آلية الصلح الزجري
يعتبر الصلح الزجري إحدى الآليات البديلة الفعالة لفض النزاعات، وقد أقرها المشرع المغربي في إطار المادة 41 من قانون المسطرة الجنائية كأداة قانونية تهدف إلى إيجاد حل سلمي للنزاعات بين الأطراف، بعيدًا عن إجراءات التقاضي التقليدية التي قد تكون معقدة وطويلة. هذه الآلية تعكس توجهًا حديثًا نحو تحقيق العدالة بشكل أسرع وأكثر فعالية، حيث يمكن من خلالها حسم الخصومة بين الأطراف المعنية بشكل يضمن حقوق الجميع، ويعزز مبدأ التفاهم والتسوية بدلاً من التصعيد والمواجهات القانونية المستمرة.
من خلال الصلح الزجري، يتم رأب الصدع بين الأطراف المتنازعة والعمل على جبر الضرر الناجم عن الجريمة أو النزاع، مما يسهم في تخفيف التوترات والضغائن التي قد تنشأ في المجتمع نتيجة للمشاكل القانونية. علاوة على ذلك، يساهم هذا النظام في ترسيخ ثقافة التسامح وتعزيز الحوار بين الأفراد بدلاً من اللجوء إلى الحلول العنيفة أو الانتقامية، وهو ما يساهم في الحد من النزاعات الانتقامية لدى الضحايا الذين قد يختارون في بعض الأحيان تصعيد النزاع بدلًا من البحث عن حلول سلمية.
إن هذه العملية تتم وفق مسطرة مبسطة تيسر الوصول إلى التسوية بين الأطراف، حيث يتم إشراف القضاء على العملية لضمان سيرها بشكل قانوني وسليم، مع ضمان مراقبة مستمرة على تنفيذ اتفاقات الصلح. بهذا الشكل، يصبح الصلح الزجري وسيلة فعالة للحفاظ على النظام الاجتماعي، وتخفيف العبء عن المحاكم، وتقريب العدالة من المواطنين في بيئة تشجع على التفاهم والتعايش السلمي.
أولا – الجرائم المشمولة بالصلح :
يقتصر نطاق تطبيق آلية الصلح الزجري على جرائم محددة تم تحديدها على سبيل الحصر في القانون، حيث تتسم هذه الجرائم عادة بالبساطة وعدم المساس الجوهري بـ النظام العام، ويكون ضررها غالبًا مقتصرًا على الأطراف المعنية مباشرة. هذا يعني أن الجرائم التي يمكن أن تخضع للصلح الزجري هي تلك التي لا تؤثر بشكل كبير على المجتمع أو تشكل تهديدًا لأمنه، بل تقتصر على نزاعات بين الأفراد يمكن تسويتها بطرق سلمية. وفي هذا الإطار، يُعد رضا الأطراف المعنية أمرًا ضروريًا لتحقيق المصالحة، حيث يجب أن يتفق كل من الجاني والمجني عليه على حل النزاع بعيدًا عن التدخل القضائي المعقد، مما يسهم في تسوية الأمور بسرعة وفعالية.
كما يُمكن اللجوء إلى آلية الصلح الزجري في الحالات التي لا يوجد فيها مشتكٍ، أي في الجرائم التي لا يشكو فيها أحد من الأفراد المتضررين أو في حال التنازل عن الشكوى من قبل الضحية، مما يجعل من الصلح الزجري وسيلة مثالية لحسم النزاع دون الحاجة إلى المرور بإجراءات محاكمة تقليدية قد تكون طويلة ومكلفة. ومن هنا، فإن الصلح الزجري يشكل خطوة هامة نحو تحقيق العدالة التصالحية التي تركز على إعادة التوازن بين الأطراف وتعزيز العلاقات الاجتماعية.
وقد حددت المادة 41 من قانون المسطرة الجنائية الجرائم القابلة للصلح بشكل دقيق، حيث نصت على أن الصلح الزجري يمكن تطبيقه في :
– الجرائم التي يعاقب عليها بسنتين حبساً أو أقل.
– بغرامة لا يتجاوز حدها الأقصى خمسة آلاف درهم (5.000) درهم.
ثانيا – صور الصلح الزجري :
نصت مقتضيات المادة 41 من قانون المسطرة الجنائية على صورتين للصلح الزجري، هما:
1 – الصلح الاتفاقي :
الصلح الاتفاقي يتم بناءً على طلب يُقدمه المتضرر أو المشتكى به إلى وكيل الملك قبل إقامة الدعوى العمومية. ويهدف هذا الطلب إلى تضمين الصلح الحاصل بين الطرفين في محضر رسمي. يعتبر هذا النوع من الصلح وسيلة للتسوية الودية للنزاعات، حيث يسعى الطرفان إلى الوصول إلى اتفاق خارج نطاق المحكمة قبل البدء بالإجراءات القانونية. وبمجرد أن يتم التوصل إلى الصلح، يقوم وكيل الملك بتوثيق هذا الاتفاق في محضر رسمي، مما يمنح الاتفاق قوة قانونية.
يُعد هذا الصلح خطوة فعّالة لتسوية النزاع بسرعة وتفادي تعقيدات المحاكمة، ويعكس التوجه نحو تعزيز آليات العدالة البديلة لتخفيف الضغط على النظام القضائي وتحقيق حلول قائمة على التفاهم بين الأطراف المعنية
2 – الصلح المقترح :
الصلح المقترح هو آلية يمكن أن يلجأ إليها وكيل الملك في حال عدم حضور المتضرر أمامه، أو في حال عدم وجود مشتكٍ. في هذه الحالات، يقوم وكيل الملك بمراجعة وثائق الملف، وإذا تبين وجود تنازل مكتوب صادر عن المتضرر، أو في حالة عدم وجود شكاية أصلًا، يُعرض الصلح على المشتكى به أو المشتبه فيه.
يتمثل الصلح المقترح في أداء نصف الحد الأقصى للغرامة المقررة للجريمة المعنية أو في إصلاح الضرر الناتج عن الأفعال التي ارتكبها المشتكى به. ويهدف هذا النوع من الصلح إلى تسوية النزاع بشكل سريع وفعال، بما يسمح بإغلاق الملف أو إنهاء القضية دون الحاجة إلى متابعة الإجراءات القضائية المعقدة. يساهم هذا الحل في تخفيف العبء عن المحاكم وتحقيق العدالة بطرق أكثر مرونة، حيث يتم ضمان إصلاح الضرر بشكل عملي ومباشر بين الأطراف المعنية.
ثانيا – مسطرة الصلح الزجري :
تُفتح مسطرة الصلح الزجري إما بناءً على اقتراح من الأطراف (المتضرر والمشتكى به)، حيث يمكن للطرفين الاتفاق على تسوية النزاع بشكل ودي بعيدًا عن الإجراءات القضائية التقليدية، أو بناءً على اقتراح من وكيل الملك. في الحالة الثانية، يتدخل وكيل الملك لاقتراح الصلح الزجري إذا تبين له من خلال الملف أن النزاع يمكن حله بشكل ودي دون الحاجة إلى متابعة القضية أمام المحكمة.
1 – مسطرة الصلح الاتفاقي :
منحت الفقرة الأولى من المادة 41 من قانون المسطرة الجنائية حق المبادرة في طلب الصلح لأطراف النزاع، وذلك في الحالات التي تتعلق بجرائم يعاقب عليها بعقوبة لا تتجاوز سنتين حبسا أو بغرامة لا يتجاوز حدها الأقصى 5000 درهم. يمكن للأطراف المعنية، سواء كان ذلك المتضرر أو المشتكى به، التقدم بطلب إلى وكيل الملك لطلب تضمين الصلح الذي تم التوصل إليه بينهما في محضر رسمي. تهدف هذه الآلية إلى تسوية النزاعات بشكل سريع وفعال دون الحاجة إلى المرور بالإجراءات القضائية المعقدة
و حالة موافقة وكيل الملك وتراضي الطرفين على الصلح، يقوم وكيل الملك بتحرير محضر بحضور الطرفين ودفاعهما، ما لم يتنازل أحدهما أو كلاهما عن حضور الجلسة. يتضمن هذا المحضر تفاصيل الاتفاق الذي توصل إليه الطرفان، بالإضافة إلى ما يفيد إشعار الطرفين أو دفاعهما من طرف وكيل الملك بشأن تاريخ جلسة غرفة المشورة. بعد ذلك، يتم التوقيع على المحضر من قبل وكيل الملك والطرفين المعنيين، مما يضمن توثيق الاتفاق بشكل قانوني وفعّال.
بعد ذلك، يقوم وكيل الملك بإحالة المحضر إلى رئيس المحكمة الابتدائية ليقوم هو أو من ينوب عنه بالتصديق عليه في غرفة المشورة بموجب أمر قضائي لا يقبل أي طعن. يتم ذلك بحضور ممثل عن النيابة العامة والطرفين أو دفاعهما. يهدف هذا الإجراء إلى التأكد من قانونية الاتفاق ومدى توافقه مع أحكام القانون، وبمجرد التصديق عليه يصبح الصلح ملزمًا قانونًا.
يتضمن الأمر القضائي الصادر من رئيس المحكمة أو من ينوب عنه ما تم الاتفاق عليه بين الطرفين في محضر الصلح، وفي حال كان ذلك ضروريًا، يتضمن أيضًا ما يلي:
– أداء غرامة لا تتجاوز نصف الحد الأقصى للغرامة المقدرة قانونا للجريمة.
– تحديد أجل لتنفيذ الصلح.
2 – مسطرة الصلح المقترح :
يمكن لوكيل الملك بموجب الفقرة السادسة من المادة 41 من قانون المسطرة الجنائية أن يقترح على المشتكى به أو المشتبه به صلحًا يتمثل في أداء نصف الحد الأقصى للغرامة المقررة قانونًا للجريمة أو إصلاح الضرر الناتج عن أفعاله. يتم ذلك في حالتين:
– عدم حضور المتضرر أمامه، حيث يتبين من وثائق الملف وجود تنازل مكتوب صادر عن المتضرر.
– عدم وجود مشتكٍ، أي عندما لا يكون هناك شخص قدم شكوى ضد المشتكى به أو المشتبه فيه.
في حالة موافقة المشتكى به أو المشتبه به على الصلح المقترح، يقوم وكيل الملك بتحرير محضر يتضمن ما تم الاتفاق عليه بين الأطراف، بالإضافة إلى إشعار المعني بالأمر أو دفاعه بتاريخ جلسة المشورة. يتم توقيع المحضر من قبل وكيل الملك والطرف المعني
بعد ذلك، يُحال المحضر إلى رئيس المحكمة الابتدائية أو من ينوب عنه للتصديق عليه في غرفة المشورة بحضور جميع الأطراف. يتم إصدار أمر قضائي بتصديق الصلح، ويكون هذا الأمر غير قابل لأي طعن، مما يضمن تنفيذ الاتفاق بشكل قانوني وفعّال
رابعا – آثار الصلح الزجري :
يترتب عن مسطرة الصلح أو الأمر القضائي الصادر بشأنها وقف إقامة الدعوى العمومية، مع بقاء الحق لـ وكيل الملك في إقامتها من جديد في حال لم تكن الدعوى قد تقادمت. ومع ذلك، يتوقف هذا الحق في الحالات الآتية:
– في حالة عدم المصادقة على محضر الصلح من قبل رئيس المحكمة الابتدائية أو من ينوب عنه.
– عدم تنفيذ الالتزامات المصادق عليها من طرف المحكمة داخل الأجل المحدد في الأمر القضائي،
– في حالة ظهور عناصر جديدة تمس الدعوى العمومية بعد التوصل إلى محضر الصلح أو صدور الأمر القضائي المتعلق به.
تعتبر آلية الصلح الزجري من الأدوات الفعالة في مجال العدالة الجنائية، حيث تلعب دورًا مهمًا في تحقيق التسوية السريعة والفعالة للنزاعات، مما يعزز من تربية النفس على التسامح والتفاهم بين الأطراف المتنازعة. من خلال هذه الآلية، يتم الحد من السلوك الأناني الذي يدفع إلى الانتقام، وبالتالي يتم تعزيز ثقافة الحوار والتفاهم بدلاً من التصعيد والمواجهة.
إضافة إلى ذلك، يسهم الصلح الزجري في تخفيف العبء عن المحاكم، مما يسمح بتسريع إجراءات التقاضي والحد من تراكم القضايا، مما يعود بالفائدة على النظام القضائي ككل. كما يوفر الصلح الزجري بديلاً للمعاقبة التقليدية، مما يعزز من إصلاح الضرر بشكل فعال وبطريقة تعود بالنفع على جميع الأطراف المعنية، سواء كانت المجتمع أو الأطراف المتنازعة.
Share this content: