. م. ج.

ب – الجرائم التي يكون التحقيق فيها اختياريا :

يكون التحقيق اختياريا فيما عدا ذلك من الجنايات، وكذا الجنح المرتكبة من طرف الأحداث. و في الجنح التي يكون الحد الأقصى للعقوبة المقررة لها خمس سنوات أو أكثر، وإلى ذلك أشارت المادة 83 من ق.م.ج التي نصت على ما يلي ” يكون التحقيق إلزاميا:

1 – في الجنايات المعاقب عليها بالإعدام أو السجن المؤبد، أو التي يصل الحد الأقصى للعقوبة المقررة لها ثلاثين سنة.

2 – في الجنايات المرتكبة من طرف الأحداث.

3 – في الجنح بنص خاص في القانون.

يكون اختياريا فيما عدا ذلك من الجنايات، وفي الجنح المرتكبة من طرف الأحداث، وفي الجنح التي يكون الحد الأقصى للعقوبة المقررة لها خمس سنوات أو أكثر”.

وهكذا، فالتحقيق في الجنح غالبا ما يكون اختياريا ، اللهم الجنح المرتكبة في حوادث السير المميتة. ويكون التحقيق اختياريا في الجنايات، إذا تعلق الأمر بحالة تلبس بالجناية وتبين للوكيل العام للملك بأن القضية غير جاهزة للحكم، وأن وسائل الإثبات غير كافية، وأن الحقيقة لم تتضح بعد من البحث الذي أنجزته الشرطة القضائية.

2) المطالبة بالتحقيق من طرف المتضرر :

يحق لكل شخص تضرر من الجريمة، أن يلجأ مباشرة إلى قاضي التحقيق ويقوم بتسجيل شكايته المباشرة في مواجهة شخص ذاتي، أو معنوي وفق شروط وإجراءات محددة، ما لم توجد موانع ينص عليها القانون. وهذه الشروط تتلخص في إثارة الدعوى العمومية من طرف المتضرر فيما يلي:

– وجوب كون الجريمة جناية أو جنحة دون المخالفة التي لا يمكن للمتضرر منها تحريك الدعوى العمومية بشأنها عن طريق الادعاء المباشر.

– وجود متضرر من هذه الجريمة تتوفر فيه أهلية الادعاء، وإذا لم يكن متوفرا عليها، فيقيمها نيابة عنه نائبه القانوني أو بمساعدته، وفي حالة عدم وجود هذا الأخير ، فبواسطة وكيل خصوصي تعينه له المحكمة، بناء على ملتمس النيابة العامة.

– قیام علاقة سببية مباشرة بين الضرر والجريمة.

– أن يكون قاضي التحقيق مختصا نوعيا ومكانيا.

وبعد توفر هذه الشروط في الشكاية الواردة من طرف المتضرر، يقوم قاضي التحقيق بتبليغها إلى الوكيل العام للملك لتقديم ملتمساته، وتقوم النيابة العامة بعد ذلك بمراقبة الشكاية، ومدى توفرها على الشروط الشكلية، والموضوعية حتى يتسنى لها قبولها والمتمثلة فيما يلي:

– توفر شروط أهلية الادعاء بالنسبة للمشتكي والمتهم.

– الاختصاص النوعي والمكاني لقاضي التحقيق المرفوعة إليه الشكاية.

– أن تكون الأفعال موضوع الشكاية جريمة قابلة للتحقيق، ولم تسقط بالتقادم أو بأي سبب آخر من أسباب انقضاء الدعوى العمومية.

– في حالة تقديم شكاية لا تدعمها أسباب كافية يمكن للنيابة العامة أن تلتمس من قاضي التحقيق فتح تحقيق مؤقت حول أي شخص قد يكشف عنه البحث.

3) موانع إقامة الدعوى العمومية :

إذا كان المشرع المغربي قد سمح للمتضرر بإقامة الدعوى العمومية أمام قاضي التحقيق، فإن هذا الحق ليس مطلقا، بل ترد عليه بعض الموانع، ومنها ما يلي:

– الجرائم التي يعود الاختصاص بشأنها إلى المحكمة العسكرية الدائمة للقوات المسلحة الملكية.

– الجرائم المنسوبة إلى أعضاء الحكومة، وبعض كبار موظفي الدولة، أو التي يعود يعود الاختصاص فيها إلى محكمة النقض.

– الجرائم المنسوبة لبعض قضاة وموظفي الدولة، والتي تخضع لقواعد الاختصاص الاستثنائية، طبقا للمواد 264 إلى 268 من ق.م.ج. حيث يعود أمر تحريك الدعوى العمومية بشأنها إلى الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف، أو إلى الغرفة الجنائية بمحكمة النقض.

– المخالفات المرتكبة أثناء الجلسات، والتي نصت المادة 269 على أن المحاكم تبث فيها خلافا للقواعد العادية تلقائيا، أو بناء على ملتمسات النيابة العامة ضمن شروط خاصة نظمتها المواد من 357 إلى 361 من.ق.م.ج.

– بعض الجرائم المرتكبة خارج أرض الوطن، والتي أناط المشرع تحريك الدعوى العمومية بشأنها إلى النيابة العامة وحدها دون المتضرر، وبعد توصلها بشكاية رسمية من البلد الذي ارتكبت فيه الجريمة، وذلك عملا بمقتضيات المادة 708 من ق.م.ج.

– عدم السماح للمتضرر في إقامة الدعوى العمومية في مواجهة حدث يقل سنه عن 18 سنة عملا بمقتضيات المادة 463 من ق. م. ج. والتي نصت في فقرتها الأخيرة على ما يلي ” لا يمكن إقامة الدعوى العمومية في حق حدث من قبل الطرف المدني”.

Share this content:

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *