قاضي التحقيق: تعريفه، والمبادئ التي تحكم عمله
|

قاضي التحقيق: تعريفه، والمبادئ التي تحكم عمله

يتجلى التعريف بقاضي التحقيق في الإجراءات التي يقوم بها، والصلاحيات المخولة إليه للقيام بمهام التحقيق الإعدادي. فهو يملك سلطات واسعة للتقرير في حرية المواضين وفي ممتلكاتهم ويباشر مهامه من خلال مجموعة النصوص القانونية المعقدة باستعمال علمه وخبرته، إضافة إلى أخلاقياته المهنية وضميره وفضائله التي تكسب مهمته عظمتها الحقيقية.

فإذا كان هو الجهة التي أوكل إليها القانون القيام بالتحقيق الإعدادي من خلال جمع الأدلة عن الجرائم والبحث عن مرتكبيها واتخاذ القرارات على ضوئها، فإن المهام المتعددة التي أسندها إليه جعلته صاحب أدوار مختلفة ومتداخلة:

– فهو ضابط سام للشرطة القضائية، من حيث جمع الأدلة عن الجرائم والبحث عن مرتكبيها مباشرة أو بواسطة إنابة قضائية، والوقوف على الجريمة المتلبس بها طبقا للمادة 75 من قانون المسطرة الجنائية التي توجب على الوكيل العام للملك أو وكيل الملك أو ضابط الشرطة القضائية التخلي له عن القضية بمجرد حضوره إلى مكان وقوع الجريمة المتلبس بها بحيث يمارس الصلاحيات الموكولة إلى ضباط الشرطة القضائية،

كما له أن يأمر هؤلاء بمتابعة الأبحاث والتحريات فيها. ويحيل جميع وثائق البحث على النيابة العامة بمجرد الانتهاء، لأنه أنجزه بصفته ضابطا ساميا للشرطة القضائية، وليس بصفته قاضيا للتحقيق يباشر إجراءات التحقيق الإعدادي، إلا إذا قدم له الوكيل العام للملك أو وكيل الملك الحاضرين بعين المكان ملتمسا بإجراء تحقيق، فينقلب دوره آنذاك إلى دور قاضي التحقيق.

– وهو جهة اتهام من حيث مهامه الشبيهة بمهام النيابة العامة، كإصدار الأوامر الماسة بالحرية وبالحق في التنقل والاعتقال الاحتياطي، والتقاط المكالمات الهاتفية، وتفقد المؤسسات السجنية، وتسخير القوة العمومية.

– وهو جهة قضائية، من حيث إصدار القرارات وإجبارية تعليل بعضها، ومن حيث قابلية هذه القرارات للطعن، وكذلك من حيث قوة الإثبات التي أعطاها القانون للاعتراف الذي يتم أمامه وللتصريحات التي يفضي بها الشهود إليه.

المبادئ التي يقوم عليها التحقيق :

يختلف مفهوم الدليل الموجب للمتابعة بين قضاء التحقيق وقضاء الحكم. فقاضي التحقيق يقرر المتابعة شأنه شأن النيابة العامة عند وجود ما يجعل الشبهة محتملة في تقديره. فهو لايرجح بين حجج الإثبات وحجج النفي، ولا يرد أي دليل بحجة أنه لم يقتنع به، لأن ذلك يخرج عن سلطته.

أما قضاء الحكم فلا يأخذ بالأدلة إلا إذا كانت قاطعة أو وجد ما يجعلها مقنعة، فهو بذلك يقيم الحجج المعروضة عليه ويرجح بينها ويرد ما لم يقنعه منها. لذلك يقال إن دور قضاء التحقيق هو جمع الأدلة وأن دور قضاء الحكم هو تدقيقها وتقييمها. ولتوفير ظروف المحاكمة العادلة كان لزاما أن يحاط قضاء التحقيق ببعض الضمانات التي يكرسها المبدءان التاليان:

أولا – استقلال قاضي التحقيق عن سلطة الاتهام :

يقوم قاضي التحقيق بمجموعة من الأدوار والوظائف التي أناطها به المشرع من أجل الوصول إلى توجيه الاتهام للمتهم من عدمه، والمفروض أن يتقمص قاضي التحقيق دور الحكم المحايد حيادا إيجابيا، حيث تتجلى مهمته النبيلة في الكشف عن الحقيقة، ويكون ذلك عن طريق جمع أدلة البراءة وأدلة الاتهام، دون التحيز لأي جهة ويفترض هذا الدور المحايد تمتيع قضاة التحقيق بالاستقلال عن النيابة العامة (أ) وعن قضاء الحكم (ب):

أ – استقلال قاضي التحقيق عن سلطة الاتهام :

ينص دستور المملكة المغربية المؤرخ في فاتح يوليوز 2011 على استقلال السلطة قضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، ودور القضاء المستقل في ضمان حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وتوفير الأمن القضائي لهم في بابه السابع (الفصول من 107 إلى 116 من الدستور).

غير أن بعض الصلاحيات المخولة للنيابة العامة، من شأنها خرق مبدأ استقلال قاضي التحقيق عن سلطة المتابعة، رغم محاولة المشرع تكريس مبدأ الفصل بين السلطتين، إلا أن هذه الاستقلالية غير واضحة المعالم وتتخللها مجموعة من الثغرات والإشكالات القانونية، بسبب الصلاحيات الواسعة التي تملكها النيابة العامة.

ومن بين أهم الصلاحيات المخولة للنيابة العامة ما يلي:

– لا ينطلق التحقيق إلا بناء على ملتمس النيابة العامة حتى وإن كان قاضي التحقيق يباشر الاختصاصات المخولة له بموجب حالة التلبس وهذا ما تضمنته الفقرة الأولى من المادة 84 من قانون المسطرة الجنائية.

– حق النيابة العامة في اختيار قاضي التحقيق عند تعدد قضاة التحقيق داخل المحكمة الواحدة (المادة 90 من قانون المسطرة الجنائية).

للنيابة العامة أن تطلب من قاضي التحقيق القيام بكل إجراء مفيد لإظهار الحقيقة، ويحق لها طلب الاطلاع على ملف التحقيق والإجراءات المتخذ فيه مع إرجاعه داخل أجل 24 ساعة (المادة 89 من قانون المسطرة الجنائية).

– يتعين على قاضي التحقيق أن يرفع للنيابة العامة فورا الشكايات أو المحاضر المتعلقة بالوقائع التي لم تتم الإشارة إليها في ملتمساتها (الفقرة 4 من المادة 84 من قانون المسطرة الجنائية).

– قبل إصدار الأمر بانتهاء التحقيق، يتعين على قاضي التحقيق إرسال الملف المتعلق بالنازلة إلى النيابة العامة قصد تقديم ملتمساتها خلال أجل لا يتجاوز أيام على الأكثر.

– للنيابة العامة أن تتقدم بملتمس معلل للغرفة الجنحية بمحكمة الاستئناف يرمي إلى سحب القضية من قاض للتحقيق وإحالتها على قاض آخر للتحقيق(الفقرة 1 من المادة 91 من قانون المسطرة الجنائية).

– يحق للنيابة العامة استئناف جميع الأوامر التي يصدرها قاضي التحقيق باستثناء الأوامر الصادرة بإجراء الخبرة (الفقرة 1 من المادة 222).

إن أهم ضرب لمبدأ الفصل بين سلطة الاتهام وسلطة التحقيق يتجلى – وهذا أشد خطورة – في تضييق نطاق التحقيق الإعدادي وخصوصا على مستوى المشروع الحالي، لأن هذا الإجراء سيجعل من مؤسسة قضاء التحقيق مؤسسة شكلية فقط، إن على مستوى المحاكم الابتدائية أو محاكم الاستئناف، وذلك على حساب توسيع هامش سلطة النيابة العامة، الأمر الذي سيؤدي إلى تقوية مركز محاضر ضباط الشرطة القضائية الذي سيرتكن إليه في المادة الزجرية، وهو أمر يشكل مسا خطيرا بحقوق الدفاع، ويهدم ضمانة من ضمانات المحاكمة العادلة.

أضف إلى كل هذا أن قاضي التحقيق له صفة ضابط الشرطة القضائية، ومعلوم أن ضباط الشرطة القضائية يخضعون لإشراف وسلطة النيابة العامة.

ب – استقلال قاضي التحقيق عن هيئة الحكم :

إذا كان قاضي التحقيق يقوم بجمع الأدلة وتمحيصها، فإنه يبحث عن الدليل الذي يجعل الشبهة قائمة في تقديره ولا يهم إن كان قاطعا وحاسما في إدانة المتهم أم لا، وعليه، يختلف مفهوم الدليل بين قضاء الحكم وقضاء التحقيق.

فإذا كان هذا الأخير يلتمس أي دليل يؤسس عليه اتهامه ولو كان مجرد شبهة في تقديره، حيث لا يملك سلطة الترجيح بين أدلة الإثبات وأدلة النفي، ولا يمكن رد أي دليل بحجة عدم اقتناعه به، فإن قضاء الحكم يملك سلطة الترجيح بين الأدلة ولا يأخذ منها إلا ما كان قاطعا واقتنع بحجيته، ويرد ما لم يقنعه منها.

ولتكريس هذه الاستقلالية، منع المشرع من خلال الفقرة الأخيرة من المادة 52 من قانون المسطرة الجنائية على قضاة التحقيق تحت طائلة البطلان، أن يشاركوا في إصدار حكم في القضايا الزجرية التي سبق أن أحيلت إليهم بصفتهم قضاة مكلفين بالتحقيق.

ثانيا – مبدأ حماية المصالح :

لأجل دعم مبدأ حماية مصالح جميع أطراف الدعوى الزجرية خلال مرحلة التحقيق، أحاط المشرع هذه المرحلة بمجموعة من الضمانات وهي:

– الحق في المؤازرة من طرف محام منذ الاستنطاق الابتدائي؛

– توثيق جميع إجراءات التحقيق بإشهاد كاتب للضبط على استنطاق المتهمين وعلى تصريحات الشهود، وبتحرير قاضي التحقيق لجميع أوامره وقراراته؛

– ضمان سرية التحقيق بعدم حضور مراحل التحقيق إلا لمن يسمح له القانون، وبمنع إفشاء أو نشر ما يجري أثناء التحقيق تحت طائلة العقاب طبقا للمادة 15 من قانون المسطرة الجنائية .

Share this content:

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *